الأصحاح الرابع
إبراهيم دعي في الغُرْلة
في الأصحاحات الثلاثة السابقة أظهر الرسول بولس فساد كل البشريّة، يستوي في ذلك اليهود كما الأمم، وصار الكل في حاجة إلى من يخلص ويبرر، والآن يقدّم الرسول مثلين لرجلين بارّين من رجال العهد القديم، أحدهما إبراهيم بكونه أب الآباء وقد تبرّر خلال إيمانه وهو بعد في الغُرْلة قبل ممارسة أعمال الناموس خاصة الخِتان. والثاني هو داود الذي نال الوعد أن من صُلبه يأتي المسيّا الملك، وهو من أهل الخِتان لكنه يقدّم التطويب لمن يتبرّر لا بأعمال الناموس بل بالإيمان.
ركّز الرسول بالأكثر على شخصية "إبراهيم" لأن اليهود كانوا يشعرون أنهم أحرار لمجرد انتسابهم له بالجسد. هذه العقيدة دفعتهم إلى العجرفة والكبرياء عِوض أن تدفعهم للحياة بفكر إبراهيم وإيمانه والامتثال به في سلوكه، فجاء الرسول يفنّد هذه العقيدة، مظهرًا أن سرّ قوّة إبراهيم تكمن في إيمانه الحيّ الذي عاشه وهو في الغُرْلة، كما عاش وهو في الخِتان، لذا فهو أب لأهل الغُرْلة كما لأهل الخِتان.
1. إبراهيم والإيمان1-8.
2. إبراهيم أب جميع المؤمنين9-16.
3. إيمان إبراهيم وإيماننا17–25.
1. إبراهيم والإيمان
إذ كان الرسول يُعلن عجز أعمال الناموس عن تقديم برّ الله، ليفتح الباب للبشرية كلها فتنعم بهذا البرّ خلال الإيمان، انتقل إلى الحديث عن إبراهيم بكونه أول من نال عهد الخِتان ليوضّح أن إبراهيم أيضًا لم يتبرّر بالخِتان (أعمال الناموس) وإنما بالإيمان، إذ يقول: "فماذا نقول أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد، لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدي الله" [1-2].
ويلاحظ في حديث الرسول عن إبراهيم وارتباطه بالإيمان الآتي:
أولاً: "فماذا نقول: أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد؟" [1]. كأن الرسول بولس يحدد العلاقة التي تربطهم بإبراهيم كأب إنما هي "حسب الجسد"، الأمر الذي يُضعف صلتهم به ماداموا لا ينعمون بأبوته خلال إيمانه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:[أنه بهذا يفسح المجال أمام الأمميّين ليدخلوا هم أيضًا في قرابة مع إبراهيم خلال الامتثال بإيمانه[104].]
ثانيًا: لماذا اختار الرسول بولس إبراهيم مع أنه قد سبقه هابيل الذي قيل عنه "أنه بار" (عب 11: 4)، ونوح الذي قيل أنه كان "رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" (تك 6: 9)؟
يردّ على ذلك أن الرسول اختار إبراهيم لعدة أسباب رئيسية منها:
أ. أن اليهود كانوا يفخرون بنسبهم لإبراهيم كأب للمؤمنين، فحينما حدّثهم السيد المسيح عن الحرّية، "أجابوه: أننا ذُرّية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟" (يو 8: 33). فقد أراد الرسول أن يفنّد هذه الحُجّة.
ب. لم يُدعَ هابيل ولا نوح أبًا للمؤمنين، أمّا إبراهيم فقد جاء عنه: "لأني أجعلك أبًا لجمهور من الأمم" (تك 17: 4).
ج. لأن إبراهيم يعتبر حلقة الوصل بين أهل الغُرْلة وأهل الخِتان، عاش متبررًا بالإيمان وهو في الغُرْلة، وإذ نال الوعد الإلهي وتمتع بالخِتان كعلاقة للعهد عاش أيضًا متبررًا بالإيمان وهو في الخِتان. بهذا ضمّ المؤمنين من أهل الغُرْلة وأهل الخِتان في شخصه، خلال الإيمان.
ثالثًا: لا ينكر الرسول بولس أن لإبراهيم أن يفتخر من جهة الأعمال، لكن ليس لدي الله، لأن ما مارسه من أعمال الناموس كالخِتان لا فضل له فيه إنما هو عطيّة الله له خلال العهد الذي أقامه الله معه، وله أيضًا أن يفتخر من جهة الإيمان، بهذا له أن يفتخر لا متعاليًا على الله، وإنما يفتخر أنه ارتمى في حضن الله، ليغتصب بالإيمان مواعيد الله وعهوده، ويحسب بارًا في عينيه. يقول الرسول: "لأنه أن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدى الله، لأنه ماذا يقول الكتاب: فآمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا" [2-3].
إن قورن إبراهيم بمعاصريه من البشر فله فخر بأعماله أمام البشر، سواء بكونه أول من اُختتن كعلامة عهد بينه وبين الله أو أعظم معاصريه في الأعمال الصالحة. أمّا أمام الله ففخره الحقيقي أنه اغتصب برّ الله بإيمانه الحيّ العملي، المُعلن خلال طاعته له سواء بالعبادة له وسط جوّ وثني أو بالخروج من أرضه وعشيرته وبيت أبيه (تك 12)، أو عدم محبته للنصيب الأكبر في معاملته مع لوط ابن أخيه (تك 13)، أو حُبّه لإضافة الغرباء (تك 18)، أو شفاعته عن إخوته في البشريّة (تك 18)، أو تقديم ابنه ذبيحة (تك 28) الخ. هذه التصرفات جميعها وغيرها إنما كانت نابعة عن إيمانه بالله وملتحمة به، فجاءت تمجد الله.
بمعنى آخر لم يكن لإبراهيم أن يفتخر بأعمال الناموس في ذاتها، إنما بإيمانه الحيّ العملي الذي به حُسب بارًا في عيني الله فاحص القلوب.
بهذا نوفِّق بين ما يقوله الرسول بولس هنا وبين ما ورد في رسالة معلمنا يعقوب الرسول: "ألم يتبرّر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدّم اسحق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عمل من أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان، وتمّ الكتاب القائل: "آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا، ودعي خليل الله" (يع 2: 21-23).
يُعلن الرسول بولس أن إبراهيم لم يتبرّر أمام الله خلال أعمال الناموس، كالخِتان والتطهيرات والغسالات، إنما تبرّر خلال الإيمان الحيُ، ومعلمنا يعقوب يُعلن أن إبراهيم لم يتبرّر خلال إيمان شفهي نظري جامد إنما خلال الإيمان المترجِّم عمليًا كذبيحة اسحق، وكأن الأعمال التي يذكرها القدّيس يعقوب إنما هي أعمال الإيمان وليست خارج الإيمان! يحذّر الرسول بولس من الاتّكال على حرفيّة أعمال الناموس ويحذّر الرسول يعقوب من الاتّكال على الإيمان الخالي من الأعمال، أو الإيمان النظري غير الحيُ، هذه الأعمال التي يسألنا الرسول بولس أن نمارسها بالمسيح يسوع ربنا، إذ يقول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحةٍ قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2: 10).
رابعًا: آمن أبونا إبراهيم وأيضًا مارس أعمال الناموس، إذ قبِل الخِتان في جسده كما خَتن ذكور بيته، لكن شتّان بين الإيمان وأعمال الناموس، إذ يقول الرسول: "أما الذي يعمل فلا تُحسب له أجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين" [4].
أيهما أعظم: الأجرة التي ينالها الإنسان مقابل أعمال الناموس، أم النعمة التي ينالها مقابل الإيمان؟ بلا شك البرّ أعظم من الأجرة، لأن البرّ يعني عفو الله عن آثامنًا، ليهبنا برّه عاملاً فينا فننال مجدًا أبديًا. وقد اقتبس الرسول من المرتّل داود العبارة: "طوبى لمن غفرت آثامهم" [7]. وكما يقول القدّيس ذهبي الفم: [لا يقدّم بولس هذه العبارة اعتباطًا، لكنه يودّ القول بأن من غُفرت آثامه بالنعمة نال التطويب، فمن آمن وتبرّر يتأهل بالأكثر للبركة، التي خلالها يُنزع الخزي ليحل المجد[105].]
القول النبوي "طوبى لمن غُفرت آثامهم" يكشف عن بهجة قلب المرتّل بنوال برّ مجّاني لا أجرة عن عمل ناموسي، هذا البرّ هي عطيّة إلهية يهبها الله لمؤمنيه. يقول القدّيس إكليمنضس السكندري:[هذه الطوباوية تحلّ على الذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا، لأن "المحبّة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: . هؤلاء قد اغتسلوا بواسطة ذاك الذي يريد توبة الخاطي لا موته (حز 33: 11)[106].]
خامسًا: ما هو هذا الإيمان الذي يبرّرنا؟
v ماذا يعني نؤمن به؟ الإيمان به يعني حبنا له، وتقديرنا لسموه، والذهاب إليه، والإتحاد بأعضائه.
v الإيمان بالمسيح هو أن نؤمن به أنه يُبرّر الخاطي؛ نؤمن بالشفيع الذي بدون وساطته لا يمكن أن نتصالح مع الله؛ نؤمن بالمخلص الذي جاء يطلب ويخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10)؛ نؤمن بذاك القائل: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
v إيماننا نفسه بالمسيح هو عمل المسيح، إذ هو يعمل فينا، بالتأكيد ليس بدوننا. اسمع الآن وافهم: "من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها أنا يعملها هو". يقول: الأعمال التي أفعلها أنا أولاً، ثم يفعلها هو بعد ذلك، فأنا أفعلها لكي يفعلونها هم أيضًا. ما هي هذه الأعمال إلا إقامة الإنسان البارّ من الشرّير؟
v تتبرّر النفس بارتفاعها نحو الله، والتصاقها بذاك الذي يبرّرها... فإنها إذ تتركه تصير شريرة، وإذ تعود إليه تتبرّر. ألا يظهر لك أنه متي وُجد شيء ما بارد واقترب من النار يصير دافئًا؟ وعندما يُنزع من النار يبرد! لو أن شيئًا ما كان مظلمًا واقترب من النور، أمّا يصير بهيًا؟ وإن نُزع عن النور يصير مظلمًا؟ هكذا هي النفس، أمّا الله فليس هكذا![107]
القدّيس أغسطينوس
سادسًا: ماذا يعني الرسول بقوله: "وأما الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يُبرّر الفاجر، فإيمانه يُحسب له برًا" [5]؟ هل يحثِّنا الرسول على تجاهل الأعمال لنتبرّر بالإيمان وحده؟
نجيب على ذلك بأن الرسول كان يُحدّث اليهود الذين تشامخوا على الأمم بأعمال الناموس بطريقة حرفيّة قاتلة، فإن هذه لا تبرّر الإنسان، إنما لو حُفظت بطريقة روحية، تدفعهم لإدراك الخلاص والتبرير بالمسيّا، الذي كانوا يتظرونه. هذا من جانب ومن جانب آخر، فإننا كمسيحيّين لا نتبرّر بأعمالنا الصالحة كأعمال من عندياتنا، وإلا حسبت "برًا ذاتيًا" تعطل خلاصنا، إنما نمارسها بكونها ثمرة عمل الله فينا، وكما يقول الرسول بولس: "لأن الله هو العامل فيكم" (في 2: 13)، "نحن عاملان مع الله" (1 كو 3 : 9). لهذا يؤكّد الرسول يعقوب "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضًا بدون أعمال ميت" (يع 2: 26).
2. إبراهيم أب لجميع المؤمنين
إذ قارن الرسول بين أعمال الناموس والإيمان في حياة أبينا إبراهيم ليُعلن سموّ الإيمان، الذي به يتبرّر، دون تجاهل لأعمال الناموس التي مارسها إبراهيم وإن كانت عاجزة عن التبرير، الآن يؤكّد الربط بين الإيمان وأعمال الناموس في حياة هذا الأب دون تعارض، قائلاً: "أخذ علامة الخِتان ختمًا لبر الإيمان الذي كان في الغُرْلة" [8]. فالخِتان هو علامة جسديّة جاءت لا معارضة للإيمان، بل خاتمة على إيمانه ومؤكدة له، حتى كل من يحملها إنما يلزم أن يلتزم أيضًا بالإيمان. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن العلامة جاءت لاحقة للإيمان، إذ آمن إبراهيم حين كان أولاً في الغُرْلة، وبقيَ مؤمنًا أيضًا وهو في الخِتان، بهذا أعلن أبوته لأهل الغُرْلة أن يقبلوا الامتثال به في إيمانه، وأيضًا لأهل الخِتان أن يفعلوا ذات الأمر.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية مظهرًا أن اليهود لم يأتوا إلا كضيوف لاحقين لأهل الغُرْلة، وأنهم أضيفوا إليهم، أي جاءوا إلى بيت الإيمان مُضافين إلى إبراهيم الذي قبِل الإيمان وهو في الغُرْلة قبل الخِتان، قائلاً: [لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر وكلِّل وهو بعد في الغُرْلة، فقد جاء اليهود بعد ذلك. إذًا إبراهيم هو أب الأمميّين أولاً الذين ينتسبون إليه بالإيمان، كما أنه أب اليهود ثانيًا، أي أب الجنسين... لهذا يستكمل بولس حديثه، قائلاً: "ليكون أبًا لجميع الذين يؤمنون وهم في الغُرْلة كي يحسب لهم البرّ أيضًا وأبًا للختان" [11-12]. هذا وينتسب الأمميّون لإبراهيم لا بسبب غرلتهم، وإنما لإقتدائهم بإيمانه، كذلك اليهود لا ينتفعون ببنوّتهم له لا لكونهم مختونين، وإنما لأنهم لم يؤمنوا... إذن لك الحق في أبوة إبراهيم إن سرْت في خطوات ذلك الإيمان، دون تنازع ولا مشايعة لمناصرتك للناموس[108].]
هذا ويري الذهبي الفم أن الخِتان مجرّد علامة حملها إبراهيم من أجل ضعف اليهود، إذ يقول الرسول "ليكون أبًا للختان"، لا بمعنى أن يحملوا العلامة جسديًا فيصيرون أبناء له، وإنما يحملون ما وراء العلامة ألا وهو إيمانه. لأن هذه العلامة ليست إلاّ ختمًا للإيمان. فإن لم يسعَ اليهود إلى الإيمان مكتفين بالعلامة التي للجسد، تصير هذه نفاية لا ضرورة لها. هكذا أيضًا لا يليق بهم إذ نالوا الخِتان أن يحتقروا أهل الغُرْلة، بل أن يكونوا سندًا لهم، ليكون الكل معًا في ذات الإيمان الواحد.
لقد ظنّ اليهود أنهم ورثة إبراهيم في نواله المواعيد الإلهية لمجرد تمتعهم بهذه العلامة، أي ممارستهم لأعمال الناموس، متجاهلين التزامهم بالاقتفاء بأبيهم في إيمانه، لهذا يقول الرسول: "لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة، فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد" [14]. بمعنى آخر إن تمسك اليهود بأعمال الناموس كعلامة لميراثهم ما لإبراهيم، مكتفين بهذه الأعمال عند حرفيتها يسلبون الإيمان عمله، ويفقدون نوالهم الوعد الإلهي الذي أُعطيَ لإبراهيم، أن بنسله تتبارك الأمم. على العكس إن كان أهل الغُرْلة لم يمارسوا أعمال الناموس في حرفيتها، لكنهم بالإيمان صاروا ورثة إبراهيم وحُسبوا أصحاب الوعد كأبناء له.
الاتّكال على أعمال الناموس ليس فقط يفقد الإنسان عمل الإيمان الذي لإبراهيم، ويحرمه التمتّع بالوعد الإلهي، وإنما يدخل به إلى غضب الله، لأنه وهو يمارس الأعمال الظاهرة كالخِتان والغسالات يكسر شرائعه السلوكية، كالوصايا العشر، ولو وصية واحدة فيُحسب متعديًا. لذلك يقول الرسول: "لأن الناموس ينشيء غضبًا، إذ حيث ليس ناموس ليس تعدٍ" [15]. فبدون الناموس يخطئ الإنسان، لكن الغضب ينشأ بالأكثر حيث يوجد الناموس، كاشفًا للخطايا التي يرتكبها الإنسان متعديًا الوصيّة، وكما قيل: "ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غل 3: 10).
يقدّم لنا القدّيس أغسطينوس تفسيرا لهذه العبارة، قائلاً: [قبل الناموس كان يمكن أن يدعى الإنسان خاطئًا ولم يكن ممكنًا أن يُدعي متعديًا. أمّا وقد أخطأ بعد استلامه الناموس فلم يعد خاطئا فحسب وإنما متعديًا أيضًا. وهكذا أضيف "التعدي" إلى "الخطيّة" فكثرت الخطيّة جدًا[109].]
إن كان اليهود بفهمهم الحرفي لأعمال الناموس فقدوا تمتعهم بالوعد ودخلوا إلى الغضب، لا كخطاة فحسب وإنما كمتعدين، فإنه من الجانب الآخر الإيمان يفتح لهم كما لأهل الغُرْلة التمتّع بالبنوة لإبراهيم المؤمن.
"لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة،
ليكون الوعد وطيدًا لجميع النسل،
ليس هو من الناموس فقط،
بل أيضًا لمن هو من إيمان إبراهيم الذي هو أب لجميعنا" [16].
وكما يقول الذهبي الفم أنه بدون الإيمان لا يخلص أحد، لأن الناموس بالنسبة لأهل الخِتان لا يبرّرهم بل ينشئ غضبًا، إذ سقط الكل تحت التعدي، لذا جاء الإيمان يرفعهم من الخطر وليس كالناموس. كما يرفع أيضًا أهل الغُرْلة، فيحسب الكل أبناءً لإبراهيم. "كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة" [17]. فكما أن الله هو إله الجميع وليس خاصًا بأمّة معيّنة، هكذا بالإيمان حُسب إبراهيم أبًا للجميع حسب الوعد المُعطي له (تك 17: 5).
3. إيمان إبراهيم وإيماننا
إن كان الإيمان قد فتح الباب على مصراعيه ليدخل كل الأمم إلى النسب لإبراهيم كأبناء له، فما هي مادة هذا الإيمان؟
"كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة،
أمام الله الذي آمن به،
الذي يحي الموتى،
ويدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة" [17].
اقتبس الرسول هذا الوعد: "قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة" (تك 17: 5 الترجمة السبعينية)؛ هذا لا يتحقّق حسب الطبيعة، إذ هو ليس أبًا للأمم حسب الجسد، إنما حسب الإيمان.
مادة إيمانه هي أن الله "يحيي الموتى، ويدعوا الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة". من هم الموتى الذين يُحييهم؟ أو ما هي الأشياء الغير موجودة التي يدعوها كأنها موجودة؟
أولاً: مستودع سارة أو أحشاؤها أشبه بالميّت الذي لا يحمل حياة، وقد وهبه الله اسحق حيًا خلال هذه الأحشاء الميّتة، وكما يقول الرسول نفسه: "وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبره جسده، وهو قد صار مماتًا، إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مماتيّة مستودع سارة" [19]. ما ناله إبراهيم من وعد كان "على خلاف الرجاء"، إذ لم ينظر قط إنسانًا قبله نال ابنًا بهذه الطريقة، وإنما صار هو مثلاً لمن جاء بعده. هو ترجّى الله الذي يُقيم من الموت ويهب حياة، فآمن بالله أنه يعطيه نسلاً كما من العدم، فاتحًا باب الرجاء لمن جاء بعده ممن أنجبوا في شيخوختهم خلال زوجات عاقرات.
ثانيًا: آمن إبراهيم بتمتعه بالأبوة، ليس فقط لإسحق الذي وهبه الله إيّاه في فترة شيخوخته، وخلال مستودع سارة الذي كان في حكم الموت، وإنما أيضًا لأمم كثيرة، هي بحسب الطبيعة ميّتة لا تحمل بنوّة لإبراهيم حسب الجسد، لكن الله يُقيمها من هذا الموت ويقدّمها لإبراهيم أبناء له.
هذا ما أوضحه الرسول بقوله: "فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء، لكي يصير أبًا لأمم كثيرة، كما قيل هكذا يكون نسلك" [18]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه كان على خلاف رجاء البشر في رجاء من جهة الله آمن بالوعد ونال. فكان الإيمان هو سنده، لم يعطِه الله برهانًا، ولا علامة، إنما مجرّد كلمات وعد ومع هذا لم يتردّد، ولا شك مرتابًا مع أن العائق كان عظيما: "ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان معطيًا مجدًا للَّه" [20].
بمعنى آخر ليتنا نتعلم أن الله يتمّم مواعيده معنا مهما كانت العوائق أو المعطّلات، إذ "تيقّن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا، لذلك أيضًا حُسب له برًا" [21-22].
نال إبراهيم الوعد، كما قلت، لا بميلاد اسحق كما من العدم، وإنما بأبوّته لأمم كثيرة، لا خلال الجسد وإنما خلال الإيمان. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الأمم أيضًا تُحسب تحت حكم الموت وعدم الوجود بسبب وثنيّتها، إذ تقبل الإيمان تنال قيامة من الأموات، يصيّرونها شعب الله الحيّ وكنيسة العهد الجديد المقدّسة، لذلك قيل: "أرحم لورحامة (ليست مرحومة) وأقول للوعمى ليست شعبي أنت شعبي" (هو 2: 23).
ثالثًا: إن كانت الخطيّة قد أفقدت الإنسان حياته وجعلته كمن هو غير موجود، فبالإيمان ينعم الإنسان ببرّ المسيح كمن قد أقيم من الموت، أو صار موجودًا بعد فقدانه، كقول الأب عن ابنه الراجع إليه: "لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالا فوُجد" (لو 15: 32). لذلك يقدّم لنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على هذا الأصحاح سلاحًا روحيًا نلتزم باستخدامه، هو الإيمان باسم ربنا يسوع المسيح وقوة الصليب، قائلاً:
[هذا السلاح لا يُخرج الحيّة من جحرها فحسب، وإنما أيضًا يلقيها في النار (أع 28: 5) وتُشفي الجراحات.
إن نطق أحد بهذا الاسم ولم يُشف، فبسبب عدم إيمانه وليس عن ضعف في القول ذاته. لأن البعض التفوا حول يسوع وكانوا يضغطون عليه (لو 8: 44-45) ولم ينتفعوا منه، أمّا المرأة نازفة الدم فحتى بدون لمس جسده، وإنما بمجرد لمس هُدب ثوبه أوقفت ينبوع دمها الذي طال أمده.
هذا الاسم مخيف للشياطين وللسموم والأمراض. ليتنا نجد فيه سرورًا فنتقوّى به...
أي عذر لنا أن نقدّمه، إن كان ظل (الرسل) وثيابهم أقاموا موتى (أع 5: 15)، بينما صلواتنا لا تنزع عنّا الشهوات؟ ما هو علّة هذا؟... فإن طبيعة بولس هي كطبيعتنا، وُلد ونشأ مثلنا، سكن على الأرض واستنشق هواءها مثلنا، لكنه من جانب آخر كان أعظم وأفضل منّا من جهة الغيرة والإيمان والحب. إذن لنقتد به، ولنسمح للمسيح أن يتكلّم خلالنا، فإنه يرغب في هذا أكثر منّا. لقد أعدّ هذا التعليم ويريد ألا يكون ذلك بلا نفع أو معطلاً إنما يودّ أن يستخدمنا...
إن تحدّث المسيح فينا وأشرق الروح القدس بنوره فينا نكون أفضل من السماء، إذ لا تظهر الشمس والقمر في جسدنا بل يظهر رب الشمس والقمر والملائكة ساكنًا فينا وعاملاً.
لست أنطق بهذا لكي نقيم الموتى ونطهر البرص، إنما لنحقق معجزة أعظم من هذا كله هو إعلان المحبّة. لأنه حيث توجد هذه الممجدة يسكن الابن مع الآب والروح القدس... فقد قيل: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون أنا في وسطهم" (مت 18: 20). يتحقّق هذا من أجل الحنو الشديد ورباط الصداقات القوية، أي من أجل من لهم حب بعضهم لبعض....]
إذن ليكن لنا كإبراهيم أبينا الإيمان بالوعد الإلهي، فننال لا القدرة على عمل المعجزات، إنما ما هو أعظم ننال "الحب" الحقيقي في الرب، فننعم بسكنى الثالوث القدوس فينا كسُر حياتنا وفرحنا ومجدنا أبديًا. هذه هي القيامة الأولى التي لنفوسنا!
ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على العبارة "يدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة"، قائلاً: [لقد كنتَ غير موجود فخلقكَ الله ووهبك الوجود، أفلا يهتم بك الآن وقد صرت أنت هكذا، هذا الذي يدعو الأشياء غير موجودة كأنها موجودة؟[110]]
أخيرًا، أكد الرسول بولس أن ما كُتب عن إبراهيم من جهة إيمانه بالقيامة من الأموات، إذ آمن بالله الذي يهبه إسحق من مستودع سارة المُمات، وآمن أن يقيمه أبًا على شعوب ليست من نسله حسب الجسد، كما آمن أن الله يهب البرّ كحياة لمن مات بالخطيّة. فإن هذا كله قد كُتب من أجلنا من جهة إيماننا بالمسيح الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا برّه كحياة جديدة مقامة نمارسها عمليًا، إذ يقول: "ولكن لم يُكتب من أجله وحده أنه حُسب له، بل من أجلنا نحن أيضًا الذين سيحسب لنا، الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" [24-25].
هنا يبرز النقاط التالية:
أ. غاية الحديث الإلهي عن إيمان إبراهيم هو إعلان طريق البرّ الحقيقي خلال الإيمان. فقد تبرّر إبراهيم بالإيمان لكي نتبرّر نحن أيضًا معه كأبناء له نحمل ذات إيمانه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم، لئلاّ يقول المستمع، ما لنا نحن بهذا؟ لذلك ربطنا نحن بأبينا إبراهيم، فنتبرّر مثله، لأننا نؤمن بنفس الإله الذي آمن به إبراهيم، ونثق في ذات الأمور التي وثق فيها، فما حدث لإبراهيم ليس خاصًا به وحده، وإنما يُحدّث مع الكل.
ب. إن كان إبراهيم قد نال وعدًا بخصوص نسله، يتحقّق هذا الوعد فينا بصلب السيد المسيح وقيامته الذي هو من نسل إبراهيم حسب الجسد. إبراهيم آمن بنيل بركة مستقبلة خلال نسله، إذ يقول السيد: "أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56)، أمّا نحن فقد تمتّعنا بهذا الوعد بصلب السيد المسيح وقيامته.
يقول العلامة ترتليان: [ها أنتم ترون حكمة الله كيف ذبحَت ذبحها (أم 9: 2)، البكر الابن الوحيد يحيا ويردّ الآخرين للحياة. أقول أن حكمة الله هو المسيح الذي بذل ذاته لأجل خطايانا[111].]
ج. إذ يحدّثنا الرسول بولس عن إيمان إبراهيم، يقدّم لنا ملخصًا لإيماننا، غالبًا ما كان نصًا كنسيًا تسلّمه الرسل وسلّموه، ألا وهو: "أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا" [25].
لقد أسلم للصليب بإرادة الآب (رو 8: 32؛ غل 1: 3) كما بإرادته هو (غل 2: 20؛ أف 5: 2؛ تي 2: 14) ليكفِّر عن خطايانا (3: 25؛ إش 53: 5-6؛ عب 9: 28؛ 1 بط 2: 21-24)؛ وأُقيم ليهبنا برّه عاملاً فينا، إذ نحمل الحياة الجديدة المُقامة.
<<
الأصحاح الخامس
بنوّتنا لآدم الواحد
إذ يعالج الرسول بولس موضوع انتساب اليهود لأبينا إبراهيم حسب الجسد أبرز أن إبراهيم قد تبرّر وهو في الغُرْلة كما وهو في الخِتان خلال إيمانه، ليحمل أبوة صادقة روحية لكل مؤمنٍ حقيقيٍ. والآن يودّ الرسول بطريقة غير جارحة أن يظهر رجل الإيمان الأعظم إبراهيم، أنه ابن آدم، أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت مملكة الموت بسبب عصيان آدم، فكان محتاجًا إلى من يبرّره. بمعنى آخر خلال الظلام والرموز تبرّر إبراهيم نفسه ببرّ المسيح، إذ بدون إيمان لم يكن ممكنًا أن يتبرّر، وكما قال القدّيس جيروم: [قبل مجيء المسيح كان إبراهيم في المواضع السفلية بينما بعد مجيئه صار اللص في الفردوس[112].]
كأن الرسول يودّ أن يوجّه أنظار الكل، اليهود والأمم، إلى برّ المسيح الذي اشتهاه إبراهيم نفسه (يو 8: 56) عِوض الافتخار بالانتساب لإبراهيم حسب الجسد.
بدأ الأصحاح بالكشف عن ثمر برّ المسيح، ليحدّثنا عن حالنا كأبناء لآدم، من بيننا إبراهيم نفسه، ثم عن حالنا خلال آدم الثاني أو الجديد.
1. ثمار برّ المسيح1-11.
2. آدم وبنوه تحت الموت12-14.
3. آدم الثاني والنعمة15-21.
1. ثمار برّ المسيح
كعادة الرسول بولس قبل أن يبرز الجانب السلبي وهو خضوع آدم وبنيه تحت حكم الموت بسبب العصيان، بما فيهم رجل الإيمان إبراهيم، أبرز في إيجابيّة ثمار برّ المسيح التي يتمتّع بها كل أبناء إبراهيم الروحيين، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ. التمتّع بالسلام مع الله[1].
ب. نعمة حاضرة ورجاء لمجد أبدي[2].
ج. ارتفاع فوق الضيقات[3-4].
د. عطيّة الروح القدس واهب الحب[5].
ه. اختبار محبّة الله بالصليب[6-11].
ويلاحظ في هذه الثمار الفائقة الآتي:
أ. ننعم بلقاء الثالوث القدوس، ونختبر حُبّه وعمله فينا: (سلام مع الله الآب، انسكاب الحب بالروح القدس الساكن فينا، اختبار للحب الإلهي بصليب ربنا يسوع المسيح).
ب. ثمار على مستوي أبدي، إذ ننعم بمصالحة أبدية ومجد أبدي. لكنّنا ننال العربون حاضرًا الآن في حياتنا: "هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" [2].
الآن في أكثر تفصيل نتحدث عن هذه الثمار:
أولاً: التمتّع بالسلام مع الله
"فإذا قد تبرّرنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح " [1].
يبدو لي أن "السلام مع الله" هنا يحمل معنى غير السلام من الله (رو 1: 7) أو "سلام الله الذي يفوق كل عقل" (في 4: 7)، فإن السلام الإلهي الذي ننعم به إنما هو "سلامنا الداخلي" الذي يهبه الله كعطيّة روحية، يعطي للإنسان انسجامًا في الغاية والسلوك، فيعمل الإنسان بنفسه كما بجسده بسلام الله لحساب الملكوت، كما يهبه سلامًا مع الآخرين مشتاقًا أن يبذل كل حياته لحسابهم في المسيح يسوع؛ أمّا "السلام مع الله" فيعني تغيير شامل لمركزنا من حالة العداوة التي كنّا فيها إلى حالة بنوّة وحب وصداقة. أو تعني انطلاقنا من حالة الانحدار التي بلغناها بسبب خطايانا وعصياننا، لندخل خلال الدم إلى حالة مصالحة مع الآب، فنُحسب بالمسيح يسوع الابن الوحيد أبناء له، موضع سروره ورضاه. هذا هو أول ثمر "برّ المسيح"، إننا نختفي فيه لنُحسب أبرارًا فيه، ومصالحين، نحيا كأبناء في سلام حقيقي مع الآب. بذات الفكر يقول معلمنا بطرس الرسول: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البارّ من أجل الآثمة، لكي يقرّبنا إلى الله" (1 بط 3: 18).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا يعني "لنا سلام"؟ يقول البعض: ألا نكون على خلاف بارتكاب معاصي ضد الناموس، أمّا بالنسبة لي، فأظن أن ما جاء هنا يخص مناقشتنا، لأنه بعدما تحدّث كثيرًا عن موضوع الإيمان، وقد وضعه قبل البرّ بالأعمال، فلئلا يظن أحد أن ما قاله يُحسب أساسًا للتهاون، لذلك قال: "ليكن لنا سلام"، بمعنى "ليتنا لا نخطيء بعد"، "ليتنا لا نعود مرة أخري إلى حالنا القديم"، إذ يسبّب هذا حربًا مع الله. كيف يمكن تحقيق هذا؟ إن كنّا ونحن نحتمل خطايا كثيرة هكذا نتحرر منها جميعًا بالمسيح، فإننا بالأكثر نستطيع أن نبقى على هذا الحال بالمسيح. فإن ثمة فارق بين تقبلنا السلام حيث لم يكن موجودًا، وبين احتفاظنا به حين يكون لدينا، لأن نواله أصعب من الاحتفاظ به بالتأكيد، ومع هذا فإن ما هو أصعب صار ميسورًا وتحقق. لذلك يلزمنا أن نسعى وراء ما هو أسهل بالتصاقنا بالمسيح الذي وهبنا ما هو أصعب... إن كان قد صالحنا في الوقت الذي كنّا فيه في حرب مع الله، فمن المعقول أن نبقى في حالة المصالحة[113]...]
بمعنى آخر نحن الذين كنّا في حالة عداوة مع الآب صرنا في سلام معه بربنا يسوع، فكم بالأكثر وقد تصالحنا معه أن نبقى هكذا، لكن ليس بجهادنا الذاتي وإنما بربنا يسوع نفسه. لنبقى في "سلام" كعطيّة إلهية، وفي نفس الوقت دخول في علاقة قربى معه! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان قد أحضرنا إليه لنكون قريبين منه عندما كنّا بعيدين، كم بالأكثر يحفظنا الآن ونحن قريبون[114]؟]
ثانيًا: نعمة حاضرة ورجاء لمجد أبدي
"الذي به أيضًا قد صار لنا الدخول بالإيمان
إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون،
ونفتخر على رجاء مجد الله" [2].
لم يعد الزمن يمثل رعبًا بالنسبة لنا، فالماضي بالنسبة للكثيرين مفقود والحاضر مؤلم والمستقبل مجهول، أمّا وقد دخلنا بالإيمان إلى "برّ المسيح"، صار الماضي بركة لنا، إذ نرى أحداث الفداء التي عبرت كتاريخٍ لا تزال حيّة وفعُالة في أعماقنا وتصرّفاتنا، وصار الحاضر بالنسبة لنا مفرحًا إذ نسلك "بالنعمة الإلهية" متمتّعين بالسلام مع الله، أمّا المستقبل فمكشوف إذ نعيش على "رجاء مجد الله". هكذا لم يعد الزمن بالنسبة لنا مرعبًا ولا مفقودًا، الماضي حاضر بالنسبة لنا، والحاضر عربون المستقبل، والمستقبل حال خلال عربون الحاضر.
الإيمان بالمصلوب فتح لنا بالـ "النعمة التي نحن فيها مقيمون"، نعمة البنوّة التي نلناها في مياه المعموديّة بالروح (يو 3: 5)، خلالها نختبر أحداث الصلب والقيامة كحياة واقعية حاضرة ونعتزّ بالتمتّع بمجد الله الأبدي، بكوننا "ورثة الله، ووارثون مع المسيح" (رو 8: 17).
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية قائلاً:
[اسمحوا لي أن أسألكم أن تتأمّلوا كيف يؤكّد الرسول في كل موضع نقطتين: جانب الله وجانبنا، فمن جانب الله، كيفما كان، توجد أمور كثيرة، عديدة ومتنوّعة، إذ مات من أجلنا وصالحنا وجبَلنا إليه ووهبَنا نعمة لا ينطق بها. أمّا نحن فمن جانبنا نقدم إيمانًا (حيًا) فقط، لذلك يقول: "بالإيمان إلى هذه النعمة". اخبرني: أيّة نعمة هذه؟ أنك حُسبتَ أهلاً لمعرفة الله، وانتزعت عن الخطأ وتعرفّتَ على الحق ونلتَ كل بركات المعموديّة؟ لأن غاية إحضارنا إليه هو تقبُّل هذه العطايا. فإننا لم ننل غفران الخطايا فحسب لنكون مُصالحين، وإنما لننال بركات لا حصر لها.
لم يقف عند هذا الحد إنما وعدنا ببركات أخرى، بركات لا يُنطق بها، تفوق الإدراك واللغة، لهذا لم يحدّثنا عنها. فبإشارته للنعمة أوضح ما نلناه حاليًا، وبقوله: "ونفتخر (نبتهج) على رجاء مجد الله" [2]. يكشف عن كل الأمور العتيدة.
حسنًا قال: "التي نحن فيها مقيمون" [2]، لأن هذه هي طبيعة نعمة الله، أنها بلا نهاية ولا تعرف الحدود، بل على الدوام ننعم بأمور أعظم، على خلاف ما يُحدّث في الأمور البشريّة. أعطيك مثلاً لما أقصده: إن نال إنسان سيادة ومجدًا وسلطانًا لا يقيم في هذه الأمور على الدوام، إنما سرعان ما تُسحب منه. فإن لم يسحبها منه إنسان آخر يأتيه الموت الذي يسحبها منه بالتأكيد. أمّا عطايا الله فليست من هذا النوع إذ لا يستطيع إنسان ولا ظروف ولا كوارث ولا حتى الشيطان أو الموت أن يسلبها، بل بالعكس عندما يحلّ الموت تتأكد بالأكثر ملكيتنا لها وثبوتنا فيها ويزداد تمتّعنا بها أكثر فأكثر... لهذا يقول: "نبتهج على رجاء مجد الله"، لكي تتعلم ما هي النفس التي يليق بالمؤمن أن تكون له. ليس فقط نعرف ما هي العطايا التي تقدّم وإنما لمن تقدّم، فنمتلئ ثقة أنها قُدِّمت فعلاً، إذ يبتهج الإنسان بكونه قد نالها فعلاً... وقد دعاها "مجدًا"؛ إذ هي شركة في مجد الله[115].]
هكذا يركّز القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تعبير "مقيمون فيها" علامة استمرارية عمل نعمة الله في حياتنا متى خضعنا لها وقبلّناها متجاوبين معها، ولا يقف الأمر عن الاستمرارية، وإنما تزداد قوّة فينا وبهاءً مع الزمن حتى متى بلغنا الخروج من هذا العالم ننعم بالشركة في المجد الإلهي.
ثالثًا: الارتفاع فوق الضيقات
ربّما يتساءل البعض: إن كان الإيمان بالمسيح يدخل بنا إليه لنحمل برّه فينا فننعم بالسلام مع الله، وإذ نقيم في هذه النعمة ينفتح قلبنا على رجاء المجد الإلهي، فما هو عمل هذا البرّ في حياتنا وسط الضيقات التي لا تنقطع؟
يجيب الرسول على هذا التساؤل معلنًا أن السيد المسيح ببرّه الذي يهبه لنا لا ينزع عنّا الضيقات، بل يرفعنا فوق الضيقات، فنجتازها أو تعبر هي بنا، ونحن في اعتزاز نراها سرّ تزكيتنا أكثر فأكثر، فلا يتحطم رجاؤها باليأس، بل بالعكس يلتهب رجاؤنا في المجد، خلاص صبرنا في الضيقات، إذ يقول: "وليس ذلك فقط بل نفتخر (نتمجد) أيضًا في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشىء صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاء" [4].
كأن عمل المسيح لا يمس المجد الأبدي فحسب وإنما يمس حياتنا اليومية لا بتغيير الظروف المحيطة بنا لننعم بسلامٍ زمنيٍ، وإنما بتغيير القلب الداخلي والفكر، فنسمو فوق الآلام، إذ نراها طريق الشرّكة مع المسيح المتألم، وسبيل التمتّع بالتزكية خلال الصبر. وكما يقول القدّيس بطرس: "لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد" (1بط 1: 7)، ومعلمنا يعقوب: "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكي ينال إكليل الحياة" (يع 1: 12).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[فإنه حتى في الضيقات الحاضرة تعطينا (نعمة الله) القدرة على تلألؤ ملامحنا، وتجعلنا بالأكثر مستحقّين لمكافأتنا...
الآن، لنتأمل عظمة الأمور المقبلة، فإنه حتى بالنسبة للأمور المسبّبة الحزن نفرح. عظيمة هي عطيّة الله، ليس فيها شيء كريه، لأنه في الخيرات الخارجية يسبّب الجهاد من أجلها تعبًا وألمًا وضيقًا كمرافق لها، لكن الأكاليل والمكافآت تردّ البهجة معها. أمّا هنا فالحال مختلف، لأن نكهة الضيقات فيها بالنسبة لنا لا تقل عن نكهة المكافآت. ففي هذه الأيام توجد تجارب ثانوية، لكن يوجد رجاء في الملكوت؛ يحل الرعب الآن لكن يوجد توقع للخيرات... أنه يعطي جزاء هنا قبل نوال الأكاليل بالقول أنه يجب أن "نتمجد (نفتخر) بالضيقات"... مقدمًا نفسه مثلاً لهم لتشجيعهم... يتمجّدون فيها ليس فقط من أجل الأمور المقبلة، وإنما أيضًا من أجل الحاضر، فإن الضيقات صالحة في ذاتها، كيف هذا؟ لأن الضيقات تعطينا مسحة "الصبر"، لذلك بعد قوله أننا نتمجّد بالضيقات قدّم السبب هكذا: "عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا"...
"والصبر تزكية، والتزكية رجاء". فالضيقات التي هي (بالطبيعة) بعيدة عن الرجاء تصير تزكية للرجاء ومؤكدة له. فإنه قبل نوال الأمور المقبلة ينشئ الضيق ثمرًا عظيمًا جدًا هو "الصبر"، فيجعل من الإنسان المُجرٌب صاحب خبرة؛ وفي نفس الوقت يساهم إلى درجة ما في الأمور المقبلة، إذ يهب رجاءً ملتهبًا فينا، فإنه ليس شيء يجعل الإنسان يميل إلى الرجاء في البركات مثل الضمير الصالح... نعم يهب رجاءً، لكنه ليس رجاءً بشريًا غالبًا ما يزول، ويُخزى من يتوقعه... لا، فإن نصيبنا ليس هكذا، إنما رجاؤنا أكيد وثابت، لأن مقدم الوعد حيّ إلى الأبد، ونحن الذين نتمتع به، وإن كنّا نموت لكنّنا سنقوم ثانيًا، فلا يخزى رجاؤنا[116].]
يشعر القدّيسون ببركة الضيق في هذا العالم، إذ يمجّدهم داخليًا في عيني الله، لكي يتجلّى هذا المجد بالأكثر في الحياة العتيدة، لذلك يقول القدّيس جيروم: [لا يطلب القدّيس الراحة بل الضيق[117].]
إن رجعنا إلى كلمات القدّيس يوحنا الذهبي الفم نلاحظ نظرته الإنجيليّة العجيبة لتعبير "الصبر"، فإنه لا يتطلّع إليه كجهادٍ بشريٍ مجرّد أو قُدرة إنسانية على احتمال الضيق، وإنما يراه "مكافأة"... كيف يكون هذا؟ لأن "الصبر" هو سمة تمس حياة السيد المسيح، الذي قيل عنه: "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي... فتفكّروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلاّ تكلّوا وتخوروا في نفوسكم" (عب 12: 2-3). مرة أخرى يقول الرسول: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبّة الله وإلي صبر المسيح" (2 تس 3: 5). إذًا فالصبر هو عطيّة إلهية، أو هو شركة في "صبر المسيح" تعطي عذوبة للنفس وسط الآلام، أو قل مجدًا خفيًا وسط الضيقات. هذا ما أكّده القدّيس يوحنا الحبيب بقوله: "شريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره" (رؤ 1: 9).
إذن الضيق ينشىء صبرًا، هو شركة في صبر المسيح!
رابعًا: عطيّة الروح واهب الحب
إن كان السيد المسيح يُعلن برّه فينا برفعنا داخليًا فوق الآلام وجعلها مصدر مجد حتى في هذا الزمان الحاضر، لنحتمل الضيقات بصبر المسيح على رجاء المجد الأبدي، فإنه من جانب آخر يهبنا بروحه القدوس "محبة الله" منسكبة في قلوبنا لكي تسندنا فلا يخزى رجاؤنا. بمعنى آخر صبرنا في التجارب واحتمالنا للألم لا يقف عند قوّة عزيمتنا أو إمكانيّاتنا البشريّة، إنما على عمل الله فينا، إذ يسكب حُبّه بفيض على المجاهدين روحيًا لأجل اسمه وبقوّة نعمته.
يقول الرسول: "والرجاء لا يخزى لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" [5]. سرّ القوّة في الضيق، وانفتاح الرجاء في قلوبنا عطيّة الروح القدس الساكن فينا، إذ يهبنا محبّة الله غير المتغيّرة بفيض، قائلاً: "انسكبت" وكأنها تُعطى بلا حساب كمن تنسكب من السماء لتملأ القلب.
v لم يقل الرسول "قد أعطيت" بل قال: "انسكبت في قلوبنا" ليظهر فيضها.
هذه العطيّة هي العظمى، فإنه لم يهبنا السماء ولا الأرض ولا البحر، إنما ما هو أثمن من هذه كله، جعلنا نحن البشر ملائكة، نعم بل أبناء الله وإخوة المسيح. لكن ما هي هذه العطية؟ الروح القدس!
لو لم يكن يريد أن يقدّم لنا أكاليل عظيمة على جهادنا لما وهبنا مثل هذه العطايا القادرة أن تسندنا في جهادنا. هنا يُعلن دفء محبته التي يكرمنا بها لا تدريجيًا ولا شيئًا فشيئًا، وإنما يسكبها بفيض بكونها ينبوع بركاته، وذلك قبل صراعنا.
هكذا وإن كنت لست مستحقًا بالمرة، لكنه لم يزدرِ بكَ، بل وهبكَ حب ديّانك كمعين قدير يسندك، لهذا يقول الرسول: "والرجاء لا يخزي"، ناسبًا كل شيء لمحبّة الله وليس لأعمالنا الذاتية الصالحة.
بعدما أشار إلى عطيّة الروح القدس عاد ليتحدّث ثانية عن الصليب[118].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v كأنه يقول أن محبّة الله قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا...
سامية هي فضيلة الحب المبجّلة، إذ يُعلن الرسول الطوباوي يوحنا أنها ليست فقط تُنسب لله بل هي الله: "الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه" (1يو 4: 16) [119].
الأب يوسف
v بهذا (القول الرسولي) نفهم أن الروح القدس ليس عملاً وإنما هو المدبر وينبوع الحب الإلهي الفائض[120].
القدّيس أمبروسيوس
v كما أن جسدك إن صار بلا روح، أي بدون نفسك يكون ميتًا، هكذا نفسك بدون الروح القدس، أي بدون المحبّة، تُحسب ميّتة.
v إن كان حب الله المنسكب في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا يجعل النفوس الكثيرة نفسًا واحدة، والقلوب الكثيرة قلبًا واحدًا، فكم بالأحرى يكون الآب والابن والروح القدس الله الواحد، النور الواحد، والبدء الواحد؟
v إذ نكون أعضاء تربطنا الوحدة معًا؛ ما الذي يقيم هذه الوحدة إلا الحب الذي يربطنا معا؟
v ليكن لك حب فيكون لك الكل؛ وبدونه كل ما يمكن أن يكون لك لا ينفعك شيئًا. إنما ما يجب أن تعرفه هو أن الحب الذي نتكلم عنه يُشير إلى الروح القدس. اسمع ما يقوله الرسول: "محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا"[121].
القدّيس أغسطينوس
v [عن عمل الروح القدس في قلوب الشهداء بسكب حب الله فيهم.]
لقد جعلهم شهداءه بالروح القدس الفعُال فيهم، إذ يجعلهم يحتملون أتعاب الاضطهادات من كل نوع، ويصيرون متلألئين بالنار الإلهية، فلا يفقدون دفء محبتهم للكرازة[122].
القدّيس أغسطينوس
v إنه يقول: "محبّة الله المنسكبة في قلوبكم"؛ ولكي لا يظن أحد أن محبّة الله هي من عندياته يضيف: "بالروح القدس المُعطى لنا". لذلك لكي تحب الله دعْ الله يسكن فيك، فيكون "الحب" ذاته فيك، بمعنى أن محبته تحركك وتلهبك وتنيرك.
v لا تتقبل الملائكة ولا البشر الحكمة إلا بالشركة في هذه الحكمة التي نتّحد بها بالروح القدس الذي يسكب الحب في قلوبنا[123].
القدّيس أغسطينوس
v [الحب الإلهي المنسكب في قلوبنا بالروح القدس يهبنا لا قدرة على تحقيق الوصايا الناموسية فحسب وإنما لذّة في تحقيق الوصايا الإنجيليّة التي تبدو صعبة ومستحيلة:]
"لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس" (رو 5: 5).
بهذا يُنزع عنّا كل اهتمام بأي أمر آخر، ولا يرغب (المؤمن) في صنع ما هو ممنوع منه، أو يهمل فيما قد أُمر به. لكن إذ يكمل كل هدفه وكل اشتياقه في الحب الإلهي على الدوام، لا يقع في التلذذ بالأمور التافهة، بل ولا يطلب حتى الأمور المسموح له بها.
فتحت الناموس يسمح بالزوجات الشرّعيات، وهذا فيه قمع للذّة والخلاعة مكتفيًا الإنسان بامرأة واحدة، لكنه لا يبطل بهذا وخزات الشهوة الجسدانيّة، ويصعب إطفاء النار المتقدة والتي تُمون بوقود دائم، حتى لا تخرج إلى الخارج... أمّا الذين تضرمهم نعمة المخلص بحب الطهارة المقدس، فإنهم يهلكون كل أشواك الشهوات الجسديّة بنار الحب الإلهي...
كذلك من يقنع عند حد دفع العشور والبكور... بالتأكيد يخطئ في طريقة التوزيع أو كميته... أمّا الذين لم يزدروا بنصيحة الرب بل تركوا كل ممتلكاتهم للفقراء، وحملوا صليبهم، وتبعوا مانح النعمة لا يكون للخطية سلطان عليهم، إذ لا يساورهم القلق من جهة طعامهم اليومي... فالشخص الذي يدفع العشور والبكور... يستحيل عليه أن يتخلص من سلطان الخطية، وأما الذي تبع نعمة المخلص، فإنه يتخلص من حب الامتلاك[124].
الأب ثيوناس
خامسًا: اختيار محبة الله بالصليب
إذ يتحدث الرسول عن "برّ المسيح" يربط عمل الأقنوم الثاني أي كلمة الله المتجسد (السيد المسيح) بعمل الأقنومين الأول والثالث، فخلال برّ المسيح يعمل الأب إذ يهبنا روحه القدوس (الأقنوم الثالث) ساكنًا فينا، يسكب الحب الإلهي في أعماقنا. بمعنى آخر "الإنسان" هو موضوع لذّة الله الواحد المثلّث الأقانيم، يعمل فيه بلا انقطاع ليبلغ به إلى أمجاده كابن وحبيب وصديق نحيا معه أبديًا.
هكذا يعمل الثالوث القدوس فينا فيسكب حب الله في قلوبنا، الذي تجلّى في كمال أعماقه خلال عمل المسيح الخلاصي، إذ يقول الرسول:
"لأن المسيح إذ كنّا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفُجّار.
فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار،
ربّما لأجل الصالح يجسر أحد أيضًا أن يموت،
فبالأولى كثيرًا ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب.
لأنه إن كنّا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه،
فبالأولي كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته.
وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا بالله بربنا يسوع المسيح
الذي نلنا به المصالحة" [6-11].
هذا هو ما يعلنه الروح القدس فينا: محبّة الله الفائقة لمصالحتنا خلال الصليب؛ ويلاحظ في هذا الإعلان الآتي:
أ. يسمى الرسول هذا الإعلان "سكب محبّة الله في قلوبنا". يوجد فارق بين المعرفة الفكرية للصليب التي يمكن أن نتمتّع بها خلال دراسة الكتاب المقدس، خاصة خلال شهادة الناموس والنبوّات التي مهدت أفكارنا لإدراك سرّ الفداء، أو سرّ محبّة الله بالصليب، وبين معرفة الخبرة التي يهبها الروح لأعماقنا في الداخل، حيث ينطلق بالنفس إلى الصليب لتلتقي بعريسها المصلوب، وتدرك حُبّه لها شخصيًا، فتلتهب بنيران المحبّة الحقيقية، وتشتهي أن ترد الحب بالحب.
ب. هذه المحبّة التي يسكبها الروح فينا ليست بجديدة بالنسبة لله، فهي في تدبيره الأزلي، لكنه حقّقها في الوقت المناسب لخلاصنا، أو "في الوقت المعيّن"، أو في "ملء الزمان"، إذ قيل: "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي" (غل 4: 4-5).
ج. قدّم الله هذا الحب من أجلنا، وقد دعانا "ضعفاء"، "الفُجّار"، فمن جهة كنّا ضعفاء مغلوبين بالخطيّة ساقطين تحت سلطان عبوديّتها. وفي نفس الوقت دعانا "فُجّارا" إذ لم نستسلم لها عن ضعف فحسب وإنما التهبت فينا، فصرنا نمارسها بعنف بكمال حريتنا، عن معرفة أيضًا وفي تهوّر.
كخطاة نشعر أننا ضعفاء في حاجة إلى طبيب يعالج ضعفنا، واهبًا إيّانا القوّة عِوض الضعف؛ وفُجّار نحتاج إلى القدوس يهبنا الاتحاد معه لينزع فسادنا وتجبُّرنا ممارسين قداسته فينا.
د. أراد إظهار عظمة محبّة الله لنا، إذ قدّم السيد المسيح حياته لنا ونحن ضعفاء وفُجّار، فبحسب المنطق البشري بالجهد أو بالكاد يمكن لأحد أن يموت عن بار، وربما يجسر أحد ويخاطر بحياته من أجل صالح، أما أن يموت أحد عن فاجرٍ شريرٍ، فهذا يبدو مستحيلاً!
ما الفارق بين البارّ والصالح؟ جاء في كتب ربانيي اليهود أن البارّ هو من يقول لجاره كل ما هو لي فهو لي وكل ما هو لك فهو لك، وأن الصالح يقول لجاره كل ما هو لك فهو لك وكل ما هو لي فهو لك[125]. بمعنى آخر البارّ يسلك بالعدل، فيعطي كل إنسان حقّه، متمسكًا بحقّه هو أيضًا، أمّا الصالح فيسلك بالحب يودّ أن يعطي ماله للآخرين. أمّا في مفهومنا المسيحي فالبار هو من يحمل برّ المسيح فيه، والصالح هو من يحمل صلاح المسيح فيه؛ وكأن البرّ والصلاح في حياتنا هما تجلّي سمتا المسيح في حياتنا.
لم يمت السيد المسيح من أجل صالحين وأبرار، وإنما من أجل الخطاة المقاومين له، الذي حملوا له العداوة.
v إن كان من أجل إنسانٍ فاضلٍ لا يسرع أحد بالموت عنه، فتأمل محبّة سيّدك إذ صُلب لا من أجل أناس فضلاء، بل من أجل خطاة وأعداء[126].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v أحبّنا ونحن نمارس العداوة ضده، ونرتكب الإثم، ومع ذلك فبحق كامل قيل: "يا رب أبغضت جميع فاعلي الإثم" (مز 5: 5). بهذا فإنه لأمر عجيب وإلهي أنه حتى حيث يبغضنا يحبنا، إذ هو يبغض فينا ما لم يخلقنا عليه... يبغض ما لم يصنعه فينا، ويحب ما خلقه فينا (يبغض الشرّ ويحب النفس مشتاقًا إلى خلاصها[127]).
القدّيس أغسطينوس
ه. إذ يحدثنا الرسول عن " برّ المسيح " الذي تُعلن مكافأته بكمالها في الحياة العتيدة الأبدية، يرى القديس يوحنا الذهبي الفم [128] أن الرسول أراد في هذا الأصحاح تأكيد التمتع بالوعود الإلهية الخاصة بالمجد الأبدي، وذلك بالبراهين التالية:
v الإيمان بالله الذي وعد، أنه قادر أن يحقق وعده [1].
v النع
إبراهيم دعي في الغُرْلة
في الأصحاحات الثلاثة السابقة أظهر الرسول بولس فساد كل البشريّة، يستوي في ذلك اليهود كما الأمم، وصار الكل في حاجة إلى من يخلص ويبرر، والآن يقدّم الرسول مثلين لرجلين بارّين من رجال العهد القديم، أحدهما إبراهيم بكونه أب الآباء وقد تبرّر خلال إيمانه وهو بعد في الغُرْلة قبل ممارسة أعمال الناموس خاصة الخِتان. والثاني هو داود الذي نال الوعد أن من صُلبه يأتي المسيّا الملك، وهو من أهل الخِتان لكنه يقدّم التطويب لمن يتبرّر لا بأعمال الناموس بل بالإيمان.
ركّز الرسول بالأكثر على شخصية "إبراهيم" لأن اليهود كانوا يشعرون أنهم أحرار لمجرد انتسابهم له بالجسد. هذه العقيدة دفعتهم إلى العجرفة والكبرياء عِوض أن تدفعهم للحياة بفكر إبراهيم وإيمانه والامتثال به في سلوكه، فجاء الرسول يفنّد هذه العقيدة، مظهرًا أن سرّ قوّة إبراهيم تكمن في إيمانه الحيّ الذي عاشه وهو في الغُرْلة، كما عاش وهو في الخِتان، لذا فهو أب لأهل الغُرْلة كما لأهل الخِتان.
1. إبراهيم والإيمان1-8.
2. إبراهيم أب جميع المؤمنين9-16.
3. إيمان إبراهيم وإيماننا17–25.
1. إبراهيم والإيمان
إذ كان الرسول يُعلن عجز أعمال الناموس عن تقديم برّ الله، ليفتح الباب للبشرية كلها فتنعم بهذا البرّ خلال الإيمان، انتقل إلى الحديث عن إبراهيم بكونه أول من نال عهد الخِتان ليوضّح أن إبراهيم أيضًا لم يتبرّر بالخِتان (أعمال الناموس) وإنما بالإيمان، إذ يقول: "فماذا نقول أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد، لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدي الله" [1-2].
ويلاحظ في حديث الرسول عن إبراهيم وارتباطه بالإيمان الآتي:
أولاً: "فماذا نقول: أن أبّانا إبراهيم قد وُجد حسب الجسد؟" [1]. كأن الرسول بولس يحدد العلاقة التي تربطهم بإبراهيم كأب إنما هي "حسب الجسد"، الأمر الذي يُضعف صلتهم به ماداموا لا ينعمون بأبوته خلال إيمانه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:[أنه بهذا يفسح المجال أمام الأمميّين ليدخلوا هم أيضًا في قرابة مع إبراهيم خلال الامتثال بإيمانه[104].]
ثانيًا: لماذا اختار الرسول بولس إبراهيم مع أنه قد سبقه هابيل الذي قيل عنه "أنه بار" (عب 11: 4)، ونوح الذي قيل أنه كان "رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" (تك 6: 9)؟
يردّ على ذلك أن الرسول اختار إبراهيم لعدة أسباب رئيسية منها:
أ. أن اليهود كانوا يفخرون بنسبهم لإبراهيم كأب للمؤمنين، فحينما حدّثهم السيد المسيح عن الحرّية، "أجابوه: أننا ذُرّية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟" (يو 8: 33). فقد أراد الرسول أن يفنّد هذه الحُجّة.
ب. لم يُدعَ هابيل ولا نوح أبًا للمؤمنين، أمّا إبراهيم فقد جاء عنه: "لأني أجعلك أبًا لجمهور من الأمم" (تك 17: 4).
ج. لأن إبراهيم يعتبر حلقة الوصل بين أهل الغُرْلة وأهل الخِتان، عاش متبررًا بالإيمان وهو في الغُرْلة، وإذ نال الوعد الإلهي وتمتع بالخِتان كعلاقة للعهد عاش أيضًا متبررًا بالإيمان وهو في الخِتان. بهذا ضمّ المؤمنين من أهل الغُرْلة وأهل الخِتان في شخصه، خلال الإيمان.
ثالثًا: لا ينكر الرسول بولس أن لإبراهيم أن يفتخر من جهة الأعمال، لكن ليس لدي الله، لأن ما مارسه من أعمال الناموس كالخِتان لا فضل له فيه إنما هو عطيّة الله له خلال العهد الذي أقامه الله معه، وله أيضًا أن يفتخر من جهة الإيمان، بهذا له أن يفتخر لا متعاليًا على الله، وإنما يفتخر أنه ارتمى في حضن الله، ليغتصب بالإيمان مواعيد الله وعهوده، ويحسب بارًا في عينيه. يقول الرسول: "لأنه أن كان إبراهيم قد تبرّر بالأعمال فله فخر، ولكن ليس لدى الله، لأنه ماذا يقول الكتاب: فآمن إبراهيم بالله فحُسب له برًا" [2-3].
إن قورن إبراهيم بمعاصريه من البشر فله فخر بأعماله أمام البشر، سواء بكونه أول من اُختتن كعلامة عهد بينه وبين الله أو أعظم معاصريه في الأعمال الصالحة. أمّا أمام الله ففخره الحقيقي أنه اغتصب برّ الله بإيمانه الحيّ العملي، المُعلن خلال طاعته له سواء بالعبادة له وسط جوّ وثني أو بالخروج من أرضه وعشيرته وبيت أبيه (تك 12)، أو عدم محبته للنصيب الأكبر في معاملته مع لوط ابن أخيه (تك 13)، أو حُبّه لإضافة الغرباء (تك 18)، أو شفاعته عن إخوته في البشريّة (تك 18)، أو تقديم ابنه ذبيحة (تك 28) الخ. هذه التصرفات جميعها وغيرها إنما كانت نابعة عن إيمانه بالله وملتحمة به، فجاءت تمجد الله.
بمعنى آخر لم يكن لإبراهيم أن يفتخر بأعمال الناموس في ذاتها، إنما بإيمانه الحيّ العملي الذي به حُسب بارًا في عيني الله فاحص القلوب.
بهذا نوفِّق بين ما يقوله الرسول بولس هنا وبين ما ورد في رسالة معلمنا يعقوب الرسول: "ألم يتبرّر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدّم اسحق ابنه على المذبح؟ فترى أن الإيمان عمل من أعماله، وبالأعمال أكمل الإيمان، وتمّ الكتاب القائل: "آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا، ودعي خليل الله" (يع 2: 21-23).
يُعلن الرسول بولس أن إبراهيم لم يتبرّر أمام الله خلال أعمال الناموس، كالخِتان والتطهيرات والغسالات، إنما تبرّر خلال الإيمان الحيُ، ومعلمنا يعقوب يُعلن أن إبراهيم لم يتبرّر خلال إيمان شفهي نظري جامد إنما خلال الإيمان المترجِّم عمليًا كذبيحة اسحق، وكأن الأعمال التي يذكرها القدّيس يعقوب إنما هي أعمال الإيمان وليست خارج الإيمان! يحذّر الرسول بولس من الاتّكال على حرفيّة أعمال الناموس ويحذّر الرسول يعقوب من الاتّكال على الإيمان الخالي من الأعمال، أو الإيمان النظري غير الحيُ، هذه الأعمال التي يسألنا الرسول بولس أن نمارسها بالمسيح يسوع ربنا، إذ يقول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحةٍ قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 2: 10).
رابعًا: آمن أبونا إبراهيم وأيضًا مارس أعمال الناموس، إذ قبِل الخِتان في جسده كما خَتن ذكور بيته، لكن شتّان بين الإيمان وأعمال الناموس، إذ يقول الرسول: "أما الذي يعمل فلا تُحسب له أجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين" [4].
أيهما أعظم: الأجرة التي ينالها الإنسان مقابل أعمال الناموس، أم النعمة التي ينالها مقابل الإيمان؟ بلا شك البرّ أعظم من الأجرة، لأن البرّ يعني عفو الله عن آثامنًا، ليهبنا برّه عاملاً فينا فننال مجدًا أبديًا. وقد اقتبس الرسول من المرتّل داود العبارة: "طوبى لمن غفرت آثامهم" [7]. وكما يقول القدّيس ذهبي الفم: [لا يقدّم بولس هذه العبارة اعتباطًا، لكنه يودّ القول بأن من غُفرت آثامه بالنعمة نال التطويب، فمن آمن وتبرّر يتأهل بالأكثر للبركة، التي خلالها يُنزع الخزي ليحل المجد[105].]
القول النبوي "طوبى لمن غُفرت آثامهم" يكشف عن بهجة قلب المرتّل بنوال برّ مجّاني لا أجرة عن عمل ناموسي، هذا البرّ هي عطيّة إلهية يهبها الله لمؤمنيه. يقول القدّيس إكليمنضس السكندري:[هذه الطوباوية تحلّ على الذين اختارهم الله خلال يسوع المسيح ربنا، لأن "المحبّة تستر كثرة من الخطايا" (1 بط 4: . هؤلاء قد اغتسلوا بواسطة ذاك الذي يريد توبة الخاطي لا موته (حز 33: 11)[106].]
خامسًا: ما هو هذا الإيمان الذي يبرّرنا؟
v ماذا يعني نؤمن به؟ الإيمان به يعني حبنا له، وتقديرنا لسموه، والذهاب إليه، والإتحاد بأعضائه.
v الإيمان بالمسيح هو أن نؤمن به أنه يُبرّر الخاطي؛ نؤمن بالشفيع الذي بدون وساطته لا يمكن أن نتصالح مع الله؛ نؤمن بالمخلص الذي جاء يطلب ويخلِّص ما قد هلك (لو 19: 10)؛ نؤمن بذاك القائل: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
v إيماننا نفسه بالمسيح هو عمل المسيح، إذ هو يعمل فينا، بالتأكيد ليس بدوننا. اسمع الآن وافهم: "من يؤمن بي فالأعمال التي أعملها أنا يعملها هو". يقول: الأعمال التي أفعلها أنا أولاً، ثم يفعلها هو بعد ذلك، فأنا أفعلها لكي يفعلونها هم أيضًا. ما هي هذه الأعمال إلا إقامة الإنسان البارّ من الشرّير؟
v تتبرّر النفس بارتفاعها نحو الله، والتصاقها بذاك الذي يبرّرها... فإنها إذ تتركه تصير شريرة، وإذ تعود إليه تتبرّر. ألا يظهر لك أنه متي وُجد شيء ما بارد واقترب من النار يصير دافئًا؟ وعندما يُنزع من النار يبرد! لو أن شيئًا ما كان مظلمًا واقترب من النور، أمّا يصير بهيًا؟ وإن نُزع عن النور يصير مظلمًا؟ هكذا هي النفس، أمّا الله فليس هكذا![107]
القدّيس أغسطينوس
سادسًا: ماذا يعني الرسول بقوله: "وأما الذي لا يعمل، ولكن يؤمن بالذي يُبرّر الفاجر، فإيمانه يُحسب له برًا" [5]؟ هل يحثِّنا الرسول على تجاهل الأعمال لنتبرّر بالإيمان وحده؟
نجيب على ذلك بأن الرسول كان يُحدّث اليهود الذين تشامخوا على الأمم بأعمال الناموس بطريقة حرفيّة قاتلة، فإن هذه لا تبرّر الإنسان، إنما لو حُفظت بطريقة روحية، تدفعهم لإدراك الخلاص والتبرير بالمسيّا، الذي كانوا يتظرونه. هذا من جانب ومن جانب آخر، فإننا كمسيحيّين لا نتبرّر بأعمالنا الصالحة كأعمال من عندياتنا، وإلا حسبت "برًا ذاتيًا" تعطل خلاصنا، إنما نمارسها بكونها ثمرة عمل الله فينا، وكما يقول الرسول بولس: "لأن الله هو العامل فيكم" (في 2: 13)، "نحن عاملان مع الله" (1 كو 3 : 9). لهذا يؤكّد الرسول يعقوب "لأنه كما أن الجسد بدون روح ميت هكذا الإيمان أيضًا بدون أعمال ميت" (يع 2: 26).
2. إبراهيم أب لجميع المؤمنين
إذ قارن الرسول بين أعمال الناموس والإيمان في حياة أبينا إبراهيم ليُعلن سموّ الإيمان، الذي به يتبرّر، دون تجاهل لأعمال الناموس التي مارسها إبراهيم وإن كانت عاجزة عن التبرير، الآن يؤكّد الربط بين الإيمان وأعمال الناموس في حياة هذا الأب دون تعارض، قائلاً: "أخذ علامة الخِتان ختمًا لبر الإيمان الذي كان في الغُرْلة" [8]. فالخِتان هو علامة جسديّة جاءت لا معارضة للإيمان، بل خاتمة على إيمانه ومؤكدة له، حتى كل من يحملها إنما يلزم أن يلتزم أيضًا بالإيمان. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن العلامة جاءت لاحقة للإيمان، إذ آمن إبراهيم حين كان أولاً في الغُرْلة، وبقيَ مؤمنًا أيضًا وهو في الخِتان، بهذا أعلن أبوته لأهل الغُرْلة أن يقبلوا الامتثال به في إيمانه، وأيضًا لأهل الخِتان أن يفعلوا ذات الأمر.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية مظهرًا أن اليهود لم يأتوا إلا كضيوف لاحقين لأهل الغُرْلة، وأنهم أضيفوا إليهم، أي جاءوا إلى بيت الإيمان مُضافين إلى إبراهيم الذي قبِل الإيمان وهو في الغُرْلة قبل الخِتان، قائلاً: [لأنه إن كان إبراهيم قد تبرّر وكلِّل وهو بعد في الغُرْلة، فقد جاء اليهود بعد ذلك. إذًا إبراهيم هو أب الأمميّين أولاً الذين ينتسبون إليه بالإيمان، كما أنه أب اليهود ثانيًا، أي أب الجنسين... لهذا يستكمل بولس حديثه، قائلاً: "ليكون أبًا لجميع الذين يؤمنون وهم في الغُرْلة كي يحسب لهم البرّ أيضًا وأبًا للختان" [11-12]. هذا وينتسب الأمميّون لإبراهيم لا بسبب غرلتهم، وإنما لإقتدائهم بإيمانه، كذلك اليهود لا ينتفعون ببنوّتهم له لا لكونهم مختونين، وإنما لأنهم لم يؤمنوا... إذن لك الحق في أبوة إبراهيم إن سرْت في خطوات ذلك الإيمان، دون تنازع ولا مشايعة لمناصرتك للناموس[108].]
هذا ويري الذهبي الفم أن الخِتان مجرّد علامة حملها إبراهيم من أجل ضعف اليهود، إذ يقول الرسول "ليكون أبًا للختان"، لا بمعنى أن يحملوا العلامة جسديًا فيصيرون أبناء له، وإنما يحملون ما وراء العلامة ألا وهو إيمانه. لأن هذه العلامة ليست إلاّ ختمًا للإيمان. فإن لم يسعَ اليهود إلى الإيمان مكتفين بالعلامة التي للجسد، تصير هذه نفاية لا ضرورة لها. هكذا أيضًا لا يليق بهم إذ نالوا الخِتان أن يحتقروا أهل الغُرْلة، بل أن يكونوا سندًا لهم، ليكون الكل معًا في ذات الإيمان الواحد.
لقد ظنّ اليهود أنهم ورثة إبراهيم في نواله المواعيد الإلهية لمجرد تمتعهم بهذه العلامة، أي ممارستهم لأعمال الناموس، متجاهلين التزامهم بالاقتفاء بأبيهم في إيمانه، لهذا يقول الرسول: "لأنه إن كان الذين من الناموس هم ورثة، فقد تعطّل الإيمان وبطل الوعد" [14]. بمعنى آخر إن تمسك اليهود بأعمال الناموس كعلامة لميراثهم ما لإبراهيم، مكتفين بهذه الأعمال عند حرفيتها يسلبون الإيمان عمله، ويفقدون نوالهم الوعد الإلهي الذي أُعطيَ لإبراهيم، أن بنسله تتبارك الأمم. على العكس إن كان أهل الغُرْلة لم يمارسوا أعمال الناموس في حرفيتها، لكنهم بالإيمان صاروا ورثة إبراهيم وحُسبوا أصحاب الوعد كأبناء له.
الاتّكال على أعمال الناموس ليس فقط يفقد الإنسان عمل الإيمان الذي لإبراهيم، ويحرمه التمتّع بالوعد الإلهي، وإنما يدخل به إلى غضب الله، لأنه وهو يمارس الأعمال الظاهرة كالخِتان والغسالات يكسر شرائعه السلوكية، كالوصايا العشر، ولو وصية واحدة فيُحسب متعديًا. لذلك يقول الرسول: "لأن الناموس ينشيء غضبًا، إذ حيث ليس ناموس ليس تعدٍ" [15]. فبدون الناموس يخطئ الإنسان، لكن الغضب ينشأ بالأكثر حيث يوجد الناموس، كاشفًا للخطايا التي يرتكبها الإنسان متعديًا الوصيّة، وكما قيل: "ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به" (غل 3: 10).
يقدّم لنا القدّيس أغسطينوس تفسيرا لهذه العبارة، قائلاً: [قبل الناموس كان يمكن أن يدعى الإنسان خاطئًا ولم يكن ممكنًا أن يُدعي متعديًا. أمّا وقد أخطأ بعد استلامه الناموس فلم يعد خاطئا فحسب وإنما متعديًا أيضًا. وهكذا أضيف "التعدي" إلى "الخطيّة" فكثرت الخطيّة جدًا[109].]
إن كان اليهود بفهمهم الحرفي لأعمال الناموس فقدوا تمتعهم بالوعد ودخلوا إلى الغضب، لا كخطاة فحسب وإنما كمتعدين، فإنه من الجانب الآخر الإيمان يفتح لهم كما لأهل الغُرْلة التمتّع بالبنوة لإبراهيم المؤمن.
"لهذا هو من الإيمان كي يكون على سبيل النعمة،
ليكون الوعد وطيدًا لجميع النسل،
ليس هو من الناموس فقط،
بل أيضًا لمن هو من إيمان إبراهيم الذي هو أب لجميعنا" [16].
وكما يقول الذهبي الفم أنه بدون الإيمان لا يخلص أحد، لأن الناموس بالنسبة لأهل الخِتان لا يبرّرهم بل ينشئ غضبًا، إذ سقط الكل تحت التعدي، لذا جاء الإيمان يرفعهم من الخطر وليس كالناموس. كما يرفع أيضًا أهل الغُرْلة، فيحسب الكل أبناءً لإبراهيم. "كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة" [17]. فكما أن الله هو إله الجميع وليس خاصًا بأمّة معيّنة، هكذا بالإيمان حُسب إبراهيم أبًا للجميع حسب الوعد المُعطي له (تك 17: 5).
3. إيمان إبراهيم وإيماننا
إن كان الإيمان قد فتح الباب على مصراعيه ليدخل كل الأمم إلى النسب لإبراهيم كأبناء له، فما هي مادة هذا الإيمان؟
"كما هو مكتوب إني قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة،
أمام الله الذي آمن به،
الذي يحي الموتى،
ويدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة" [17].
اقتبس الرسول هذا الوعد: "قد جعلتك أبًا لأمم كثيرة" (تك 17: 5 الترجمة السبعينية)؛ هذا لا يتحقّق حسب الطبيعة، إذ هو ليس أبًا للأمم حسب الجسد، إنما حسب الإيمان.
مادة إيمانه هي أن الله "يحيي الموتى، ويدعوا الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة". من هم الموتى الذين يُحييهم؟ أو ما هي الأشياء الغير موجودة التي يدعوها كأنها موجودة؟
أولاً: مستودع سارة أو أحشاؤها أشبه بالميّت الذي لا يحمل حياة، وقد وهبه الله اسحق حيًا خلال هذه الأحشاء الميّتة، وكما يقول الرسول نفسه: "وإذ لم يكن ضعيفًا في الإيمان لم يعتبره جسده، وهو قد صار مماتًا، إذ كان ابن نحو مائة سنة ولا مماتيّة مستودع سارة" [19]. ما ناله إبراهيم من وعد كان "على خلاف الرجاء"، إذ لم ينظر قط إنسانًا قبله نال ابنًا بهذه الطريقة، وإنما صار هو مثلاً لمن جاء بعده. هو ترجّى الله الذي يُقيم من الموت ويهب حياة، فآمن بالله أنه يعطيه نسلاً كما من العدم، فاتحًا باب الرجاء لمن جاء بعده ممن أنجبوا في شيخوختهم خلال زوجات عاقرات.
ثانيًا: آمن إبراهيم بتمتعه بالأبوة، ليس فقط لإسحق الذي وهبه الله إيّاه في فترة شيخوخته، وخلال مستودع سارة الذي كان في حكم الموت، وإنما أيضًا لأمم كثيرة، هي بحسب الطبيعة ميّتة لا تحمل بنوّة لإبراهيم حسب الجسد، لكن الله يُقيمها من هذا الموت ويقدّمها لإبراهيم أبناء له.
هذا ما أوضحه الرسول بقوله: "فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء، لكي يصير أبًا لأمم كثيرة، كما قيل هكذا يكون نسلك" [18]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه كان على خلاف رجاء البشر في رجاء من جهة الله آمن بالوعد ونال. فكان الإيمان هو سنده، لم يعطِه الله برهانًا، ولا علامة، إنما مجرّد كلمات وعد ومع هذا لم يتردّد، ولا شك مرتابًا مع أن العائق كان عظيما: "ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوّى بالإيمان معطيًا مجدًا للَّه" [20].
بمعنى آخر ليتنا نتعلم أن الله يتمّم مواعيده معنا مهما كانت العوائق أو المعطّلات، إذ "تيقّن أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضًا، لذلك أيضًا حُسب له برًا" [21-22].
نال إبراهيم الوعد، كما قلت، لا بميلاد اسحق كما من العدم، وإنما بأبوّته لأمم كثيرة، لا خلال الجسد وإنما خلال الإيمان. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الأمم أيضًا تُحسب تحت حكم الموت وعدم الوجود بسبب وثنيّتها، إذ تقبل الإيمان تنال قيامة من الأموات، يصيّرونها شعب الله الحيّ وكنيسة العهد الجديد المقدّسة، لذلك قيل: "أرحم لورحامة (ليست مرحومة) وأقول للوعمى ليست شعبي أنت شعبي" (هو 2: 23).
ثالثًا: إن كانت الخطيّة قد أفقدت الإنسان حياته وجعلته كمن هو غير موجود، فبالإيمان ينعم الإنسان ببرّ المسيح كمن قد أقيم من الموت، أو صار موجودًا بعد فقدانه، كقول الأب عن ابنه الراجع إليه: "لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالا فوُجد" (لو 15: 32). لذلك يقدّم لنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم في تعليقه على هذا الأصحاح سلاحًا روحيًا نلتزم باستخدامه، هو الإيمان باسم ربنا يسوع المسيح وقوة الصليب، قائلاً:
[هذا السلاح لا يُخرج الحيّة من جحرها فحسب، وإنما أيضًا يلقيها في النار (أع 28: 5) وتُشفي الجراحات.
إن نطق أحد بهذا الاسم ولم يُشف، فبسبب عدم إيمانه وليس عن ضعف في القول ذاته. لأن البعض التفوا حول يسوع وكانوا يضغطون عليه (لو 8: 44-45) ولم ينتفعوا منه، أمّا المرأة نازفة الدم فحتى بدون لمس جسده، وإنما بمجرد لمس هُدب ثوبه أوقفت ينبوع دمها الذي طال أمده.
هذا الاسم مخيف للشياطين وللسموم والأمراض. ليتنا نجد فيه سرورًا فنتقوّى به...
أي عذر لنا أن نقدّمه، إن كان ظل (الرسل) وثيابهم أقاموا موتى (أع 5: 15)، بينما صلواتنا لا تنزع عنّا الشهوات؟ ما هو علّة هذا؟... فإن طبيعة بولس هي كطبيعتنا، وُلد ونشأ مثلنا، سكن على الأرض واستنشق هواءها مثلنا، لكنه من جانب آخر كان أعظم وأفضل منّا من جهة الغيرة والإيمان والحب. إذن لنقتد به، ولنسمح للمسيح أن يتكلّم خلالنا، فإنه يرغب في هذا أكثر منّا. لقد أعدّ هذا التعليم ويريد ألا يكون ذلك بلا نفع أو معطلاً إنما يودّ أن يستخدمنا...
إن تحدّث المسيح فينا وأشرق الروح القدس بنوره فينا نكون أفضل من السماء، إذ لا تظهر الشمس والقمر في جسدنا بل يظهر رب الشمس والقمر والملائكة ساكنًا فينا وعاملاً.
لست أنطق بهذا لكي نقيم الموتى ونطهر البرص، إنما لنحقق معجزة أعظم من هذا كله هو إعلان المحبّة. لأنه حيث توجد هذه الممجدة يسكن الابن مع الآب والروح القدس... فقد قيل: "إن اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون أنا في وسطهم" (مت 18: 20). يتحقّق هذا من أجل الحنو الشديد ورباط الصداقات القوية، أي من أجل من لهم حب بعضهم لبعض....]
إذن ليكن لنا كإبراهيم أبينا الإيمان بالوعد الإلهي، فننال لا القدرة على عمل المعجزات، إنما ما هو أعظم ننال "الحب" الحقيقي في الرب، فننعم بسكنى الثالوث القدوس فينا كسُر حياتنا وفرحنا ومجدنا أبديًا. هذه هي القيامة الأولى التي لنفوسنا!
ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على العبارة "يدعو الأشياء الغير موجودة كأنها موجودة"، قائلاً: [لقد كنتَ غير موجود فخلقكَ الله ووهبك الوجود، أفلا يهتم بك الآن وقد صرت أنت هكذا، هذا الذي يدعو الأشياء غير موجودة كأنها موجودة؟[110]]
أخيرًا، أكد الرسول بولس أن ما كُتب عن إبراهيم من جهة إيمانه بالقيامة من الأموات، إذ آمن بالله الذي يهبه إسحق من مستودع سارة المُمات، وآمن أن يقيمه أبًا على شعوب ليست من نسله حسب الجسد، كما آمن أن الله يهب البرّ كحياة لمن مات بالخطيّة. فإن هذا كله قد كُتب من أجلنا من جهة إيماننا بالمسيح الذي يقيمنا من الموت، ويهبنا برّه كحياة جديدة مقامة نمارسها عمليًا، إذ يقول: "ولكن لم يُكتب من أجله وحده أنه حُسب له، بل من أجلنا نحن أيضًا الذين سيحسب لنا، الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربنا من الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا" [24-25].
هنا يبرز النقاط التالية:
أ. غاية الحديث الإلهي عن إيمان إبراهيم هو إعلان طريق البرّ الحقيقي خلال الإيمان. فقد تبرّر إبراهيم بالإيمان لكي نتبرّر نحن أيضًا معه كأبناء له نحمل ذات إيمانه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم، لئلاّ يقول المستمع، ما لنا نحن بهذا؟ لذلك ربطنا نحن بأبينا إبراهيم، فنتبرّر مثله، لأننا نؤمن بنفس الإله الذي آمن به إبراهيم، ونثق في ذات الأمور التي وثق فيها، فما حدث لإبراهيم ليس خاصًا به وحده، وإنما يُحدّث مع الكل.
ب. إن كان إبراهيم قد نال وعدًا بخصوص نسله، يتحقّق هذا الوعد فينا بصلب السيد المسيح وقيامته الذي هو من نسل إبراهيم حسب الجسد. إبراهيم آمن بنيل بركة مستقبلة خلال نسله، إذ يقول السيد: "أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو 8: 56)، أمّا نحن فقد تمتّعنا بهذا الوعد بصلب السيد المسيح وقيامته.
يقول العلامة ترتليان: [ها أنتم ترون حكمة الله كيف ذبحَت ذبحها (أم 9: 2)، البكر الابن الوحيد يحيا ويردّ الآخرين للحياة. أقول أن حكمة الله هو المسيح الذي بذل ذاته لأجل خطايانا[111].]
ج. إذ يحدّثنا الرسول بولس عن إيمان إبراهيم، يقدّم لنا ملخصًا لإيماننا، غالبًا ما كان نصًا كنسيًا تسلّمه الرسل وسلّموه، ألا وهو: "أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا" [25].
لقد أسلم للصليب بإرادة الآب (رو 8: 32؛ غل 1: 3) كما بإرادته هو (غل 2: 20؛ أف 5: 2؛ تي 2: 14) ليكفِّر عن خطايانا (3: 25؛ إش 53: 5-6؛ عب 9: 28؛ 1 بط 2: 21-24)؛ وأُقيم ليهبنا برّه عاملاً فينا، إذ نحمل الحياة الجديدة المُقامة.
<<
الأصحاح الخامس
بنوّتنا لآدم الواحد
إذ يعالج الرسول بولس موضوع انتساب اليهود لأبينا إبراهيم حسب الجسد أبرز أن إبراهيم قد تبرّر وهو في الغُرْلة كما وهو في الخِتان خلال إيمانه، ليحمل أبوة صادقة روحية لكل مؤمنٍ حقيقيٍ. والآن يودّ الرسول بطريقة غير جارحة أن يظهر رجل الإيمان الأعظم إبراهيم، أنه ابن آدم، أحد هؤلاء الذين سقطوا تحت مملكة الموت بسبب عصيان آدم، فكان محتاجًا إلى من يبرّره. بمعنى آخر خلال الظلام والرموز تبرّر إبراهيم نفسه ببرّ المسيح، إذ بدون إيمان لم يكن ممكنًا أن يتبرّر، وكما قال القدّيس جيروم: [قبل مجيء المسيح كان إبراهيم في المواضع السفلية بينما بعد مجيئه صار اللص في الفردوس[112].]
كأن الرسول يودّ أن يوجّه أنظار الكل، اليهود والأمم، إلى برّ المسيح الذي اشتهاه إبراهيم نفسه (يو 8: 56) عِوض الافتخار بالانتساب لإبراهيم حسب الجسد.
بدأ الأصحاح بالكشف عن ثمر برّ المسيح، ليحدّثنا عن حالنا كأبناء لآدم، من بيننا إبراهيم نفسه، ثم عن حالنا خلال آدم الثاني أو الجديد.
1. ثمار برّ المسيح1-11.
2. آدم وبنوه تحت الموت12-14.
3. آدم الثاني والنعمة15-21.
1. ثمار برّ المسيح
كعادة الرسول بولس قبل أن يبرز الجانب السلبي وهو خضوع آدم وبنيه تحت حكم الموت بسبب العصيان، بما فيهم رجل الإيمان إبراهيم، أبرز في إيجابيّة ثمار برّ المسيح التي يتمتّع بها كل أبناء إبراهيم الروحيين، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ. التمتّع بالسلام مع الله[1].
ب. نعمة حاضرة ورجاء لمجد أبدي[2].
ج. ارتفاع فوق الضيقات[3-4].
د. عطيّة الروح القدس واهب الحب[5].
ه. اختبار محبّة الله بالصليب[6-11].
ويلاحظ في هذه الثمار الفائقة الآتي:
أ. ننعم بلقاء الثالوث القدوس، ونختبر حُبّه وعمله فينا: (سلام مع الله الآب، انسكاب الحب بالروح القدس الساكن فينا، اختبار للحب الإلهي بصليب ربنا يسوع المسيح).
ب. ثمار على مستوي أبدي، إذ ننعم بمصالحة أبدية ومجد أبدي. لكنّنا ننال العربون حاضرًا الآن في حياتنا: "هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون" [2].
الآن في أكثر تفصيل نتحدث عن هذه الثمار:
أولاً: التمتّع بالسلام مع الله
"فإذا قد تبرّرنا بالإيمان، لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح " [1].
يبدو لي أن "السلام مع الله" هنا يحمل معنى غير السلام من الله (رو 1: 7) أو "سلام الله الذي يفوق كل عقل" (في 4: 7)، فإن السلام الإلهي الذي ننعم به إنما هو "سلامنا الداخلي" الذي يهبه الله كعطيّة روحية، يعطي للإنسان انسجامًا في الغاية والسلوك، فيعمل الإنسان بنفسه كما بجسده بسلام الله لحساب الملكوت، كما يهبه سلامًا مع الآخرين مشتاقًا أن يبذل كل حياته لحسابهم في المسيح يسوع؛ أمّا "السلام مع الله" فيعني تغيير شامل لمركزنا من حالة العداوة التي كنّا فيها إلى حالة بنوّة وحب وصداقة. أو تعني انطلاقنا من حالة الانحدار التي بلغناها بسبب خطايانا وعصياننا، لندخل خلال الدم إلى حالة مصالحة مع الآب، فنُحسب بالمسيح يسوع الابن الوحيد أبناء له، موضع سروره ورضاه. هذا هو أول ثمر "برّ المسيح"، إننا نختفي فيه لنُحسب أبرارًا فيه، ومصالحين، نحيا كأبناء في سلام حقيقي مع الآب. بذات الفكر يقول معلمنا بطرس الرسول: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البارّ من أجل الآثمة، لكي يقرّبنا إلى الله" (1 بط 3: 18).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ماذا يعني "لنا سلام"؟ يقول البعض: ألا نكون على خلاف بارتكاب معاصي ضد الناموس، أمّا بالنسبة لي، فأظن أن ما جاء هنا يخص مناقشتنا، لأنه بعدما تحدّث كثيرًا عن موضوع الإيمان، وقد وضعه قبل البرّ بالأعمال، فلئلا يظن أحد أن ما قاله يُحسب أساسًا للتهاون، لذلك قال: "ليكن لنا سلام"، بمعنى "ليتنا لا نخطيء بعد"، "ليتنا لا نعود مرة أخري إلى حالنا القديم"، إذ يسبّب هذا حربًا مع الله. كيف يمكن تحقيق هذا؟ إن كنّا ونحن نحتمل خطايا كثيرة هكذا نتحرر منها جميعًا بالمسيح، فإننا بالأكثر نستطيع أن نبقى على هذا الحال بالمسيح. فإن ثمة فارق بين تقبلنا السلام حيث لم يكن موجودًا، وبين احتفاظنا به حين يكون لدينا، لأن نواله أصعب من الاحتفاظ به بالتأكيد، ومع هذا فإن ما هو أصعب صار ميسورًا وتحقق. لذلك يلزمنا أن نسعى وراء ما هو أسهل بالتصاقنا بالمسيح الذي وهبنا ما هو أصعب... إن كان قد صالحنا في الوقت الذي كنّا فيه في حرب مع الله، فمن المعقول أن نبقى في حالة المصالحة[113]...]
بمعنى آخر نحن الذين كنّا في حالة عداوة مع الآب صرنا في سلام معه بربنا يسوع، فكم بالأكثر وقد تصالحنا معه أن نبقى هكذا، لكن ليس بجهادنا الذاتي وإنما بربنا يسوع نفسه. لنبقى في "سلام" كعطيّة إلهية، وفي نفس الوقت دخول في علاقة قربى معه! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان قد أحضرنا إليه لنكون قريبين منه عندما كنّا بعيدين، كم بالأكثر يحفظنا الآن ونحن قريبون[114]؟]
ثانيًا: نعمة حاضرة ورجاء لمجد أبدي
"الذي به أيضًا قد صار لنا الدخول بالإيمان
إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون،
ونفتخر على رجاء مجد الله" [2].
لم يعد الزمن يمثل رعبًا بالنسبة لنا، فالماضي بالنسبة للكثيرين مفقود والحاضر مؤلم والمستقبل مجهول، أمّا وقد دخلنا بالإيمان إلى "برّ المسيح"، صار الماضي بركة لنا، إذ نرى أحداث الفداء التي عبرت كتاريخٍ لا تزال حيّة وفعُالة في أعماقنا وتصرّفاتنا، وصار الحاضر بالنسبة لنا مفرحًا إذ نسلك "بالنعمة الإلهية" متمتّعين بالسلام مع الله، أمّا المستقبل فمكشوف إذ نعيش على "رجاء مجد الله". هكذا لم يعد الزمن بالنسبة لنا مرعبًا ولا مفقودًا، الماضي حاضر بالنسبة لنا، والحاضر عربون المستقبل، والمستقبل حال خلال عربون الحاضر.
الإيمان بالمصلوب فتح لنا بالـ "النعمة التي نحن فيها مقيمون"، نعمة البنوّة التي نلناها في مياه المعموديّة بالروح (يو 3: 5)، خلالها نختبر أحداث الصلب والقيامة كحياة واقعية حاضرة ونعتزّ بالتمتّع بمجد الله الأبدي، بكوننا "ورثة الله، ووارثون مع المسيح" (رو 8: 17).
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الرسولية قائلاً:
[اسمحوا لي أن أسألكم أن تتأمّلوا كيف يؤكّد الرسول في كل موضع نقطتين: جانب الله وجانبنا، فمن جانب الله، كيفما كان، توجد أمور كثيرة، عديدة ومتنوّعة، إذ مات من أجلنا وصالحنا وجبَلنا إليه ووهبَنا نعمة لا ينطق بها. أمّا نحن فمن جانبنا نقدم إيمانًا (حيًا) فقط، لذلك يقول: "بالإيمان إلى هذه النعمة". اخبرني: أيّة نعمة هذه؟ أنك حُسبتَ أهلاً لمعرفة الله، وانتزعت عن الخطأ وتعرفّتَ على الحق ونلتَ كل بركات المعموديّة؟ لأن غاية إحضارنا إليه هو تقبُّل هذه العطايا. فإننا لم ننل غفران الخطايا فحسب لنكون مُصالحين، وإنما لننال بركات لا حصر لها.
لم يقف عند هذا الحد إنما وعدنا ببركات أخرى، بركات لا يُنطق بها، تفوق الإدراك واللغة، لهذا لم يحدّثنا عنها. فبإشارته للنعمة أوضح ما نلناه حاليًا، وبقوله: "ونفتخر (نبتهج) على رجاء مجد الله" [2]. يكشف عن كل الأمور العتيدة.
حسنًا قال: "التي نحن فيها مقيمون" [2]، لأن هذه هي طبيعة نعمة الله، أنها بلا نهاية ولا تعرف الحدود، بل على الدوام ننعم بأمور أعظم، على خلاف ما يُحدّث في الأمور البشريّة. أعطيك مثلاً لما أقصده: إن نال إنسان سيادة ومجدًا وسلطانًا لا يقيم في هذه الأمور على الدوام، إنما سرعان ما تُسحب منه. فإن لم يسحبها منه إنسان آخر يأتيه الموت الذي يسحبها منه بالتأكيد. أمّا عطايا الله فليست من هذا النوع إذ لا يستطيع إنسان ولا ظروف ولا كوارث ولا حتى الشيطان أو الموت أن يسلبها، بل بالعكس عندما يحلّ الموت تتأكد بالأكثر ملكيتنا لها وثبوتنا فيها ويزداد تمتّعنا بها أكثر فأكثر... لهذا يقول: "نبتهج على رجاء مجد الله"، لكي تتعلم ما هي النفس التي يليق بالمؤمن أن تكون له. ليس فقط نعرف ما هي العطايا التي تقدّم وإنما لمن تقدّم، فنمتلئ ثقة أنها قُدِّمت فعلاً، إذ يبتهج الإنسان بكونه قد نالها فعلاً... وقد دعاها "مجدًا"؛ إذ هي شركة في مجد الله[115].]
هكذا يركّز القدّيس يوحنا الذهبي الفم على تعبير "مقيمون فيها" علامة استمرارية عمل نعمة الله في حياتنا متى خضعنا لها وقبلّناها متجاوبين معها، ولا يقف الأمر عن الاستمرارية، وإنما تزداد قوّة فينا وبهاءً مع الزمن حتى متى بلغنا الخروج من هذا العالم ننعم بالشركة في المجد الإلهي.
ثالثًا: الارتفاع فوق الضيقات
ربّما يتساءل البعض: إن كان الإيمان بالمسيح يدخل بنا إليه لنحمل برّه فينا فننعم بالسلام مع الله، وإذ نقيم في هذه النعمة ينفتح قلبنا على رجاء المجد الإلهي، فما هو عمل هذا البرّ في حياتنا وسط الضيقات التي لا تنقطع؟
يجيب الرسول على هذا التساؤل معلنًا أن السيد المسيح ببرّه الذي يهبه لنا لا ينزع عنّا الضيقات، بل يرفعنا فوق الضيقات، فنجتازها أو تعبر هي بنا، ونحن في اعتزاز نراها سرّ تزكيتنا أكثر فأكثر، فلا يتحطم رجاؤها باليأس، بل بالعكس يلتهب رجاؤنا في المجد، خلاص صبرنا في الضيقات، إذ يقول: "وليس ذلك فقط بل نفتخر (نتمجد) أيضًا في الضيقات، عالمين أن الضيق ينشىء صبرًا، والصبر تزكية، والتزكية رجاء" [4].
كأن عمل المسيح لا يمس المجد الأبدي فحسب وإنما يمس حياتنا اليومية لا بتغيير الظروف المحيطة بنا لننعم بسلامٍ زمنيٍ، وإنما بتغيير القلب الداخلي والفكر، فنسمو فوق الآلام، إذ نراها طريق الشرّكة مع المسيح المتألم، وسبيل التمتّع بالتزكية خلال الصبر. وكما يقول القدّيس بطرس: "لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني مع أنه يُمتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد" (1بط 1: 7)، ومعلمنا يعقوب: "طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة، لأنه إذا تزكي ينال إكليل الحياة" (يع 1: 12).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[فإنه حتى في الضيقات الحاضرة تعطينا (نعمة الله) القدرة على تلألؤ ملامحنا، وتجعلنا بالأكثر مستحقّين لمكافأتنا...
الآن، لنتأمل عظمة الأمور المقبلة، فإنه حتى بالنسبة للأمور المسبّبة الحزن نفرح. عظيمة هي عطيّة الله، ليس فيها شيء كريه، لأنه في الخيرات الخارجية يسبّب الجهاد من أجلها تعبًا وألمًا وضيقًا كمرافق لها، لكن الأكاليل والمكافآت تردّ البهجة معها. أمّا هنا فالحال مختلف، لأن نكهة الضيقات فيها بالنسبة لنا لا تقل عن نكهة المكافآت. ففي هذه الأيام توجد تجارب ثانوية، لكن يوجد رجاء في الملكوت؛ يحل الرعب الآن لكن يوجد توقع للخيرات... أنه يعطي جزاء هنا قبل نوال الأكاليل بالقول أنه يجب أن "نتمجد (نفتخر) بالضيقات"... مقدمًا نفسه مثلاً لهم لتشجيعهم... يتمجّدون فيها ليس فقط من أجل الأمور المقبلة، وإنما أيضًا من أجل الحاضر، فإن الضيقات صالحة في ذاتها، كيف هذا؟ لأن الضيقات تعطينا مسحة "الصبر"، لذلك بعد قوله أننا نتمجّد بالضيقات قدّم السبب هكذا: "عالمين أن الضيق ينشئ صبرًا"...
"والصبر تزكية، والتزكية رجاء". فالضيقات التي هي (بالطبيعة) بعيدة عن الرجاء تصير تزكية للرجاء ومؤكدة له. فإنه قبل نوال الأمور المقبلة ينشئ الضيق ثمرًا عظيمًا جدًا هو "الصبر"، فيجعل من الإنسان المُجرٌب صاحب خبرة؛ وفي نفس الوقت يساهم إلى درجة ما في الأمور المقبلة، إذ يهب رجاءً ملتهبًا فينا، فإنه ليس شيء يجعل الإنسان يميل إلى الرجاء في البركات مثل الضمير الصالح... نعم يهب رجاءً، لكنه ليس رجاءً بشريًا غالبًا ما يزول، ويُخزى من يتوقعه... لا، فإن نصيبنا ليس هكذا، إنما رجاؤنا أكيد وثابت، لأن مقدم الوعد حيّ إلى الأبد، ونحن الذين نتمتع به، وإن كنّا نموت لكنّنا سنقوم ثانيًا، فلا يخزى رجاؤنا[116].]
يشعر القدّيسون ببركة الضيق في هذا العالم، إذ يمجّدهم داخليًا في عيني الله، لكي يتجلّى هذا المجد بالأكثر في الحياة العتيدة، لذلك يقول القدّيس جيروم: [لا يطلب القدّيس الراحة بل الضيق[117].]
إن رجعنا إلى كلمات القدّيس يوحنا الذهبي الفم نلاحظ نظرته الإنجيليّة العجيبة لتعبير "الصبر"، فإنه لا يتطلّع إليه كجهادٍ بشريٍ مجرّد أو قُدرة إنسانية على احتمال الضيق، وإنما يراه "مكافأة"... كيف يكون هذا؟ لأن "الصبر" هو سمة تمس حياة السيد المسيح، الذي قيل عنه: "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي... فتفكّروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه، لئلاّ تكلّوا وتخوروا في نفوسكم" (عب 12: 2-3). مرة أخرى يقول الرسول: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبّة الله وإلي صبر المسيح" (2 تس 3: 5). إذًا فالصبر هو عطيّة إلهية، أو هو شركة في "صبر المسيح" تعطي عذوبة للنفس وسط الآلام، أو قل مجدًا خفيًا وسط الضيقات. هذا ما أكّده القدّيس يوحنا الحبيب بقوله: "شريككم في الضيقة وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره" (رؤ 1: 9).
إذن الضيق ينشىء صبرًا، هو شركة في صبر المسيح!
رابعًا: عطيّة الروح واهب الحب
إن كان السيد المسيح يُعلن برّه فينا برفعنا داخليًا فوق الآلام وجعلها مصدر مجد حتى في هذا الزمان الحاضر، لنحتمل الضيقات بصبر المسيح على رجاء المجد الأبدي، فإنه من جانب آخر يهبنا بروحه القدوس "محبة الله" منسكبة في قلوبنا لكي تسندنا فلا يخزى رجاؤنا. بمعنى آخر صبرنا في التجارب واحتمالنا للألم لا يقف عند قوّة عزيمتنا أو إمكانيّاتنا البشريّة، إنما على عمل الله فينا، إذ يسكب حُبّه بفيض على المجاهدين روحيًا لأجل اسمه وبقوّة نعمته.
يقول الرسول: "والرجاء لا يخزى لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" [5]. سرّ القوّة في الضيق، وانفتاح الرجاء في قلوبنا عطيّة الروح القدس الساكن فينا، إذ يهبنا محبّة الله غير المتغيّرة بفيض، قائلاً: "انسكبت" وكأنها تُعطى بلا حساب كمن تنسكب من السماء لتملأ القلب.
v لم يقل الرسول "قد أعطيت" بل قال: "انسكبت في قلوبنا" ليظهر فيضها.
هذه العطيّة هي العظمى، فإنه لم يهبنا السماء ولا الأرض ولا البحر، إنما ما هو أثمن من هذه كله، جعلنا نحن البشر ملائكة، نعم بل أبناء الله وإخوة المسيح. لكن ما هي هذه العطية؟ الروح القدس!
لو لم يكن يريد أن يقدّم لنا أكاليل عظيمة على جهادنا لما وهبنا مثل هذه العطايا القادرة أن تسندنا في جهادنا. هنا يُعلن دفء محبته التي يكرمنا بها لا تدريجيًا ولا شيئًا فشيئًا، وإنما يسكبها بفيض بكونها ينبوع بركاته، وذلك قبل صراعنا.
هكذا وإن كنت لست مستحقًا بالمرة، لكنه لم يزدرِ بكَ، بل وهبكَ حب ديّانك كمعين قدير يسندك، لهذا يقول الرسول: "والرجاء لا يخزي"، ناسبًا كل شيء لمحبّة الله وليس لأعمالنا الذاتية الصالحة.
بعدما أشار إلى عطيّة الروح القدس عاد ليتحدّث ثانية عن الصليب[118].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v كأنه يقول أن محبّة الله قد انسكب في قلوبنا بالروح القدس الساكن فينا...
سامية هي فضيلة الحب المبجّلة، إذ يُعلن الرسول الطوباوي يوحنا أنها ليست فقط تُنسب لله بل هي الله: "الله محبّة، ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه" (1يو 4: 16) [119].
الأب يوسف
v بهذا (القول الرسولي) نفهم أن الروح القدس ليس عملاً وإنما هو المدبر وينبوع الحب الإلهي الفائض[120].
القدّيس أمبروسيوس
v كما أن جسدك إن صار بلا روح، أي بدون نفسك يكون ميتًا، هكذا نفسك بدون الروح القدس، أي بدون المحبّة، تُحسب ميّتة.
v إن كان حب الله المنسكب في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا يجعل النفوس الكثيرة نفسًا واحدة، والقلوب الكثيرة قلبًا واحدًا، فكم بالأحرى يكون الآب والابن والروح القدس الله الواحد، النور الواحد، والبدء الواحد؟
v إذ نكون أعضاء تربطنا الوحدة معًا؛ ما الذي يقيم هذه الوحدة إلا الحب الذي يربطنا معا؟
v ليكن لك حب فيكون لك الكل؛ وبدونه كل ما يمكن أن يكون لك لا ينفعك شيئًا. إنما ما يجب أن تعرفه هو أن الحب الذي نتكلم عنه يُشير إلى الروح القدس. اسمع ما يقوله الرسول: "محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا"[121].
القدّيس أغسطينوس
v [عن عمل الروح القدس في قلوب الشهداء بسكب حب الله فيهم.]
لقد جعلهم شهداءه بالروح القدس الفعُال فيهم، إذ يجعلهم يحتملون أتعاب الاضطهادات من كل نوع، ويصيرون متلألئين بالنار الإلهية، فلا يفقدون دفء محبتهم للكرازة[122].
القدّيس أغسطينوس
v إنه يقول: "محبّة الله المنسكبة في قلوبكم"؛ ولكي لا يظن أحد أن محبّة الله هي من عندياته يضيف: "بالروح القدس المُعطى لنا". لذلك لكي تحب الله دعْ الله يسكن فيك، فيكون "الحب" ذاته فيك، بمعنى أن محبته تحركك وتلهبك وتنيرك.
v لا تتقبل الملائكة ولا البشر الحكمة إلا بالشركة في هذه الحكمة التي نتّحد بها بالروح القدس الذي يسكب الحب في قلوبنا[123].
القدّيس أغسطينوس
v [الحب الإلهي المنسكب في قلوبنا بالروح القدس يهبنا لا قدرة على تحقيق الوصايا الناموسية فحسب وإنما لذّة في تحقيق الوصايا الإنجيليّة التي تبدو صعبة ومستحيلة:]
"لأن محبّة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس" (رو 5: 5).
بهذا يُنزع عنّا كل اهتمام بأي أمر آخر، ولا يرغب (المؤمن) في صنع ما هو ممنوع منه، أو يهمل فيما قد أُمر به. لكن إذ يكمل كل هدفه وكل اشتياقه في الحب الإلهي على الدوام، لا يقع في التلذذ بالأمور التافهة، بل ولا يطلب حتى الأمور المسموح له بها.
فتحت الناموس يسمح بالزوجات الشرّعيات، وهذا فيه قمع للذّة والخلاعة مكتفيًا الإنسان بامرأة واحدة، لكنه لا يبطل بهذا وخزات الشهوة الجسدانيّة، ويصعب إطفاء النار المتقدة والتي تُمون بوقود دائم، حتى لا تخرج إلى الخارج... أمّا الذين تضرمهم نعمة المخلص بحب الطهارة المقدس، فإنهم يهلكون كل أشواك الشهوات الجسديّة بنار الحب الإلهي...
كذلك من يقنع عند حد دفع العشور والبكور... بالتأكيد يخطئ في طريقة التوزيع أو كميته... أمّا الذين لم يزدروا بنصيحة الرب بل تركوا كل ممتلكاتهم للفقراء، وحملوا صليبهم، وتبعوا مانح النعمة لا يكون للخطية سلطان عليهم، إذ لا يساورهم القلق من جهة طعامهم اليومي... فالشخص الذي يدفع العشور والبكور... يستحيل عليه أن يتخلص من سلطان الخطية، وأما الذي تبع نعمة المخلص، فإنه يتخلص من حب الامتلاك[124].
الأب ثيوناس
خامسًا: اختيار محبة الله بالصليب
إذ يتحدث الرسول عن "برّ المسيح" يربط عمل الأقنوم الثاني أي كلمة الله المتجسد (السيد المسيح) بعمل الأقنومين الأول والثالث، فخلال برّ المسيح يعمل الأب إذ يهبنا روحه القدوس (الأقنوم الثالث) ساكنًا فينا، يسكب الحب الإلهي في أعماقنا. بمعنى آخر "الإنسان" هو موضوع لذّة الله الواحد المثلّث الأقانيم، يعمل فيه بلا انقطاع ليبلغ به إلى أمجاده كابن وحبيب وصديق نحيا معه أبديًا.
هكذا يعمل الثالوث القدوس فينا فيسكب حب الله في قلوبنا، الذي تجلّى في كمال أعماقه خلال عمل المسيح الخلاصي، إذ يقول الرسول:
"لأن المسيح إذ كنّا بعد ضعفاء مات في الوقت المعيّن لأجل الفُجّار.
فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بار،
ربّما لأجل الصالح يجسر أحد أيضًا أن يموت،
فبالأولى كثيرًا ونحن متبررون الآن بدمه نخلص به من الغضب.
لأنه إن كنّا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه،
فبالأولي كثيرًا ونحن مصالحون نخلص بحياته.
وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضًا بالله بربنا يسوع المسيح
الذي نلنا به المصالحة" [6-11].
هذا هو ما يعلنه الروح القدس فينا: محبّة الله الفائقة لمصالحتنا خلال الصليب؛ ويلاحظ في هذا الإعلان الآتي:
أ. يسمى الرسول هذا الإعلان "سكب محبّة الله في قلوبنا". يوجد فارق بين المعرفة الفكرية للصليب التي يمكن أن نتمتّع بها خلال دراسة الكتاب المقدس، خاصة خلال شهادة الناموس والنبوّات التي مهدت أفكارنا لإدراك سرّ الفداء، أو سرّ محبّة الله بالصليب، وبين معرفة الخبرة التي يهبها الروح لأعماقنا في الداخل، حيث ينطلق بالنفس إلى الصليب لتلتقي بعريسها المصلوب، وتدرك حُبّه لها شخصيًا، فتلتهب بنيران المحبّة الحقيقية، وتشتهي أن ترد الحب بالحب.
ب. هذه المحبّة التي يسكبها الروح فينا ليست بجديدة بالنسبة لله، فهي في تدبيره الأزلي، لكنه حقّقها في الوقت المناسب لخلاصنا، أو "في الوقت المعيّن"، أو في "ملء الزمان"، إذ قيل: "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي" (غل 4: 4-5).
ج. قدّم الله هذا الحب من أجلنا، وقد دعانا "ضعفاء"، "الفُجّار"، فمن جهة كنّا ضعفاء مغلوبين بالخطيّة ساقطين تحت سلطان عبوديّتها. وفي نفس الوقت دعانا "فُجّارا" إذ لم نستسلم لها عن ضعف فحسب وإنما التهبت فينا، فصرنا نمارسها بعنف بكمال حريتنا، عن معرفة أيضًا وفي تهوّر.
كخطاة نشعر أننا ضعفاء في حاجة إلى طبيب يعالج ضعفنا، واهبًا إيّانا القوّة عِوض الضعف؛ وفُجّار نحتاج إلى القدوس يهبنا الاتحاد معه لينزع فسادنا وتجبُّرنا ممارسين قداسته فينا.
د. أراد إظهار عظمة محبّة الله لنا، إذ قدّم السيد المسيح حياته لنا ونحن ضعفاء وفُجّار، فبحسب المنطق البشري بالجهد أو بالكاد يمكن لأحد أن يموت عن بار، وربما يجسر أحد ويخاطر بحياته من أجل صالح، أما أن يموت أحد عن فاجرٍ شريرٍ، فهذا يبدو مستحيلاً!
ما الفارق بين البارّ والصالح؟ جاء في كتب ربانيي اليهود أن البارّ هو من يقول لجاره كل ما هو لي فهو لي وكل ما هو لك فهو لك، وأن الصالح يقول لجاره كل ما هو لك فهو لك وكل ما هو لي فهو لك[125]. بمعنى آخر البارّ يسلك بالعدل، فيعطي كل إنسان حقّه، متمسكًا بحقّه هو أيضًا، أمّا الصالح فيسلك بالحب يودّ أن يعطي ماله للآخرين. أمّا في مفهومنا المسيحي فالبار هو من يحمل برّ المسيح فيه، والصالح هو من يحمل صلاح المسيح فيه؛ وكأن البرّ والصلاح في حياتنا هما تجلّي سمتا المسيح في حياتنا.
لم يمت السيد المسيح من أجل صالحين وأبرار، وإنما من أجل الخطاة المقاومين له، الذي حملوا له العداوة.
v إن كان من أجل إنسانٍ فاضلٍ لا يسرع أحد بالموت عنه، فتأمل محبّة سيّدك إذ صُلب لا من أجل أناس فضلاء، بل من أجل خطاة وأعداء[126].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v أحبّنا ونحن نمارس العداوة ضده، ونرتكب الإثم، ومع ذلك فبحق كامل قيل: "يا رب أبغضت جميع فاعلي الإثم" (مز 5: 5). بهذا فإنه لأمر عجيب وإلهي أنه حتى حيث يبغضنا يحبنا، إذ هو يبغض فينا ما لم يخلقنا عليه... يبغض ما لم يصنعه فينا، ويحب ما خلقه فينا (يبغض الشرّ ويحب النفس مشتاقًا إلى خلاصها[127]).
القدّيس أغسطينوس
ه. إذ يحدثنا الرسول عن " برّ المسيح " الذي تُعلن مكافأته بكمالها في الحياة العتيدة الأبدية، يرى القديس يوحنا الذهبي الفم [128] أن الرسول أراد في هذا الأصحاح تأكيد التمتع بالوعود الإلهية الخاصة بالمجد الأبدي، وذلك بالبراهين التالية:
v الإيمان بالله الذي وعد، أنه قادر أن يحقق وعده [1].
v النع