منتديات ابن الراعى

بولس                                      Urlhtt10


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات ابن الراعى

بولس                                      Urlhtt10

منتديات ابن الراعى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    بولس

    ابن الانبا توماس
    ابن الانبا توماس
    مشرف
    مشرف


    عدد المساهمات : 374
    نقاط : 51143
    تاريخ التسجيل : 09/03/2011
    الموقع : منتديات ابن الراعى

    جديد بولس

    مُساهمة من طرف ابن الانبا توماس الخميس 17 مارس 2011 - 2:06



    " فقال وهو مرتعد ومتحير يارب ماذا تريد أن أفعل "

    ( أع 9 : 6 )



    مقدمة

    لعل أجمل ما نقدم به الرسول بولس أن نجترئ بعض عبارات كتبها عنه ثلاثة من أعلام رجال اللاهوت فى العصر الحديث فدكتور فيليب تشاف فى كتابه عن تاريخ الكنيسة المسيحية يقول عن بولس : « لا يعد تجديد بولس نقطة تحول فى تاريخه الشخصى فحسب بل مرحلة هامة فى تاريخ الكنيسة الرسولية ، وبالتالى فى تاريخ الإنسانية جمعاء ، فهو أعظم ما تم بعد معجزة يوم الخمسين ، فقد أتى بالنصر المسكوني للمسيحية كلها ، فتغيير أقسى أعدائها ومضطهد يها إلى أقوى خدامها الناجحين لا يمكن أن يكون إلا معجزة النعمة الإلهية !! .. » ودكتور ادولف ديسمان الذى كان أستاذاً وعالما من أبرع علماء العهد الجديد كتب فى الصفحة الأولى من مجلده العظيم عن بولس : « يقف المسيح فى التاريخ منفرداً !! .. ولكن بمقارنة بولس بالآخرين ، يظهر حينئذ - روحياً - القوة العظمى للعصر الرسولى ، فهو لم يتعب فقط أكثر من الجميع ، بل ترك أثراً أكثر منهم كلهم ، ... وفى عصر نيرون ، ليست هناك شخصية تركت أثراً رئيسياً بارزاً فى نفوس الناس كشخصية بولس الإنسان الجديد ، ... وبروفسور رامسى الذى يعد من أعظم من تناولوا حياة الرسول ، كتب يقول : « يعد بولس من نواح كثيرة أقدر وأعظم وأنبغ العقول ، وأحزم المبدعين ، وأنشط المؤسسين والمدبرين ، وأبرز وأقوى الشخصيات وبالنسبة للقرن الأول ، يعد هذا الرسول - باستثناء السيد المسيح - أعظم قوة كيفت مستقبل الامبراطورية، وإذا لم يكن بين أبطال الامبراطورية من البناة والحكام من ضارع سينكا ذاته ، فإن سينكا لا يستطيع أن يدانى هذا الرسول فى قوته وتأثيره وألمعيته ونفوذه الأبدى » !! ..

    ولا يمكن أن ننسى إلى جانب هؤلاء الأعلام اللاهوتيين ما قاله ف . ب . ماير : إن الامبراطورية الرومانية احتاجت إلى سبعة قرون كى تبنى مجدها العتيد ، ومع ذلك فإن بولس جددها وجعلها تنحنى عند أقدام المسيح فى ربع قرن من الزمان !! ... وقد أطلق عليه دكتور هربرت لوكاير فى كتابه : « كل الرسل فى الكتاب » : الرسول غير العادى !! .. ويعتقد البعض أنه ولد فى عام 4 م ، وأنه تجدد فى أواخر عام 36 أو أوائل عام 37 م ، وبدأ نشاطه الرسولى عام 47 م وقام برحلته التبشيرية الأولى فيما بين عامى 47 - 49 م والثانية فيما بين 50 - 52 م والثالثة فيما بين 53 - 57 م وأنه سجن فى قيصرية عامى 61 ، 62 م وأطلق سراحه ثم سجن ثانية عام 66 م واستشهد عام 67 م ، ويهمنا فى المقام الأول ، لا أن نناقش رحلاته وأعماله ، بل أن نتأمل ونغوص فى أعماقه وحياته لعلنا نتعرف على شخصيته الجبارة العظيمة !! ..

    بولس الإناء المختار

    كان بولس كرجل لاهوتى يؤمن بالاختيار المطلق الإلهى ، وقد كان من أشد الواثقين المتعصبين له ، وإذا قيل بأن أوغسطينوس تابعه فى ذلك ، وكان من أهم الأسباب عند هذا الأخير ، هو أن اللّه جاء به وهو موغل فى الخطية ، وحسب المنطق البشرى ، كان لا يرغب بتاتاً فى المجئ إلى اللّه ، وكان يفزع كلما رأى أمه القديسة تصلى من أجله سنوات عديدة ، لئلا يستمع اللّه إلى صلواتها ، فيستجيب لها ، ويخرج هو من الحياة العالمية البهيمية التى كان يتلذذ بها ويرتع فيها .. كان بولس قد أوغل هو أيضاً فى الاضطهاد والتجديف والافتراء وهو ما عاش يذكره طوال حياته ، ومع ذلك جاء به ، إذ سمع أول ما سمع شهادة اللّه لحنانيا : « لأن هذا لى إناء مختار » ( أع 9 : 15 ) ... وقول حنانيا له : « إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه » ( أع 22 : 14 ) ... ولا شبهة فى أن الصورة التى تحدث فيها عن الفارق بين عيسو ويعقوب : « لأنهما وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكى يثبت قصد اللّه حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذى يدعو ... فماذا نقول ألعل عند اللّه ظلماً . حاشا. لأنه يقول لموسى إنى أرحم من أرحم وأتراءف على من أتراءف . فإذاً ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل اللّه الذى يرحم ، لأنه يقول الكتاب لفرعون إنى لهذا بعينه أقمتك لكى أظهر فيك قوتى ولكى ينادى باسمى فى كل الأرض . فإذاً هو يرحم من يشاء ويقسى من يشاء . فستقول لى لماذا يلوم بعد . لأن من يقاوم مشيئته . بل من أنت أيها الإنسان الذى تجاوب اللّه . ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتنى هكذا . أم ليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان» ( رو 9 : 11 - 21 ) .. هذه الصورة كانت ماثلة أمام عينيه ، سواء تحدثت عن الفارق بين عيسو ويعقوب ، أو موسى وفرعون ، .. أو كانت تتحدث عنه هو عندما اختاره اللّه إناء للكرامة ، .. ومن ثم نجده يقول فى رسالته إلى غلاطية : « ولكن لما سر اللّه الذى أفرزنى من بطن أمى ودعانى بنعمته » ( غل 1 : 15 ) .. وهذا واضح تماماً فى سائر كتاباته ورسائله ، ويكفى أن نشير هنا إلى ما كتبه للأفسسيين : « مبارك اللّه أبو ربنا يسوع المسيح الذى باركنا بكل بركة روحية فى السماويات فى المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة » ( أف 1 : 4 و 5 ) .. « لأننا نحن عمله مخلوقين فى المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق اللّه فأعدها لكى نسلك فيها » ( أف 2 : 10 ) .. والكلمة عمله تترجم « مجده » أو « شعره » وتعنى الصورة الرائعة أو القصيدة الشعرية التى يبدعها اللّه فى حياتنا ، التى تتحول منظومة رائعة بين يديه ، .. وهو لا يترك هنا مجالا للصدفة أو العارض أو ما أشبه من الأمور أن تحكم حياتنا ، فإذا كان اللّه قد اختار بولس منذ الأزل ، وأفرزه وهو فــى بطن أمه ، .. فلنا أن نتبين كـيف أعــده وهو لا يدرى للعمل العظيم الذى كان عليه أن يقوم به ، كما قال اللّه لكورش : « نطقتك وأنت لم تعرفنى » ( إش 45 : 5).. وهى الآية التى اتخذ منها هوراس بوشنل موضوعاً لعظته العظيمة بعنوان : « حياة كل إنسان مشروع إلهى » .. وبقليل من التقصى نرى العناصر الثلاثة العظيمة التى دخلت فى حياة هذا الرسول من بطن أمه ، وهى الأصالة اليهودية ، والرعوية الرومانية ، والبلاغة اليونانية ، ... لقد ولد فى طرسوس عاصمة مقاطعة كيليكية ، وتقع إلى الشمال الشرقى من طرف البحر الأبيض المتوسط ، وإلى الجنوب من آسيا الصغرى وكانت بها جامعة من أشهر الجامعات فى ذلك الحين ، إذ كانت تقف على قدم المساواة مع جامعتى أثينا والإسكندرية ، وكانت تعتبر ممراً للغادين والرائحين من التجار والسياح بين الشرق والغرب ، وكانت بجمالها وعظمتها وحضارتها شيئاً يختلف تماماً عن الجليل ، واليهودية ، ويعطى الرسول بولس ميزة ربما لم تتوافر فى واحد من جميع الرسل الذين عاشوا مع المسيح !! .. ومن الثابت أن بولس نشأ نشأة دينية متعمقة ، إذ كان أبوه من أشد الفريسيين المتمسكين بتقاليد الأباء ، .. وكانت عادة اليهود المدققين أن يبدأوا تعليم أولادهم فى الرابعة من العمر ، فى بيوتهم ، ثم يرسلونهم إلى المجمع حتى الثالثة عشر ، وهناك يتعلمون تاريخ آبائهم والتقاليد اليهودية ، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأمه ، وربما ماتت أمه وهو صغير ، وكان له أخت متزوجة فى أورشليم ، وأغلب الظن أنه سكن عندها ، عندما ذهب إلى أورشليم ليتعلم وليكون واحداً من الربيين بعد أن جلس عند قدمى غمالائيل ، الذى كان واحداً من المعلمين الذين عرفهم التاريخ اليهودى ، وقد تحدثنا عنه فى مناسبته الخاصة ، وكان فى وقت من الأوقات رئيساً للسنهدريم وكان حجة فى تفسير الكتاب ، وكان مذهبه متسعاً بعيداً عن الحرفية القاتلة ، وراء جده هليل ، على العكس من شمعى الذى كان يحرم على أتباعه مجرد تحية الوثنيين فى الأعياد ، ... وقد تقدم على الكثيرين من أترابه لا فى المعرفة الدينية فقط بل فى التمسك بغيرة بتقليد آبائه ، ... وقد وصفه روفس جونس فى كتابه « بولس البطل » وهو يكشف عن البطولة فى هذه السن المبكرة ، فإذا هو العبقرى المبرز فى وسط جميع تلاميذ غمالائيل ، وقال البعض ، إن هذا الولد سيكون مثل معلمه ، وقال آخرون بل سيتفوق عليه ، إذ لم يعرف له ضريب ، فى الصبر الدءوب على الدرس ، ولا يمكن أن يقف أمام صعوبة فكرية أو معضلة تستعصى على جميع أقرانه ، إلا ووجد لها حلاً ... كتب جيمس مالفيل يصف دافيد أليستون ، وهو يدرس مع مجموعة تبلغ ستة وثلاثين عالماً المنطق لأرسطو ، وغيره من كتب الفلسفة والعلم : « إن هذا الشاب كان يتفوق عليهم جميعاً ، ويحلق فى سماء العلم كالنسر وكنا جميعاً كفراخ العصافير بالنسبة له . وكان بولس فى مدرسة غمالائيل دافيد أليستون بالنسبة لجميع الذين يتعلمون معه ... إن اللّه لم يخترنى ويخترك فى ترتيبه الأزلى لنكتب رسالة رومية أو أفسس ، لكننا يمكن أن نفعل الشئ العظيم التالى إذا استطعنا أن نتفقه ونتعلم ونصل إلى الأعماق فى رسائل بولس ، وننادى ونبشر بها للناس ، .. ابذل كل جهد وادرس وإن أمكن بع ثوبك - إن لم يكن فى يدك مال - واشتر تفسير كلفن عن رومية ، ولوثر عن غلاطية ، وجدوين عن أفسس ، ودافيننت عن كولوسى ، وهوكر عن التبرير ، ومارشل عن « سرالتقديس فى الإنجيل » فإنك ستعطى إكليلا عظيما فى اليوم الأخير عن الأوقات الثمينة التى صرفتها فى مثل هذه الدراسات » ، ... قال بولس لتلميذه العزيز : لاحظ نفسك والتعليم » ( 1 تى 4 : 16 ) .. ولم يفقد بولس حبه للكتب حتى الموت كما يقول كلفن ، ولعلنا نلاحظ ما قاله توماس بوسطن عن اختباره : « كلما ثابرت على دراسة كتبى كلما أحسست أن قلبى ينبض بصورة أفضل . ولكن من العجيب أن بولس رغم هذه الدراسة الجبارة عند رجلى غمالائيل ، .. كان أعمى ، وقد قاده عماه إلى أن يأخذ طريقه العنيف ضد المسيحية التى أحبها وهام بها فيما بعد ، لقد كان مدققاً وبلا لوم فى حفظ الناموس ، ومع ذلك لم يتبين أنه كان مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ، .. كان بولس يحتاج إلى ثلاث سنوات فى العربية ليعيد التأمل فى كل شئ ، بعد أن سقطت القشور عن عينيه ، كانت الرسالة المكلف بها : « لفتح عيونهم كى يرجعوا من ظلمات إلى نور » ( أع 26 : 18 ) .. وكان هو أول الجميع يحتاج إلى العين المفتوحة ليقرأ القراءة الصحيحة لحياته وحياة الآخرين ، ولعل هذا هو ما جعله يكتب : « لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء . أين الحكيم . أين الكاتب . أين مباحث هذا الدهر . ألم يجهل اللّه حكمة هذا العالم . لأنه إذ كان العالم فى حكمة اللّه لم يعرف اللّه بالحكمة استحسن اللّه أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة » ( 1 كو 1 : 19 - 21 ) .

    كان بولس رغم جبروته العلمى ، أحمق الحمقى وأجهل الجاهلين ، حتى قضى فى العربية ثلاث سنوات يعيد الدراسة ويجد المعرفة ، ويدرك كلمة اللّه فى النور الصحيح ، وخرج على العالم والتاريخ والأجيال ، بالروائع الإلهية ، رسائل بولس الخالدة إلى الأبد !! .. إن أعظم فلاسفة الدنيا الذين حيروا الذهن البشرى بالفلسفات القديمة والحديثة ، كل منهم للأسف هو بولس - قبل العربية ، « إلى أن يفتقد اللّه الواحد منهم ليرى النور الصحيح ويقول : « كنت أعمى والآن أبصر » (يو 9 : 25 )

    كان بولس إلى جانب الأصالة اليهودية لا ينسى أنه يحمل الرعوية الرومانية التى ولد فيها ، فهو إذاً من سلالة الوجهاء اليهود الذين ربما دفعوا مبالغ طائلة حتى حصلوا على هذه الجنسية أو ربما أدوا عملا لخدمة الإمبراطورية ، فاستوجبوا لهذا السبب أو ذلك شرف الانتماء إلى هذه الرعوية ، والتى كانت مغنما فى الحياة والموت ، فلا يجوز جلد رومانى أو الحكم عليه بالموت صلباً ، وقد استعمل بولس هذا الحق ، فهو إذاً لم يكن من الرعاع ، .. وقد اتسع أفقه بهذه الرعوية حتى تفهم الأوضاع الجارية فى عصره ، وكان إخلاصه للدولة صادقاً فهو الذى كتب تلك الأقوال العظيمة عن حقوق السلطة المدنية ، والدعوة إلى الصلاة لأجل الملوك وجميع الذين فى منصب ، كان اسمه العبرى شاول أي « المسموع » .. أى الذى جاء نتيجة الصلاة ، أما اسمه « بولس » فليس من المؤكد معرفة ما إذا كان قد أعطى له من الابتداء ومعناه « صغير» أو أعطى له بعد أن تعمد على يديه سرجيوس بولس أو عظيم غيره اهتدى بواسطته . يعتقد البعض أن بولس كان قصير القامة ، وأنه ربما سمى بالصغير نتيجة لذلك ولكن الواضح أنه رغم أنه عملاق الأجيال إلا أنه كان يحس أنه صغير تجاه اللّه والرسالة العظيمة التى وضعت عليه!!.. على أية حال ، إن بولس يعلمنا أنه يلزم استعمال الحق كلما كان ذلك مناسباً وهاماً ، كما استعمل هو حقه الرومانى مرات متعددة !! .. وقد أضاف بولس إلى الأصالة اليهودية ، والرعوية الرومانية ، الثقافة اليونانية . كان بولس من أبلغ المقتدرين فى الكلام والكتابة باللغة اليونانية ، .. وكانت طرسوس ميداناً واسعاً للدراسات اليونانية ، كان عند أبوابها تمثال جبار كتب أسفله : « كل واشرب وتمتع بالحياة ، فكل ما غير ذلك لا قيمة له » ... وعرف بولس هذا وندد به وهو يقول : « إن كان الأموات لا يقومون فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت » ( 1 كو 15: 32 ) .. وقد ظهر فى كتابات بولس اطلاعه الواسع على الحضارة اليونانية كالسباق ، وأكاليل الفوز ، ومواكب الظفر ، ومصارعات الوحوش ، والعادات المختلفة ، مما يشير إلى إدراكه للفلسفة اليونانية واستيعابه لكل ما هو طيب فيها ، ورفض مالا يتفق مع سمو الحياة والأخلاق المسيحية وهو القائل : « امتحنوا كل شئ . تمسكوا بالحسن » ( 1 تس 5 : 21 ) !! .

    بولس والولادة الجديدة

    خرج بولس من أورشليم إلى دمشق والمسافة تقطعها الخيل فى ستة أيام ، وإذ اقترب من ختام رحلته عند بقعة يدعوها التقليد الصالحية ، جاءه المسيح ، ومس قلبه ، وأحدث التغيير الهائل الكامل فى قلبه ، وهو ما نطلق عليه الولادة الجديدة !! .. ولعل دراسة حياة بولس لا يمكن أن تفهم على الإطلاق ، دون إدراك هذا التغيير العميق العجيب الذى حدث فى حياته !! فكيف تم ؟!، إننا عندما نحلله بتأمل وعمق من واقع أقوال بولس وإحساسه ، يمكن أن نخرج بعدة حقائق أساسية ، ... ولعل أولها : اكتشاف بولس الصحيح للخطية ، قبل أن يلتقى بالمسيح ، ويعيش معه، ويدرك الحقيقة بعينى مخلصه ، .. كان يرى نفسه بلا لوم فى الناموس ، وهو إذا قورن بغيره سيتفوق فى حياة البر والصلاح ، وقد لا يوجد له نظير ، لكنه عندما عرف السيد صاح : « صادقة هى الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا . لكننى لهذا رحمت ليظهر يسوع المسيح فىَّ أنا أولا كل أناة مثالا للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية » ( 1 تى 1 : 15 ، 16 ) .. ومن العجيب أن الإنسان كلما نما فى حياة القداسة ومعرفة الرب ، كلما أدرك حقيقة الخطية وبشاعتها فى الأرض ، .. قال صموئيل رزرفورد : « كلما تأملت حالتى الخاطئة كلما أدركت أن خلاصى هو معجزة مخلصى الكبرى . إنه لم يفعل شيئاً فى السماء أو على الأرض مثل خلاصى !! .. » وروى يوحنا بنيان قصة حياته تحت عنوان « النعمة المتفاضلة ليوحنا بنيان أول الخطاة . هلم واسمعوا فأخبركم ياكل الخائفين اللّه بما صنع لنفسى » ... قالت القديسة تريزا فى ضجعة الموت : « لا تتخذونى مثالاً فقد كنت اعظم امرأة خاطئة فى العالم » .. ثم صاحت متضرعة إلى اللّه : « القلب المنكسر والمنسحق يا اللّه لا تحتقره » .. وقال لوثر : إن إنساناً مثلى عندما يتبين ضربة قلبه ، فإنه لا يكون بائساً فحسب ، بل هو البؤس بعينه » .. وبكى الأسقف أندروز وهو يقول : « إنى معجون بالخطية»... وقال يوناثان إدوارد « إذا تعامل اللّه معى حسب خطاياى ، فمثواى الجحيم » ... كان من المستحيل على هؤلاء القديسين قبل اللقاء مع المسيح ، اكتشاف خطاياهم بهذه البشاعة وهذه الصورة المفزعة ، ولكن الحياة التى هربت من الظلام ، وتطهرت من الخطية ، لا يمكن أن تنظر إلى ماضيها أو إلى صراعها مع الخطية دون أن يصدر عنها هذا التوجع والأنين !! .. لقد اقتنع بولس بعمق الخطية ، والهوة التى أخرجه منها السيد . كما أدرك بولس الحقيقة الثانية : وهى التغيير المفاجئ الذى حدث له لحظة لقائه بيسوع المسيح ، ... ومن اللازم أن نبين أن هذه اللحظة الحاسمة ، كانت أشبه ببرميل من البارود ينتظر الفتيلة المشتعلة ، حتى ينفجر فى توهج وينسف معه شر الماضى كله ، ... وإذا صح ما يقوله أوغسطينوس إن تجديد بولس يرجع إلى حد كبير إلى منظر استفانوس وهو يرجم الذى لم يبرح مخيلته ، أدركنا معنى القول إنه « يرفس مناخس » ، إذ كان يعانى صراعاً نفسياً قاسياً ، وكان « ينفث تهدداً وقتلاً ، كما ينفث المرجل من شدة الغليان . .» .....

    على أبواب دمشق بلغ ذروة الصراع ، كان يركض بحصانه وهو يقترب من المدينة ، ولم يكن يدرى أن هناك من يركض وراءه وقد عبر عن ذلك تعبيراً دقيقاً : « أدركنى أيضاً المسيح يسوع » ( فى 3 : 12 ) ... والتجديد فى الحقيقة هو سعى المسيح وراء كل نفس بشرية ، حتى يمسك بها ، ويوجه مسارها ، وللسيد فى ذلك أساليب لا تنتهى .. قال الكتاب : « فبغتة أبرق حوله نور من السماء » ( أع 9 : 3 ) .. لقد ظهر له المسيح فى نور أبهى من الشمس وقد رأى الذين معه النور ، ولكنهم لم يروا شخص المسيح ، وسمعوا الصوت ، ولكنهم لم يعرفوا الكلام على أن السيد تكلم بالعبرانية ، ولو لم يتكلم لبدا ما حدث مبهما لا يقود إلى معرفة ، والسيد لم يتكلم فحسب ، بل أكثر من ذلك تحدث حديثاً خاصاً موجهاً إلى شاول بالذات إذ نادى « شاول » باسمه مرتين حتى لا يحدث لبس أو إبهام . وكم كان الحديث قوياً ودقيقاً ورقيقاً ورهيباً معاً ، فلم يصعقه ، وإن كان قد أسقطه على الأرض من فوق الجواد الذى يركبه ، بحركة قوية تكشف له عن قوة سيده وعن مبلغ ضعفه هو ، ومع ذلك يقول له : « لماذا تضطهدنى » ، وهنا يندمج المسيح مع أتباعه حتى ليبدو أن اضطهاد أصغرهم هو اضطهاد له هو ذاته كما يبدو هنا أيضاً الوضع مقلوباً إذ لا يمكن أن يكون المضطهد إلا من كان أقوى وأقدر ، وقطعاً لم يكن شاول هو الأقوى .. قال مارتن لوثر للراهب الطيب ستوبتز : إن اللّه غاضب علىَّ ، فأجابه الراهب : كلا بل أنت غاضب على اللّه ، ... هذا هو الوصف الصحيح لشاول ولوثر وأنا وأنت قبل أن يدركنا المسيح . على انه وقد أدرك بولس ، أصابه بالعمى المؤقت ، حتى يدرك أن ما حدث لم يكن وهماً أو خيالا ، وليتح له فرصة أوسع للتأمل ، وإذ فقد بصره فتحت بصيرته ، وأيضاً ليعطى له ولحنانيا برهاناً على تدخل المسيح فى حماية أتباعه ، وهكذا دخل شاول دمشق وقد تغير وضعه واتجاهه وأهدافه وكل شئ فى حياته ، إذ قد ولد جديداً ، .. وكل واحد منا عليه أن يعلم بأن المسيح يتبعه فى الطريق . وقد مر اسبرجن أمير الوعاظ فى طريق دمشق عندما استمع ذات يوم إلى رسالة ألقاها صانع أحذية حطم فى كلامه كل قواعد اللغة ، ولكنه أمسك بصيد عظيم ليسوع المسيح . كانت الآية : « التفتوا إلىَّ واخلصوا ياجميع أقاصى الأرض" (إش 45 : 22) وقال اسبرجن شعرت كما لو أن غمامة قد تبددت من أفق حياتى فرأيت االشمس ساطعة ، وذهبت إلى بيتى أكاد أرقص طرباً ... سأل أحدهم أدونيرام جدسون : لماذا أصبح مرسلا !!.. وقال الرجل : إنه لم يفكر فى ذلك .. ولكن الحقيقة هى أن المسيح هو الذى فكر وقلب حياته بجملتها !! .. وهو يفعل هذا بوسائل عجيبة تغير اتجاه الإنسان وتقلبه رأساً على عقب ، .. أو بتعبير أصح تعيد وضعه المقلوب ، الذى قلبته الخطية إلى الوضح الصحيح ! قد تكون عظة كما حدث مع سبرجن فتغير تاريخه ، وقد تكون نظرة إلى شجرة عمل فيها الذبول رآها الأخ لورنس، ففزع عندما تصور حياته مثل هذه الشجرة دون أثمار ، واتجه إلى المسيح ، ليكون كشجرة مغروسة عند مجارى المياه . التى تعطى ثمرها فى أوانه ، وورقها لا يذبل ، وكل ما يصنعه ينجح » ( مز 1 : 3 ) .. قد تكون ترنيمة ، أو مجرد قراءة بعض الأعداد من كلمة اللّه قرأها القديس أوغسطينوس وهو يسمع صوت صبى يقول فى حدائق ميلان افتح واقرأ ، ففتح كتابه وإذا به يقع على العبارة القائلة : « هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم . فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا . قد تناهى الليل وقارب النهار فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور . لنسلك بلياقة كما فى النهار لا بالبطر والسكر لا بالمضاجع والعهر لا بالخصام والحسد ، بل البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات » ( رو 13 : 11 - 14 ) .. ومهما كان الأسلوب فإنه الطريق الذى يسلكه المسيح حتى يدركنا ويغير اتجاهنا ومسارنا كما فعل مع الطرسوسى القديم !! ..

    الحياة فى المسيح

    والإنسان بعد أن يولد يحيا ، ولابد لنا أن نتابع بعض الوقت هذا الرجل العظيم ، وكيف عاش على الأرض أعظم حياة يمكن أن يعيشها مسيحى ، ونحن لا نستطيع أن ندرك ذلك إلا إذا تبين لنا أولا : « الحياة السرية فى المسيح » . يقول الرسول : « لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح فى اللّه» ( كو 3 : 3 ) .. وهو يرينا شخصاً قد مات عن العالم ، وهو فى العالم ، وعاش حياة مستترة أو سرية مع المسيح ، وقد عاش بولس أعمق حياة سرية مع المسيح ، لقد صلب العالم له ، وهو للعالم ، فلم يعد يعيش للعالم ، ولم يعد العالم يجد فيه شيئاً يتجاوب معه ، .. وقد وصفه رينان فأبدع فى الوصف وهو يقول : إن بولس ينتمى بالكلية إلى عالم آخر خلاف العالم الحاضر فماراثون بولس وأولمبياده ، ومشرق شمسه ومغربها وكل اليونان وروما والأرض المقدسة ، ليست هنا بل هناك » ... فى العلاقة التى تربطه بسيده ، وقد سار كثيرون فى إثر بولس فى ذلك ، فكلفن لم يرفع عينيه إلى جبال الألب أو عظمة سويسرا أو جنيف حوله ، إذ كان كل نهاره وليله عاكفاً على خدمته وكتابه « النظم المسيحية » الذى خلفه للأجيال ، ... وبسكال ، وقد شغلته النفس الخالدة للإنسان سار على نفس الدرب ، دون أن يشغله شئ . والقديس برنارد الذى سار يوماً بأكمله على بحيرة جنيف وهو يضع قلنسوة الرهبان على رأسه ، ثم سأل آخر الأمر ، أين هى البحيرة المشهورة التى يقولون عنها ، ... إن الحياة السرية مع المسيح استغرقت حياة بولس ، وحياة هؤلاء العظام حتى شغلتهم عن التأمل فى جمال الطبيعة الفاتنة التى تحيط بهم .. ولن نعرف بولس على الإطلاق ، قبل أن نلتفت إلى حياته السرية مع المسيح ، أو إلى النبع الدافق الصافى الرقراق الذى كان يرويه بماء الحياة !! .. ولا شبهة فى أن كل مؤمن لابد له من هذه الحياة السرية مع الفادى الكريم ، وعلى قدر عمق الشركة التى له بفاديه ، على قدر ما يمكن أن يخرج إلى العالم جباراً قوياً عملاقاً ، .. وقد أشار السيد مرات متعددة إلى هذه العلاقة ، عندما قال : « أنا هو ... الحياة ... أنا هو خبز الحياة .... أنا هو الراعى .... أنا هو الباب .... أنا هو الكرمة وانتم الأغصان » ( يو 11 : 25 ، 6 : 35 ، 10 : 11 ، 10 : 9 ، 15 : 5 ) قال أحد مشاهير البيورتان : إنه لا يظهر فى الحقيقة أمام اللّه إلا رجلان هما آدم ويسوع المسيح ، والجنس البشرى متعلق كله بأهداب الرجلين ، ... وقد رأى بولس نفسه متعلقاً بيسوع المسيح ، فالمسيح هو رأس الكنيسة ، والمؤمنون أعضاء جسده ، .. والمسيح هو الحياة ، الذى قال عنه بولس : « لأن لى الحياة هى المسيح » ( فى 1 : 21 ) .. والمؤمن فى المسيح ، والمسيح فيه ، ولطالما أردت كثيراً أن أعرف كيف يمكن أن يكون المسيح فىَّ وأنا فيه ، ورفعت عينى إلى الهواء الذى يحيط بى على الدوام والذى يدخل صدرى ، وعرفت كيف أنى داخل الهواء ، والهواء داخلى ، ... إذا جاز التشبيه بالنسبة للمسيح ... بل رأيت نفسى أشبه بالإسفنجة فى البحر يملؤها الماء من الداخل ، وهى مغمورة فى الماء فى نفس الوقت !! .. وعلى قدر ما تتشبع بالماء يمكن أن أتشبع بالمسيح فىَّ وأنا فيه !! .. ولقد كان بولس أكثر تشبعاً بالماء ، أو انتفاعاً بالهواء أو أعمق ارتباطاً بسيده ، فهو يسير معه فى مسيرة الحياة على الأرض ، وهو يحلق بأجنحة قل أن تكون لمسيحى ، وهو هناك فى أعلى قمم الحياة الروحية « يجلس فى السماويات مع المسيح » .. لقد كانت له الشركة الدائمة العميقة المتصلة ، وقبله قال إيليا : « حى هو رب الجنود الذى أنا واقف أمامه » ( 2 مل 18 : 15 ) لأن عينيه لم تتحولا قط عن اللّه ، لكن بولس عاش حياته فى مشاعر المرنم القديم : « من خلف ومن قدام حاصرتنى وجعلت على يدك . عجيبة هذه المعرفة فوقى ارتفعت لا أستطيعها . أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب . إن صعدت إلى السموات فأنت هناك . وإن فرشت فى الهاوية فها أنت . إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » ( مز 139: 5 - 10 ) ومن ثم كان لبولس فى كل هذه : « حياة الإيمان فى المسيح » . . وإذا كان كل مؤمن لابد أن يكون له إيمان بالسيد ، وإذا كان إيماننا بالمسيح هو الذى يحلق بنا فى الأعالى ، فلربما كان بولس النسر الذى حلق فى سماء الإيمان إلى ارتفاع لم يبلغه مؤمن آخر ، ... وليس معنى ذلك أنه لم يكن من طينتنا أو بطبيعة تختلف عن طبيعتنا ، لقد كان إنساناً تحت الآلام مثلنا ، ... عندما دخل كورنثوس كان فى ضعف ووخوف ورعدة ، أى أنه كان يرتعد من الصعوبات والمخاوف التى تجابهه فى الخدمة ، وفى أسيا وصل إلى اليأس من الحياة نفسها : « فإننا لا نريد أن تجهلوا أيها الإخوة من جهة ضيقتنا التى أصابتنا فى أسيا أننا تثقلنا جداً فوق الطاقة حتى يأسنا من الحياة أيضاً . لكن كان لنا فى أنفسنا حكم الموت لكى لا نكون متكلين على أنفسنا بل على اللّه الذى يقيم الأموات. الذى نجانا من موت مثل هذا وينجى الذى لنا رجاء فيه أنه سينجى أيضاً فيما بعد » ( 2 كو 1 : 8 - 10 ) ... هل سمعت عن ذلك الجندى الذى قرر الأطباء أن مرضه ميئوس منه ، وأنه لابد أن يموت وإذ أدرك الجندى هذه الحقيقة قال لنفسه : إذا كان ليس من الموت بد ، فلماذا لا أقاتل لأموت فى المعركة شجاعاً باسلا بدلا من موت يأتى بطيئا معذباً مؤلماً،... وتحول الجندى كما تقول القصة إلى أسطورة فى المعركة ، فعندما يتراجع الجميع يتقدم هو ، وعندما يفشل الكل يصمد بصورة غير مألوفة عند البشر ، ... وكانت النتيجة أنه قلب ميزان المعركة وانتزع النصر من بين براثن الهزيمة،.. وتعجب القائد لأمر الجندى ، وعز عليه أن يموت مثل هذا البطل فى عذاب المرض ، فأرسله إلى كبار الأطباء الذين نجحوا فى انقاذه من الموت ، .. لكن الجندى وقد تيقن من الحياة ، عاد إلى طبيعة البشر فى الخوف من الموت ، وانتهت أسطورة البطولة الخارقة التى كانت عنده ، وأصبح واحداً من الجنود العاديين ، ... على أن بولس لم يكن مثل هذا الجندى ، بل عاش فى المعركة فى ألوانها المختلفة بين الهزيمة والنصر وبين الفشل والنجاح ، بإيمان ربما لم يتح بلوغه لغيره من المؤمنين ، وعندما اقترب من النهاية كان هو القائل : « لأننى عالم بمن آمنت » ( 2 تى 1 : 12 ) وفى معاركه العظيمة اخترق كافة الحواجز ، وفاز فى السباق ، وهو يقول : « أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى » .. ( فى 4 : 13 ) وهذا الإيمان العظيم ، قاده إلى « حياة الصلاة فى المسيح » ... ولا يتسع الوقت أمامنا لنرى بولس مصلياً ، لكنه يقول : « بسبب هذا أحنى ركبتى لدى أبى ربنا يسوع المسيح الذى منه تسمى كل عشيرة فى السموات وعلى الأرض » ( أف 3 : 14 ، 15 ).. « صلوا بلا انقطاع » ( 1 تس 5 : 17 ) ... كان السير توماس براون رجلا من رجال الصلاة العظام على الأرض ، وقد قال فى مذكراته : « لقد صليت فى كل الأماكن الهادئة التى أتيح لى أن أوجد فيها ، فى أى بيت أو برية أو شارع ، وليس هناك شارع واحد فى المدينة التى أعيش فيها ، ومررت فيه دون أن يشهد صلاتى ، فلم أنس إلهى ومخلصى فيه ، وليست هناك قرية أو مدينة ذهبت إليها ولم أفعل كذلك ، ولم أر كنيسة أو أمر بجوارها ماشياً أو راكباً إلا ورفعت صلاة من أجلها . إنى أصلى يومياً وعلى وجه الخصوص لمرضاى الذين أعودهم ، وكل مريض يقع تحت عنايتى ، ... ومادخلت بيتاً قط لأحد هؤلاء المرضى إلا وطلبت عند مدخله السلام والرحمة لهذا البيت ، وما سمعت عظة إلا وطلبت أن تكون مباركة ، وصليت لواعظها ، وما رأيت وجوهاً جميلة إلا وشكرت اللّه الخالق لهذا الجمال ، وصليت لأجل جمال نفوسهم أيضاً لكى يغنيهم اللّه بالنعمة الداخلية التى تتجاوب مع الجمال الخارجى ، وعند النظر إلى الساقطين كنت أصلى أن يرسل اللّه إليهم نعمته ليعطوا جمال الحياة المقامة مع اللّه » .. اضرب عدد صلوات السير توماس براون فى عشرات أضعافها ، تقترب من روح بولس رجل الصلاة العظيم أمام اللّه !!

    كان بولس - فى الأصل كما تحدثنا عند عرض قصة غمالائيل - يختلف عن أستاذه ومعلمه فى الحياة الملتهبة ، التى تحولت كالوحش الضارى إلى اضطهاد المؤمنين ، الأمر الذى عاش طوال حياته يأسف عليه ، إلا أن هذه الغيرة تحولت ناراً متقدة لا تهدأ فى خدمة سيده وفادية . عندما تحدث أمام الملك أغريباس ظنه فستوس ، من طريقة حديثه وحركاته ، مجنوناً ، قائلا له : « أنت تهذى يا بولس . الكتب الكثيرة تحولك إلى الهديان » ( أع 36 : 24 ) .. كان فستوس عاجزاً عن أن يدرك النار العظيمة التى كانت تتقد فى أعماقه ، وأوقدها يسوع المسيح ، ولم يستطع سيف الجلاد نفسه ، إلا أن يشهد بشجاعتها الباسلة التى لا تتراجع حتى الموت !! .

    وأى ثبات أو صبر يفوق الوصف ونحن نسمع الرجل يقول : « بل فى كل شئ نظهر أنفسنا كخدام اللّه فى صبر كثير فى شدائد فى ضرورات فى ضيقات فى ضربات فى سجون فى اضطرابات فى أتعاب فى أسهار فى أصوام فى طهارة فى علم فى أناة فى لطف فى الروح القدس فى محبة بلا رياء فى كلام الحق فى قوة اللّه بسلاح البر لليمين ولليسار ، بمجد وهو ان بصيت ردئ وصيت حسن . كمضلين ونحن صادقون ، كمجهولين ونحن معروفون . كمائتين وها نحن نحيا . كمؤدبين ونحن غير مقتولين . كحزانى ونحن دائماً فرحون كفقراء ونحن نغنى كثيرين . كأن لا شئ لنا ونحن نملك كل شئ » ( 2 كو 6 : 4 - 10 ) .

    يقول توماس بوسطن فى إحدى كتاباته البليغة : « يولد الإنسان صارخاً ، ويعيش مشتكياً ، ويموت تعساً ، وهو يقول : باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح .. لخلاصك انتظرت يارب»... ومع أن بولس عاش فرحاً بإلهه ، وحتى فى السجن كان يصلى ويسبح اللّه مع سيلا ، ... لكن بولس مع ذلك كان واحداً من أعظم المحزونين فى الأرض ، ... وكان حزنه عميقاً لا ينقطع ، أليس هو القائل : « أقول الصدق فى المسيح . لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس . إن لى حزناً عظيماً ووجعاً فى قلبى لا ينقطع فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من المسيح لأجل إخوتى أنسبائى حسب الجسد » ( رو 9 : 1 - 3 ) ... قال الفيلسوف بسكال : إن عظمة الإنسان تقاس فى العادة بعظمة بؤسه . وكان من المستحيل أن يرى بولس الجحيم وهو يبتلع كل يوم النفوس التى تتهاوى إليه وبينهم الكثيرون من أقرب الناس إليه وأحبهم إلى قلبه دون أن يدمى قلبه ويتقطع ، وقد أعطاه السيد حباً عجيباً للنفوس التى مات المسيح لأجلها !! ...

    على أنه لا يمكن أن نذكر حياة بولس فى المسيح دون أن نذكر شوكته فى الجسد ، وقد أدرك بولس أن هذه الشوكة أعطيت له ضماناً للحياة التى اختارها له اللّه فى قصده الأزلى ، ... ولا يتسع المجال للحديث عن الأفكار المختلفة ، والشروحات المتعددة عن هذه الشوكة . ومن الغريب أن الآباء ورجال العصور الوسطى صوروها كتجارب جسمية أو نفسية ، ... وكان الذهبى الفم يرى الشوكة فى هيمينايس واسكندر النحاس اللذين عذبا نفسه وأظهرا له شروراً كثيرة ، ... وكان يراها كلفن فى الصراع الداخلى المستمر فى الإنسان الباطن ، ... وموشين يصورها فى الندم على حياته الأولى ، ... لكن الاتجاه الحديث يصورها كمرض من أمراض الجسد ، فمثلا لا يتفود يظنها الصرع ، ودين فرار الرمد ، وبروفسور رامسى حمى من الحميات التى كانت منتشرة فى أسيا الصغرى ولعلها الملاريا ، ... وأياً كان التصور عن هذه الشوكة ، وعجز بولس عن فهم الحكمة منها فى بداية الأمر ، إذ كان يعتقد أنها معطل له عن الخدمة ، .. وقد صلى ثلاث مرات ، أو لعلها ثلاثة فصول ، أو لعله ركز عليها ثلاث فترات معينة ، ولم يجبه اللّه بالصورة التى تمناها ، بل قواه على احتمالها .. قال أحدهم لقد صليت أن يرفع اللّه الحمل عن كاهلى ، .. ولكن اللّه أعطانى كتفاً أستطيع به أن أحمل هذا الحمل !! .. وقد ظهرت قوة اللّه فى ضعف بولس وأعانته أن ينتصر تماماً على الشوكة ، ويعيش بها مرتفعاً فوق الضعف ، وفى الوقت نفسه تخزه كلما جرب بأن يرتفع!! .. لقد ذكرنا فى مطلع الحديث أن بولس كان يؤمن بالاختيار المطلق، ونعرف الآن أن الشوكة كانت واحدة من الوسائل المتعددة التى استخدمها اللّه لتحقيق غرضه فى حياة بولس .

    بولس الراعى المثالى

    ونحن نتحول هنا إلى بولس الراعى المثالى ، كم نود أن كثيرين من الرعاة وخدام الكلمة الإلهية يدرسون حياة بولس كراع ... قال أحد الأعضاء لدكتور جـ . ر . جوردان إنه لا يتردد الآن كثيراً على الكنيسة كما كان يفعل من قبل ، لأن الواعظ هناك يعتقد أنه يعرف كل شئ ، ولا يجهل شيئاً البتة ، بل الأكثر من ذلك إنه يأمر الذين حوله كما لو كانوا فعلة فى خندق ، ويبدو أنه يعتقد أن الرعية لا تفهم شيئاً ، وهو إذ يصعد إلى المنبر ، ويصرح ويأمر المستمعين كما لو كان قائداً يلقى أوامره من فوق سفينته الحربية ، ثم قال الرجل إنى مستعد أن أدفع ألفاً من الدولارات، ليعترف ولو مرة واحدة ، أن هناك شيئاً لا يعرفه ، ومستعد أن أدفع مليوناً من الدولارات لو أنه جلس مع الآخرين ليضحك ويمرح ... وقال آخر عن مرشح سقط فى انتخابات رئاسة الجمهورية، إن سر سقوطه يرجع إلى أنه كان يخاطب المنتخبين كما لو كانوا أقل منه وأضأل شأناً !! .. وربما نستطيع أن نرى صورة لبولس كراع ، ونحن نتأمل المدة التى قضاها فى أفسس، وكانت المدينة تعد أكبر مدينة فى أسيا الصغرى ، والعاصمة الرومانية للولاية المعروفة حينئذ بولاية أسيا ، وقد بنيت عند مصب نهر كيستر فى بحرايجه ، وكان لها ميناء متسع ترسو فيه السفن الكبيرة ، ولهذا فقد كانت مركزاً تجارياً عظيماً ، كما كانت ملتقى الغادرين والرائحين بين الشرق والغرب فى أرجاء الأمبراطورية الرومانية ، على أن المدينة أخذت شهرتها من وجود هيكل أرطاميس بها وكان يعد من عجائب الدنيا السبع ، كانوا يقولون إن الشمس لم تر ما هو أفخم منه أو أعظم وقد بنى بأكمله من الرخام الأبيض وكانت أعمدته مائة وسبعة وعشرين عموداً من اليشب ، أهدى كل عمود منها ملك من الملوك . وكانت أرطاميس أو ديانا عند الأسيويين ، تعد أم الحياة ، على العكس من أرطاميس أو ديانا اليونانية التى كانت آلهة الصيد . وقد كان تمثالها فى أفسس موضوعاً داخل مذبح كبير فى نهاية الهيكل ، وكان بالمدينة على مقربة من الهيكل مسرح هائل يتسع لخمسين ألفاً من المتفرجين ، وقد جعل بولس المدينة مركزا للتبشير فى أسيا كلها !! .. وقف هناك يتحدى أرطاميس ويسقطها إلى الحضيض .

    وسنعرف بولس كراع من خلال حديثه الوداعى لقسوس أفسس عندما التقى بهم فى ميليتس (أع 20 : 17 - 28 ) . والراعى عند بولس لابد أن تتوفر فيه الشروط التالية :

    (1) الراعى المدعو : فهو لا يذهب إلى الحقل الرعوى من تلقاء نفسه أو باستحسان الناس أو بدعوة من البشر ، بل بالدعوة الإلهية الصريحة الواضحة : « الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة » .. ( أع 20 : 28 ) وإذا كان اللّه قد خطط حياة كل إنسان ، ودعاه لعمل معين فى الأرض ، فإنه بالأولى يفعل ذلك مع خدامه الذين يحدد لهم الزمان والمكان الذى فيه يعملون ..

    (2) الراعى المتواضع : قال أحد القواد : كانت أمنيتى على الدوام أن أتشبع بروح التواضع ، وخادم اللّه ينبغى أن يسير فى أثر ذلك الذى قال : « تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب» (مت 11 : 29 ) ، ليقول مع بولس : « أخدم الرب بكل تواضع » (أع 20: 19) وجدير بنا ألا ننسى أنه يمكن للإنسان مع الاحتفاظ بإبائه وشممه وكرامته وعزة نفسه أن يكون متواضعاً ، إن التواضع هو النزول الاختيارى بروح سمحة وديعة إلى مستوى الضعيف والمسكين والمحتاج والجائع .

    (3) الراعى الحنون : يقول التقليد اليهودى إن اللّه سلم موسى رعاية إسرائيل بعد أن رآه فى البرية يسعى وراء حمل صغير ضال ، قيل إن موسى وجده يرتاد منطقة بعيدة بحثاِ عن الماء ، فأسف موسى لأنه لم يتنبه لعطش الحمل ، وبعد أن تركه ليرتوى ، حمله على منكبيه خوفاً عليه من التعب ، والتقليد يقول : إن اللّه من تلك اللحظة استأمن موسى على شعبه ، بعد أن رآه حنوناً على الحمل الصغير ، وقد مزج بولس رسالته فى أفسس بدموع كثيرة ، والدموع لا يمكن أن تنبعث إلا من القلب الرقيق المفعم بالحنان والحب !! ..

    (4) الراعى الصبور : وقد أحاطت به فى أفسس متاعب ومكايد وتجارب متعددة ، فقد كان الناس هناك أشبه بالوحوش الضارية ولذا قال : « حاربت وحوشاً فى أفسس » ( 1 كو 15 : 32 ) ومع ذلك فقد صبر وتشجع وتقدم وانتصر دون أن يعتريه اليأس والخوار ، ولذا كان جديراً به أن يقول لتيموثاوس : « فاشترك أنت فى احتمال المشقات لأجل الإنجيل » ( 2 تى 2 : 3 )..

    (5) الراعى المقيد إذ أنه لا يتبع فى عمله ما يستحسنه هو أو كيفما تمليه إرادته ، بل كان «مقيداً بالروح لا أعلم ماذا يصادفنى هناك . غير أن الروح القدس يشهد فى كل مدينة قائلا إن وثقاً وشدائد تنتظرنى » ( أع 20 : 22 ) حين حاول استانلى أن يقنع ليفنجستون بأن يرجع إلى إنجلترا تاركاً أفريقيا لما رآه عليه من التعب والشدة والضيق والمرض ، كان الجواب النبيل : لا لا !! أن تقدرنى الملكة ويحيينى آلاف المعجبين من الجماهير ، هذا قد يبدو جميلا ، ولكن محال أن أقبله إذ ينبغى أن أتمم سعيى !! .

    (6) الراعى الحذر : عليه أن يحذر مفاجآت متعددة كثيرة قد تلم به ، عليه أن يحترز لنفسه ليكون مثالا صالحاً للرعية من كل جانب من جوانب الحياة العقلية والجسدية والروحية ، وعليه أن يعلم أن أعظم مثال: لا ما يقوله المرء بل ما يكون عليه ، وعليه أن يحذر الآخرين فمن الأصدقاء من قد يصبح عدو للراعى والرعية ، وعليه أن يحترز لجميع الرعية ، فيعين ويشجع ويحرس ويطعم ويسهر عليهم جميعاً بحسب احتياج كل واحد ووضعه وظروفه !

    (7) الراعى العفيف !! .. وما أعظم بولس وهو يقول : « فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته ، أنتم تعلمون أن حاجاتى وحاجات الذين معى خدمتها هاتان اليدان » .. ( أع 20 : 33 ، 34 ) إنه يذكرنا بقول صموئيل : " فاشهدوا علىَّ قدام الرب وقدام مسيحه ، ثور من أخذت وحمار من أخذت ومن ظلمت ومن سحقت ومن يد من أخذت فدية لأغض عينى عنه فأرد لكم !!" ( 1صم 12 : 3 ) وقد كان صموئيل قدام الرب وقدام الملك نموذجاً جميلا للنفس السامية العفيفة ، وهكذا ينبغى أن يكون كل راع حريصاً على خدمة اللّه ومجده !! ..

    (Cool الراعى والضمان الإلهى : سار بولس فى طريقه يواجه أمواج الحياة وعواصف الأيام ، سار إلى النهاية ، ولكنه ترك قسوس أفسس وديعة بين يدى اللّه القادر وكلمة نعمته: «والآن أستودعكم يا اخوتى للّه ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثاً مع جميع المقدسين ، (أع 20 : 32 ) وهذا هو سر نجاح بولس المختار وكل الخدام على مر الأيام وتعاقب الزمن وامتداد التاريخ !! ..

    بولس الواعظ الناجح

    كان القديس أوغسطينوس يتمنى ثلاث أمنيات فى حياته : أن يرى روما فى مجدها ، والمسيح فى الجسد ، وبولس وهو يعظ ، وإذا كنا قد درسنا بولس كراع مثالى فى علاقته بالأفسسيين ، فإنه يمكن أن نراه واعظاً من أبرز الوعاظ وأنجحهم ، إذا وقفنا منه سنة وستأ أشهر فى مدينة كورنثوس لنرى :

    (1) الواعظ والتحدى العظيم ، وربما لم يجد بولس تحدياً لخدمته كالتحدى الذى لاقاه فى مدينة كورنثوس التى كان عاصمة ولاية أخائية ، ومن أشهر مدن اليونان والعالم ، وكانت تعدادها فى أيام بولس يزيد على أربعمائة ألف نسمة ، ومع أنها لم ترتق يوماً ما إلى مقام أثينا فى المعرفة والعلم ، لكنها تفوقت على عاصمة اليونان ، فى ميدان التجارة ، واللهو ، والفجور ، إذ كانت ممراً عالمياً للتجارة بين الشرق والغرب ، كما كانت المدينة التى تقام فيها الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات ، والتى تنظم أكاليل الغار للفائزين ، كما كانت مدينة الفجور والفساد والأوحال ، المدينة التى دعاها يوحنا فم الذهب أشر مدينة عرفها التاريخ ، ودعاها آخر سدوم القرن الأول ، إذ كان هناك هيكل فينوس أو أفروديت آلهة الجمال والحب ، وكان بالهيكل ألف امرأة خصصن أنفسهن لأشر ألوان الدعارة والفجور كجزء لازم من أجزاء العبادة ، وقد قيل إن بولس كتب الأصحاح الأول من رسالته إلى أهل رومية وهو ينظر محزوناً إلى ما فى كورنثوس من أثام ومفاسد ، وقد وصفها أحدهم بالقول : إنها تشبه فى الوقت الحالى نيويورك فى كونها تجمع خليطاً من الشعوب ، وتشبه لندن فى جمعها للمال وحبه ، وتشبه باريس فى الخلاعة والدعارة ، .. اخلط هذه كلها وخذ شر ما فيها وأفظعه ، ترى صورة مدينة كورنثوس القديمة . وقد هدمها الرومان عام 146 ق . م وأعاد بناءها يوليوس قيصر بعد قرن من ذلك التاريخ وزارها بولس على الأغلب عام 51 فى ختام رحلته الثانية ، ولم يتركها قبل أن ينشئ فيها كنيسة كبيرة !! ..

    (2) الواعظ الذى وعظ بحياته أولا : دخل بولس المدينة ، ودخلها وحيداً وقد ملأه الخوف والرعب والرعدة لبشاعة الإثم فيها ، وكان عليه أن يجد أولا مسكناً ، ويعمل ليعيش ويأكل ، وقد وجد سكنه عند زوجين جاءا حديثاً من رومية ، هما أكيلا وبريسكلا وكانا من ذات صناعة بولس، وقد كان اكيلا يهودى الجنس وقد طرد مع غيره من اليهود من رومية لأن رجلاً يهودياً اسمه كريستس أحدث شغباً فى المدينة ، أصدر على أثره كلوديوس قيصر أمراً بطرد اليهود جميعاً ، ومن ثم سار زكيلا وزوجته إلى كورنثوس فى طريقهما على الأغلب إلى بلدهما ، ويظن البعض أنهما عرفا المسيح فى رومية ، بينما يرجح آخرون أنهما عرفا المسيح على يد بولس فى كورنثوس وهنا يقول تشارلس براون : « إن أكيلا وبريسكلا لم يعرفا أولا بولس الواعظ ، بل عرفا بولس الصانع رجل الأعمال ، لقد أبصراه فى صناعته وعمله وحياته الداخلية الخاصة، ومن المؤكد أنه من أعظم دلائل الحياة والخلق المسيحى المجيد أن تستطيع ربح الشخص الذى يسكن معك تحت سقف واحد ، ويراك فى أغلب الأوقات وفى الحياة البيتية الخاصة » ... ويقول يوجين فوستر أيضاً : « أى نوع من الناس كان بولس هذا صانع الخيام .. مرات أشعر بأنى لو كنت معاصراً له ، وفى حاجة إلى خيمة متينة ، ومصنوعة على أجمل ما تكون عليه الصناعة ، لحاولت أن أجد واحدة صنعها هذا الرجل بولس ، ولكن لماذا أقول هذا ، إنى أقوله متأثراً بعبارة قالها : «فـإن كنتم تأكلون أو تشربــون أو تفعلون شيئاً فافعـلوا كل شئ لمجد اللّه» ( كو 10 : 31).. وإذا كان هذا هو شعار الرجل ، فلابد أن يكون ما يصنعه مجيداً ، وهو ما أرغب فى شرائه » ... لقد كانت أكبر عظة لبولس هى بولس نفسه .

    (3) الواعظ الملتهب وقد كان بولس فى كورنثوس يعط بقوة روح اللّه الذى حاصره بالتمام : « كان بولس منحصراً بالروح » ( أع 18 : 5 ) لم تكن عظة بولس واجباً يؤديه ، لأنه لابد أن يفعل ذلك ، أو مهنة يتكسب منها عيشه ، أو رسالة تلقى بلا مبالاة أو اهتمام ، ... لقد سيطر روح اللّه عليه فكراً وقلباً وإرادة ، وهو ينادى بيسوع المسيح ، ويشهد عنه ، ... رسم يوحنا فم الذهب أسقفاً على القسطنطينية عام 398 ، وقد كانت المدينة فى أعظم عصور مجدها ، وزهوها ، ... وكانت كنيسة أجا صوفيا فخر كنائس العالم كله ، ... إلا أن الأسقف العظيم استولى على قلوب الناس ومشاعرهم ، وأطلق عليه « فم الذهب » لشهرته كواعظ نقى مقتدر ، وإذ كان رجلا وديعاً ، دخل الكنيسة ولم تعجبه الأبهة والفخفخة التى تملؤها فهى فى تصوره غير لائقة بالناصرى الوديع المتواضع ، ... فما كان منه إلا أن دخل دار الأسقفية ، وأمر بنزع الأثاث الثمين ، وبيعه فى السوق العام ، ووزع ثمنه على فقراء المدينة الذين أحبوه حباً جماً ، لكن الأغنياء والمتقدمين فى الشعب أبغضوه ، لأنهم لم يحبوا أن ينتبه أحد إلى قصورهم، كما كانت وصايا السيد وطريقه صعبة عليهم ، وقد ندد بتجارة العبيد التى كانت شائعة فى ذلك العهد واغتاظ أعداؤه وعلى رأسهم الامبراطورة التى ساءها أن ينتقد الأسقف تصرفها وخلاعتها ، فسعوا إلى نفيه ، فلم يبال ، كان يمكنه أن يعود مكرماً إلى القسطنطنية لو أنه تغاضى عن الحق، واغمض عينيه عما يراه من أثام ، ولكنه فضل أن يسير ليلاقى الموت ، على أن يعيش غير أمين لسيده ، ولم يقو جسده النحيل الذى أضنته الآلام على السير إلى النهاية حتى المنفى ، فسقط فى الطريق ، ووحملوه إلى أقرب كنيسة حيث أسلم الروح ، وهو يقول العبارة التى كانت تجرى دائماً على لســــــانه ، وودع بها الأرض ، « المجد للّه والشكر له لأجل كل شئ» ..

    (4) الواعظ بالصليب ، وهنا فخر الرجل ومجده ، بل هنا سر قوته العظيمة ، .. لقد كان بولس الرائد العظيم الذى وضع على جانبى الطريق الطويل للوعاظ المسيحيين اللافتة المشهورة: « لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً » ( 1 كو 2 : 2 ) .. إن القوة الجبارة فى الكرازة المسيحية لا تنبع إطلاقاً من بلاغة الواعظ أو قدرته على الاقناع والابداع،... بل القوة الحقيقية تكمن فى مادة العظة وموضوعها الذي يجب أن يتركز على الدوام فى الصليب،... وقد غلب الصليب ، وسيغلب ، مهما بدت الخطية فى الأرض .. ذهب أمريكى اسمه دكتور جستن ورى نكسون إلى روسيا عام 1935 وكان يركب القطار من هلسنكى فى فنلندا ، وكان القطار ممتلئاً بالشيوعين الذى كانوا ينشدون الأناشيد ، وكانت أنشودتهم :

    إذا ذهبت إلى موسكو ، قبل أن أذهب

    أخـــبر ســـتالين أنى حـــالا ســـــأجى

    ســــــتالين قائدنا ولذا لا نهـــــــــــــتز

    كان ستالين كل شئ لهم ، وبدا كما لو أن الإيمان المسيحى يترنح ، ولكن الرجل بعد عشرين عاماً ، ذهب مرة أخرى إلى روسيا ، وكان تأثير ستالين ما يزال باقياً ، ولكنه أخذ يهتز ويترنح،.. وبين

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 18:22