كيف نحب الله؟5
بتأمل سير القديسين الذين أحبوه
بقلم- قداسة البابا شنودة
إذا تأملت حياة القديسين الذين أحبوا الله,لابد ستحبه مثلهم.وبخاصة إذا تأملت الدالة العجيبة التي كانت بينهم وبين الله,وكيف منحهم الرب مكانة سامية,واعتبرهم كأصدقاء الله,يأتمنهم حتي علي أسراره.
سير القديسين ترفع القاريء إلي مستوي روحي عال..
مستوي أعلي من المادة ومن العالم,وأسمي من الجسد ومن الخطية...فتطرح العالم خارج القلب,لكي يسكن الله فيه.وهي غذاء روحي للنفس,كما قال مار إسحقشهية هي أخبار القديسين,مثل المياه للفردوس الجديد.
تؤثر سير القديسين في النفس,وتدعو إلي التمثل بهم.
أن سيرة القديس الأنبا أنطونيوس التي كتبها القديس أثناسيوس لأهل رومة,تركت تأثيرا عميقا جدا,لدرجة أن كثيرين زهدوا العالم,وأحبوا أن يعيشوا في حياة الوحدة مع الله.بل أن هذه السيرة كان لها تأثير عجيب جدا في حياة أوغسطينوس,إذ قادته إلي التوبة والزهد,وحولته إلي قديس عظيم,أحب الله جدا,وظهرت هذه المحبة في تأملاته التي تناقلها جيل بعد جيل.
كذلك فإن سير قديسي البرية التي كتبها السائحون الذين زاروا رهبان مصر في القرن الرابع وبداية الخامس,ما أعظم الذي تركته في النفوس,حتي قادت عشرات الآلاف إلي حياة الرهبنة,متفرغين لمناجاة الله في صلواتهم حيث عاشوا في البرية,بلا أنيس ,بلا معز,تكفيهم متعتهم الروحية بعشرة الله ومحبته.
تأملوا أيضا ماقيل عن القديسين:العالم لم يكن مستحقا لهمعب11:38.
قيل إن الأرض لم تكن مستحقة أن يدوسوها بأقدامهم.ومن أجل صلواتهم كان الله ينزل المطر علي الأرض...
كانوا صورة لله علي الأرض,أو أنهم عادوا إلي الصورة الإلهية التي خلق بها الإنسان الأول.فكان كل من يراهم,يحب أن يبقي معهم,لكي يتمتع بنفوسهم الشفافة التي تظهر حياة الله داخلهم غل2:20.
هؤلاء القديسون وهبهم الله عيونا مفتوحة تري مالا يري.
كما طوب السيد المسيح تلاميذه قائلاطوبي لعيونكم لأنها تبصرمت13:16.وهكذا كان إليشع النبي يري مالا يستطيع تلميذه أن يراه.وهكذا صلي لكي يفتح الرب عيني ذلك الغلام لكي يري 2مل6:17..فرأي قوات الرب محيطة بالمدينة لتنقذها.
حقا ما أعجب عيني يوحنا الحبيب اللتين رأتا كل ما سجله في سفر الرؤيا.
ما أجمل قولهنظرت وإذا باب مفتوح في السماءرؤ4:1ثم يقول وللوقت صرت في الروح وإذا عرش موضوع في السماء وعلي العرش جالس...ثم شرح ما رآه من القوات السمائية,وعلاقتها بالله,وتسبيحها,ومنظرها,وكرامتها...
وماذا نقول أيضا عن بولس الرسول,وصعوده إلي السماء الثالثة,حيث سمع أمورا لاينطق بها 2كو12:4,2.
وماذا عن الرؤي التي رآها قديسو الله عبر العصور,سواء ما سجلها الكتاب مثل رؤي دانيال وحزقيال,أو ما وردت في تاريخ الكنيسة وهي لاتدخل تحت حصر,يعلن بها الرب إرادته لمحبيه,ويكشف لهم عن أمور مستقبلة,ويقويهم بها ويعزيهم...اسأل عن ذلك أيها القاريء العزيز:القديس الأنبا أنطونيوس,والقديس الأنبا بيشوي,والقديس بولس البسيط,وغيرهم كثير...
حينما تقرأ عن كل هذا,ألا تشتاق أن يعلن لك الله مثلهم؟وكيف يعلن لك إن لم تحبه وتحيا في نقاوة القلب.وحينئذ لاتري فقط رؤي,أنما كما يقول الرب في التطويبات:
طوبي للأنقياء القلب,لأنهم يعاينون اللهمت5:8.
يعاينون الله...؟!هذا مجد عظيم يارب لانستحقه..ليتك إذن تمنحنا نقاوة القلب هذه,مثلما منحتها لمحبيك...
يوحنا الحبيب أبصر الرب في شيء من مجده والأنبا بيشوي رآه وغسل قدميه.وكثيرون رأوه في رؤي أو في أحلام,وسمعوا صوته...ولا أريد هنا أن أتحدث عن قديسي العهد القديم الذين رأوه,وسلمهم رسائل ورسالات ليبلغوها للناس...
هؤلاء القديسون كانت لهم دالة عند الله...
اعتبرهم الله أصدقاء له.يكشف لهم خططه ومشيئته,ويأخذ رأيهم ,ويسمح لهم أن يناقشوه فيما يقول...
كما حدث مع أبينا إبراهيم قبل حرق سادوم إذ قال اللههل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟!تك18:17.وكشف له الرب الأمر.ودخل إبراهيم في حوار معه.بل أن إبراهيم في دالته مع الرب قال لهأفتهلك البار مع الأثيم؟!...حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر,أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار مع الأثيم !حاشا لك.أديان كل الأرض لايصنع عدلا..وظل في حوار مع الله,حتي قال الله له إن وجد في المدينة عشرة من الأبرار لا أهلك من أجل العشرةتك18:23-32.
وبالمثل حدث مع موسي النبي,لما أراد الرب إهلاك الشعب بعد عبادتهم للعجل الذهبي...
لم يشأ الرب أن يفعل ذلك دون أن يخبر عبده موسي أولا.فقال الرب لموسي رأيت هذا الشعب,وإذا هو شعب صلب الرقبة,فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم..خر23:9.ولكن موسي لم يتركه يفعل هكذا .بل قال له في دالة لماذا يارب يحمي غضبك علي شعبك...ارجع يارب عن حمو غضبك,اندم علي الشر بشعبك .اذكر إبراهيم وإسحق وإسرائيل الذين حلفت لهم...ويسمع الرب لكلام موسي,ويقول الكتابفندم الرب علي الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه...خر32:14.
إن قرأت كل هذا,ألا يتأثر قلبك بهذه الدالة,وتحب أن يكون لك شيء منها في محبة متبادلة بينك وبين الله؟!
علي أن هؤلاء القديسين كانت لهم دالة مع الله ومكانة عنده ,حتي بعد وفاتهم....
فنري أن الله لم يعاقب سليمان في حياته,وأبقي العقوبة إلي أيام ابنه رحبعام.وقال تعليلا لذلكمن أجل داود عبدي1مل11:13.وظل الرب يحتفظ بهذه المكانة لعبده داود ,حتي أن المرتل يقول للرب في المزمورمن أجل داود عبدك,لاترد وجهك عن مسيحكاذكر يارب داود وكل دعتهمر13.
بل أكثر من هذا ,تسمي الرب بأسماء أحبائه...فقال لموسي لما ظهر له في العليقةأنا..إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوبخر3:6.
واستخدم الرب هذه الآية في الرد علي الصدوقيين من جهة القيامةمت22:32.
ومن جهة الشريعة-مع أنها شريعة الله-إلا إنه ينسبها لموسي.فيقولاذكروا شريعة موسي عبدي التي أمرته بها في حوريبملا 4:4.
ويقال عن العذراءولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسي...لو2:22.وتتكرر عبارة شريعة موسي مرارا,كما في1مل2:3نح8:1دا9:11.وكذلك أيضا عبارة ناموس موسييو7:23أع13:39أع15:5عب10:28وبالمثل أسفار الكتاب تسمت أيضا بأسماء محبيه.كما نقرأ سفر صموئيل, نحميا,وسفر أستير... كل هذه الكرامة التي يمنحها الرب لأولاده,ألا تؤثر فيك لكي تحيا معه,وتنال بركته؟
أولاده أيضا منحهم مفاتيح السموات والأرض مت16:19...
ما يربطونه علي الأرض يكون مربوطا في السماء وما يحلونه علي الأرض يكون محلولا في السماءمت18:18ويقول لهممن غفرتم خطاياه غفرت له.ومن أمسكتموها عليه أمسكتيو20:23أي سلطان هذا؟!وهكذا أيضا في العطايا وفي صنع المعجزات.بل قال لهم عبارة عجيبة مذهلة وهي:من يؤمن بي,فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضا,ويعمل أعظم منهايو14:12...
إلي هذه الدرجة يارب؟من ذا الذي لايحبك؟!
لقد استأمن الرب أولاده علي مخازنه...
يعطون منها كما يشاءون وتوافق مشيئتهم مشيئته.
ما أجمل قول الرب عن موسي النبيوأما عبدي موسي...فهو أمين علي كل بيتي.فما إلي فم وعيانا أتكلم معه...وشبه الرب يعاينعد 12:8,7...بل ما أعجب قوله لذلك الابن يا ابني,أنت معي في كل حين.وكل مالي فهو لكلو15:31!!بل يقول الرب عن تلاميذه لله الآبوأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني..يو17:22.
إنني أقف في حيرةومبهوتا أمام هذه العبارات الثلاث,أغوص في أعماقها لعلي أفهمها كما ينبغي...
أمين علي كل بيتيكل مالي فهو لك...أعطيتهم المجد الذي أعطيتني.
حقا ما أعمق محبة الله الفائقة الوصف !وما أعجب كرمه وجوده حينما يعطي!ليس فقط لبنيه ولتلاميذه بل حتي لذلك الابن الذي كان في موقف جحودلو15ألا نحبه من أعماقنا,وهو بهذا الحب والجود؟!
فلنتأمل سير أولئك القديسين,ونري كيف أحبوه...
من أجله فضل دانيال أن يلقي في جب الأسود,عن أن ينكره.وبهذا دخل في اختبار عجيب قال فيه إلهي أرسل ملاكه,فسد أفواه الأسوددا6:22.
والثلاثة فتية,من أجله فضلوا أن يلقوا في أتون النار الملتهبة عن أن ينكروه,فتمتعوا بأمرين عجيبين جدا:ابن الله يسير معهم وسط النار,والنار لم تؤذهم بشيء,وشعرة من رؤوسهم لم تحترقدا3:24-28.وأبونا إبراهيم,من أجل إيمانه بالرب وطاعته له,رفع يده بالسكين ليقدم ابنه وحيده محرقة للرب,لأن محبته للرب كانت أعمق بملا يقاس من محبة الابن الوحيد.لذلك تمتع ببركة الرب,وبأن نسله كنجوم السماء ورمل البحر في الكثرة ,ويتبارك في نسله جميع أمم الأرضتك22:16-18.
ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن قصص الشهداء والمعترفين والكارزين وكل محبي الرب ,وبركة الرب لهم,وما وهبهم من معجزات وظهورات وشفاعات سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم..
وجميل أن نتذكر هنا كيف انتقل كثير من هؤلاء القديسين من عالمنا الفاني,وما كان بعد ذلك...
لنترك إلي حين قصة صعود إيليا إلي السماء2مل:11وقصة أخنوخ وكيف أخذه الرب إليهتك5:24,وقصة نياحة السيدة العذراء مريم وصعود جسدها .فهذه كلها حالات نادرة جدا لمستويات عالية.ولنستمع إلي قول الكتابلتمت نفسي موت الأبرار,ولتكن آخرتي كآخرتهمعد23:10..ولننظر:
روح الأنبا آمون,وكيف رآها القديس أنطونيوس,والملائكة تحملها في تهليل... ولنقرأ عن القديس الأنبا كاراس السائح ,وكيف حضر قديسون لاستقبال روحه.وأنشد له داود مزمور أرجعي يا نفسي إلي موضع راحتك,فإن الرب قد أحسن إليمز114...كذلك القديس أسطفانوس أول الشمامسة كيف في وقت استشهاده رأي السموات مفتوحة,وابن الإنسان قائما عن يمين الله أع 7: 55, 56 وكان وجهه كأنه وجه ملاكأع6:15.
وماذا عن الذين فارقوا العالم في أيامنا.وكأن الحجرة وقت وفاتهم,وقد أضاء فيها نور,واشتم الناس رائحة بخور....أو الذين كانوا يرون رؤي معزية وقت انتقالهم.ويرقدون والابتسامة علي وجوههم,والفرح في قلوبهم.
كل أولئك أحبوا الله,فجعل ساعة وفاتهم ساعة فرح...
وبعضهم أخبره الرب بوقت انتقاله ومن أمثلة ذلك بعض الآباء السواح كما في قصة أبا نفر,والقديس سيداروس المتوحد وآخرين.كذلك قصة القديسة مريم القبطية.
وما أكثر الذين ظهروا بعد وفاتهم لآخرين...
مثل القديس أغناطيوس الأنطاكي الشهيد الذي بعد أن ألقوه للأسود الجائعة فافترسوه,ظهر لزملائه في السجن المؤمنين وعزاهم وشجعهم...وظهورات القديسين لا تدخل تحت حصر...
والبعض كانت تحدث معجزات أثناء تعذيبهم أو استشهادهم مما يجعل غير المؤمنين يؤمنون ,كما في قصة مار جرجس.أو تفشل الطرق التي أرادوا قتلهم بها,مثلما حدث مع القديس يوحنا الحبيب,والقديس بوليكربوس,والسم الذي أعدوه لمارجرجس ..
أيضا تأملنا في صفات القديسين الجميلة,تجعلنا نحبهم,ونحب صفاتهم,ونحب الله الساكن فيهم...
ألست تري معي أن الموضوع طويل إن استرسلنا في الحديث.لذلك أعتبر ما ذكرته مجرد مثال,وأترك الباقي لتأملك الخاص...وإلي لقاء إن أحبت نعمة الرب وعشنا...