منتديات ابن الراعى

رسالة القديس بولس  إلى أهل رومية الاصحاح السادس والسابع Urlhtt10


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات ابن الراعى

رسالة القديس بولس  إلى أهل رومية الاصحاح السادس والسابع Urlhtt10

منتديات ابن الراعى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    رسالة القديس بولس إلى أهل رومية الاصحاح السادس والسابع

    ابن الانبا توماس
    ابن الانبا توماس
    مشرف
    مشرف


    عدد المساهمات : 374
    نقاط : 51143
    تاريخ التسجيل : 09/03/2011
    الموقع : منتديات ابن الراعى

    جديد رسالة القديس بولس إلى أهل رومية الاصحاح السادس والسابع

    مُساهمة من طرف ابن الانبا توماس الخميس 17 مارس 2011 - 4:12


    الأصحاح السادس
    بنوّة المؤمنين لله

    فنّد الرسول بولس حجة اليهود من جهة بنوّتهم لإبراهيم الحرّ جسديًا، موضحًا أن إبراهيم قد تبرّر وهو في الغُرْلة بالإيمان، كما تبرّر بذات الإيمان وهو في الخِتان، لذا فهو أب أهل الغُرْلة كما هو أب أهل الخِتان، هو أب الجميع. فإن أردنا البنوّة لإبراهيم نلتزم أن نتبرّر معه بالإيمان. الآن يرفعنا الرسول من البنوّة لإبراهيم إلى البنوّة لله نفسه في مياه المعموديّة التي يتمتّع بها الأممي المتنصر كما اليهودي المتنصر، ليعيش الكل كأبناء الله في جدّة الحياة، يمارسون حياة المسيح المُقامة، مقدّمين أجسادهم آلات برّ لله، بعد أن كانت آلات إثم للخطية. هذا هو مفهوم الحرّية الجديد: ليس الانتساب جسديًا لإبراهيم، وإنما ممارسة الحياة المقدّسة بالنعمة الإلهية بروح البنوّة.

    1. الحياة الجديدة بالمعموديّة1-14.

    2. الحرّية في المسيح يسوع15-23.

    1. الحياة الجديدة بالمعموديّة

    سبق أن تحدث في الأصحاح السابق عن فيض نعمة الله المجّانية التي لا تقف عند غسلنا من الخطيّة ومحو آثارها، أي الموت، إنما تفيض فينا بغنى عطايا إلهية بلا حصر. إذ تهبنا برّ الله، وتقدّم لنا الحياة أبديًا بشركة أمجاد إلهية وميراث سماوي فائق. بهذا أكدّ الرسول ليس فقط تفَّوق آثار النعمة على أثر الخطيّة، وإنما أكدّ التزامنا ونحن نتمسك بالنعمة أن نحيا كما يليق بمن نالها، مقدّسين في الرب. هذا ما عاد ليؤكّده بأكثر وضوح في هذا الأصحاح مبرزًا بنوّتنا لله التي ننالها خلال نعمة المعموديّة، إذ يقول:

    "فماذا نقول؟ أنبقى في الخطيّة لكي تكثر النعمة؟ حاشا!

    نحن الذين مُتنا عن الخطيّة، كيف نعيش بعد فيها؟

    أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟

    فدفنا معه بالمعموديّة للموت،

    حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب،

    هكذا نسلك نحن أيضًا بجدة الحياة" [1-4].

    إن كان الله بكثرة رحمته أفاض بنعمته علينا لينزع عنّا كل أثر للخطية، فتمجّد فينا نحن الخطاة، هذا لا يدفعنا للاستهتار بالخطيّة أو التهاون في الجهاد ضدّها، إنما يليق بنا أن نتركها سالكين كما يليق بنا كأولاد لله، نلنا بنعمته البنوّة له. هكذا يضع الرسول بولس "المعموديّة" أمامنا لندرك مركزنا الجديد خلال النعمة فنحيا في جدة الحياة كأولاد لله.

    هذا هو عمل الكنيسة تجاه المؤمنين، كأم نحو أولادها، تأكيد نعمة الله المجّانية كباعثٍ حقيقي للجهاد بلا انقطاع، وتذكير الكل بمركزهم الجديد خلال مياه المعموديّة، ليعيشوا كل زمان غربتهم سالكين بقوّة القيامة كأولاد لله، في جهادٍ غير منقطعٍ.



    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم[143] أن المعموديّة قد أماتت الخطيّة فينا، ولكي تظلّ الخطيّة ميّتة يليق بنا أن نجاهد بلا انقطاع، فلا نُطيع الخطيّة بالمرّة، بل نقف أمامها جامدين كالموتى.

    v ماذا يعني"اعتمدنا لموته"؟ يقصد موتنا نحن كما مات هو. فالمعموديّة هي الصليب، وما كان الصليب والدفن بالنسبة للمسيح تكون المعموديّة بالنسبة لنا، ولو أن التطابق ليس تمامًا. لأنه هو مات ودُفن بالجسد، أمّا نحن فنمارس الاثنين (الموت والدفن) بالنسبة للخطية.

    لم يقل "متّحدين معه بموته" وإنما قال "بشبه موته" [5]، فإن هذا وذاك هما موت، لكن موضوع الموت مختلف، المسيح مات بالجسد، أمّا نحن فنموت عن الخطيّة التي من عندياتنا[144].

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v واضح أن من يعتمد يُصلب فيه ابن الله، فإن جسدنا لا يقدر أن يطرد الخطيّة ما لم يصلب مع يسوع المسيح[145].

    القدّيس أمبروسيوس

    v لندفن مع المسيح بالمعموديّة لنقوم معه!

    لننزل معه لكي نرتفع أيضًا معه!

    لنصعد معه، فنتمجّد أيضًا معه![146]

    القدّيس غريغوريوس النزينزي

    v الآن إن كنّا نتمثل بموته، فالخطيّة التي فينا تكون بالتأكيد جثمانًا ميتًا، تُجرح برمح المعموديّة كما ضرب فينحاس الغيور الزاني بالرمح[147] (عد 25: 6-15).

    القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص

    ويلاحظ في حديثه عن تمتّعنا بالحياة الجديدة في مياه المعموديّة الآتي:

    أولاً: يربط الرسول بين الصلب والدفن والقيامة، أو بين الموت مع السيد المسيح والحياة معه بقوّة قيامته. فإن كانت المعموديّة هي دفن، فهي في نفس الوقت قيامة، بهذا نفهم طريق المسيح كطريق كرْب، وفي نفس الوقت طريق مُبهج، لأنه طريق الألم مع المسيح والقيامة معه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تمتّعنا بقيامته ليس أمرًا مستقبليًا فحسب، إنما هي حياة حاضرة نعيشها في حياتنا اليومية.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يلمح هنا عن التزامنا بالسلوك المدقق يُشير إلى موضوع القيامة... فإنه يقصد بكلماته هكذا: أتؤمن أن المسيح مات وقام؟ آمن بهذا من جهة نفسك، فالقيامة كالصلب والدفن هي خاصة بك. إن كنت تشترك في الموت والدفن فبالأولي أن تشترك في القيامة والحياة. إن كانت الخطيّة، الأمر الأصعب، قد أُزيلت فبلا شك يُنزع الموت الأمر الأقل (فتنال القيامة) الآن. إذ يقدّم لنا القيامة فإنه يسألنا أمرًا آخر هو تغيير (تجديد) عاداتنا هنا (بكونها قيامة عاملة فينا). فعندما يصير الزاني عفيفًا والطماع رحيمًا والعنيف مطيعًا، بهذا تكون القيامة عاملة هنا كعربون للقيامة الأخرى. كيف يُحسب هذا قيامة؟ لأن الخطيّة تموت والبرّ يقوم، الإنسان القديم ينتهي، والجديد الملائكي يعيش[148].]

    يكمل القدّيس يوحنا الذهبي الفم حديثه عن الموت مع المسيح والقيامة معه في جرن المعموديّة، مبرزًا دورنا الإيجابي في "الإماتة". فإن كان السيد المسيح يهبنا أن نموت معه في المعموديّة، إنما ليقدّم لنا إمكانية السلوك والجهاد كل أيام غربتنا بلا توقف، حتى لا نفقد نعمة المعموديّة أو ثمرها فينا، أي حتى لا نفقد تمتّعنا بالموت مع المسيح. يقول القدّيس الذهبي الفم:

    [يتحدّث الرسول عن نوعين من الإماتة والموت، الأولي هي عمل المسيح (فينا) في المعموديّة، والثاني نمارسه بشغف بعد المعموديّة؛ فدفن خطايانا السابقة هو هبة منه، لكن أن نبقى أمواتًا عن الخطيّة بعد المعموديّة، فيلزم أن يكون موضع شغفنا لنجد الله نفسه معينًا لنا. فإن سلطان المعموديّة لا يقف عند محو معاصينا السالفة، إنما تهبنا أمانًا من جهة المعاصي اللاحقة. بالنسبة للخطايا السابقة نساهم نحن بالإيمان لكي تُمحى، وهكذا أيضًا بالنسبة للخطايا اللاحقة يلزمك إظهار تغيير نيّتك مؤكدًا أنك لا تدنّس نفسك بعد. هذا هو ما يُشير به عليك الرسول بقوله: "إن كنّا قد اتحدنا (زرعنا) معه في شبه موته نصير أيضًا بقيامته" [5]. ألا تلاحظ كيف يستثير سامعه ليقوده إلى سيده محتملاً آلامًا كثيرة ليصير على شبهه؟ لهذا لم يقل: "اتّحدنا (زُرعنا) معه في موته" لئلاّ تعارضه بل قال: "في شبه موته". لأن جوهرنا لا يموت بل "إنسان الخطيّة" أي "الشرّ" هو الذي يموت.

    "إن كنّا قد زرعنا معه"؛ فبإشارته للزرع هنا يلمح إلى الثمر الذي ينتج عنه، فكما أن جسد (المسيح) بدفنه في الأرض قدّم لنا ثمر الخلاص للعالم، هكذا نحن أيضًا إذ ندفن في المعموديّة نحمل ثمر البرّ والتقديس والتبنّي وبركات بلا حصر، كما نحمل بعد ذلك عطيّة القيامة.

    نحن دفنا في المياه، أمّا هو ففي الأرض. نحن دُفنا عن الخطيّة، أمّا هو فمن جهة الجسد، لذلك لم يقل: "زُرعنا معه في موته" وإنما "في شبه موته"... لكنه لم يقل: "نصير أيضًا في شبه قيامته" بل "بقيامته" ذاتها[149].]

    ثانيًا: غاية المعموديّة إننا إذ نُصلب مع السيد المسيح ننعم بالحياة المُقامة الجديدة، فنعيش هنا بفكر سماوي متمتعين بعربون الميراث الأبدي.

    v الغنوسي (صاحب المعرفة الروحيّة الحقيقية) لن يضع غايته الرئيسية في الحياة (الزمنيّة) إنما يبقي على الدوام سعيدًا ومطوّبًا وصديقًا ملوكيًا لله[150].

    القدّيس إكليمنضس السكندري

    v يتقبل المعمدون الميراث، هؤلاء الذين يعتمدون بموت المسيح ويدفنون معه ليقوموا معه. لذا فهم ورثة الله ووارثون مع المسيح (رو 8: 17)، ورثة الله لأن نعمة المسيح توهب لهم؛ وورثة مع المسيح، لأنهم يتجدّدون بحياته، وهم أيضًا ورثة المسيح إذ وهبهم الميراث بموته، كما لو كانوا ورثة للموصي[151].

    القدّيس أمبروسيوس

    ثالثًا: إذ أراد الرسول تأكيد حقيقة القيامة لم يقل "نصير أيضًا بشبه قيامته" بل "بقيامته" عينها، قدّم لنا عربون هذه القيامة المقبلة خلال حياتنا الزمنيّة، قائلاً: "عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه، ليبطل جسد الخطيّة، كي لا نعود نُستعبد أيضًا للخطية، لأن الذي مات قد تبرّأ من الخطيّة، فإن كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" [6-8]. لنمت هنا عن الخطيّة فنحيا للبرّ. هذه هي القيامة الأولى التي يدعوها الرسول "جدّة الحياة" [4]، عربون القيامة الأخيرة.

    "جسد الخطيّة": الذي يبطل هو شرور الإنسان وآثامه التي عاشت فيه فمات روحيًا. بالمعموديّة يموت الإنسان القديم بهذا الجسد، أي "الآثام"، ليُمارس قوّة القيامة كحياة جديدة، بفكرٍ جديدٍ وتسبحةٍ جديدة.

    يقول القدّيس جيروم: [حتى التسبحة التي نتغنًى بها جديدة (رؤ 14: 3) إذ نخلع الإنسان القديم (أف 4: 22)، فلا نسير في عتق الحرف بل في جدة الروح (رو 7: 6)... أنه لا يسعفني الوقت لأحاول تقديم كل عبارات الكتب المقدّسة الخاصة بفاعلية المعموديّة شارحًا لك التعاليم السرية الخاصة بهذا الميلاد الجديد الذي هو ميلاد ثانِ لكنه يُحسب الأول في المسيح[152].]

    حاول كثير من الآباء تأكيد أن الذي يموت في المعموديّة ليس "الجسد" إنما "جسد الخطيّة"، مظهرين خطأ بعض الأفكار الغنوسية التي تنظر إلى الجسد (الجسم) كعنصر ظلمة يجب الخلاص منه ومقاومته. فإننا نؤمن بأن الله لم يخلق فينا عنصر ظلمة، ولا شرًا، وأن الجسد بأحاسيسه وعواطفه وقدراته هو من صنع الله الصالح. إنما نحن أفسدناه بانحراف الأحاسيس والعواطف عن غايتها وانحراف الحب إلى الشهوة والدنس. وكما يقول العلامة ترتليان في مقاله عن "قيامة الجسد": [الجسد ليس مضادًا للخلاص بل أعمال الجسد (المنحرفة). عندما تُنزع عنه هذه الأعمال المسببة للموت يظهر الجسد في آمان ويتحرّر من كل علّة الموت[153].] ويكمل حديثه بإفاضة[154] مؤكدًا أن الذي يصلب مع المسيح ليس هيكل الجسد ولا كيانه الذاتي، إنما سلوكه الأخلاقي (أو الطبيعة الفاسدة) وأحاسيس الخطيّة التي طرأت عليه، مدلّلا على ذلك بأن الرسول لم يقل: "كي لا نعود نستعبد أيضًا للجسد" بل قال: "للخطية" [6]. وأيضًا لم يقل: "احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الجسد" وإنما قال: "عن الخطيّة" [11]. وقد سبق لي معالجة هذا الموضوع في مقدّمة كتاب "العفة" للقديس أغسطينوس الذي سبق لي ترجمته ونشره.

    رابعًا: إن كنّا نقبل أن نبقي في حالة "موت عن الخطيّة" فما هي المكافأة؟ "فإن كنّا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" [8]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه إذ يطلب الرسول منّا أن نقوم بهذا الدور البطولي أن نموت عن الخطيّة، فنصير بالنسبة لها كمن هو مُلقي جامدًا بلا حراك، فلا نشوّه عطيّة الله التي وُهبت لنا في المعموديّة يقدّم لنا الأكاليل: "الحياة مع المسيح"، قائلاً "سنحيا أيضًا معه". [حقًا حتى قبل نوالنا الإكليل، فإن الشرّكة مع سيدنا هي في ذاتها أعظم إكليل[155].]

    خامسًا: لئلاّ يستثقل المؤمن هذا الطريق: "الموت مع المسيح"، خاصة وأنه يطالبنا به كل أيام غربتنا بعد تمتّعنا بالدفن معه في المعموديّة، أوضح الرسول جانبين: الأول أن هذا الموت هو "مع المسيح"، يرافقنا الطريق بكونه الحياة والقيامة، فلا يستطيع الموت أن يحطمنا، والثاني أن المسيح مات مرة واحدة عن خطايانا وقام، فلا يعود يموت ثانية، هكذا يهبنا قوّة القيامة والغلبة على الخطيّة. بهذا لا يكون موتنا عن الخطيّة حرمانًا أو خسارة، بل ممارسة لقوّة الغلبة والنصرة التي لنا بالمسيح غالب الخطيّة والموت. هذا هو ما قصده الرسول بقوله: "عالمين أن المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت أيضًا، لا يسود عليه الموت بعد، لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة التي يحياها فيحياها لله، كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا" [9-11].

    أكد الرسول أن السيد المسيح لم يمت عن ضعف خاص به، إنما "للخطية"، لكي يحطم خطايانا ويبدّد قوّتها، لهذا لم يعد لها سلطان علينا مادمنا في اتحاد معه. حقًا الخطيّة خاطئة جدًا وعنيفة، بسببها مات المسيح عنّا مرة واحدة، لكنه بموته هدم سلطانها، فلا نخاف من السير معه في هذا الطريق.

    لقد مات المسيح مرة واحدة بلا تكرار، لأنه لم يمت عن ضعف بل عن قوّة الحب الباذل، لكي إذ لا يموت مرة أخرى يهبنا أن نشترك معه في موته وأن نشاركه قيامته التي لا يغلبها الموت.

    v هذه هي نعمة الله، وهذه هي طرق الله في إصلاح بني البشر، فإنه تألم ليحرّر الذين يتألّمون فيه،

    نزل لكي يرفعنا،

    قبل أن يولد حتى نحب ذلك الذي هو ليس (بإنسان مولود عادي)،

    نزل إلى حيث (الموت) ليهبنا عدم الموت،

    صار ضعيفًا لأجلنا حتى ننال قوة...

    أخيرًا صار إنسانًا حتى نقوم مرة أخرى نحن الذين نموت كبشر، ولا يعود يملك الموت علينا، إذ تعلن الكلمات الرسولية قائلة: "لا يسود علينا الموت بعد[156]" [راجع 9، 14].

    القدّيس البابا أثناسيوس الرسولي

    لقد أكد الرسول أن المسيح مات مرة واحدة عن الخطيّة، لهذا ففي سرّ الإفخارستيا نقبل السيد المسيح الذي مات مرة على الصليب، فنقبل ذات عمل الصليب الذي لا يتكرّر، إنما هو ممتدّ في حياة الكنيسة كسرّ غلْبتها على الخطيّة والموت، ويبقى سرّ تسبيحها الذي لا ينقطع حتى في الأبدية.

    مات السيد المسيح مرة واحدة عن الخطيّة، مقدمًا ذبيحة الحب باسمنا، هذه التي يشتهي أن يقدّمها في حياة شعبه وخدامه. يروي لنا القدّيس أمبروسيوس[157] قصة لقاء السيد المسيح مع القدّيس بطرس عند أبواب روما وهو خارج تحت ضغط المؤمنين ليهرب من الاستشهاد، فرأى السيد حاملاً صليبه، فعرف أنه يريد أن يُصلب في شخص خادمه، لهذا عاد إلى روما، وقدم نفسه للموت من أجل المسيح، وتمجّد ربنا يسوع بصلبه.

    سادسًا: إن كان المسيح قد مات "للخطية" كي لا يكون لها سلطان علينا، فإنه لا يليق بنا إلا أن نسلِّم القلب عرشًا له، بعد أن ملَكت عليه الخطيّة زمانًا. لنمت عن الخطيّة، فلا تملك علينا بعد. ولنحيا لله بالمسيح يسوع ربنا الذي يملك فينا، ويقيم مملكته داخل قلوبنا، مقدّمين كل أعضاء جسدنا وطاقاتنا وعواطفنا لحساب ملكوته، كآلات برّ لله بعد أن كانت خاضعة للشهوات كآلات إثم للخطية.

    هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: "كذلك أنتم أيضًا احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيّة ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذن لا تملكنّ الخطيّة في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته، ولا تقدّموا أعضائكم آلات إثم للخطية، بل قدّموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات، وأعضاءكم آلات برّ لله، فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" [11-14].

    يوضّح الرسول أن المسيح يسوع ربنا هو الذي يهبنا الموت عن الخطيّة والحياة للآب كأبناء له؛ وهو الذي يحطم الشهوة الشرّيرة لا الجسد ذاته، محوِّلاً أعضاء الجسد من آلات إثم للخطية إلى آلات برّ لله، لهذا وجب أن يملك هو فينا لا الخطيّة.

    يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في قول الرسول "لا تملكن الخطيّة" إعلانًا عن استعباد الخطيّة لإنسان، إذ تودّ أن تحكمه بالقوّة والقهر. لذا من يعود إليها بعدما تمتّع بنعمة المسيح يكون كمن قذف بالتاج من على رأسه ليحني رقبته لعبودية امرأة مجنونة مهلهلة الثياب وعنيفة. أمّا قوله "في جسدكم المائت" إنما لكي يوضّح الرسول أن الجهاد مؤقت وله نهاية مادام مرتبط بجسدنا الزمني.

    فيما يلي بعض مقتطفات للآباء بخصوص ملكية المسيح فينا وملكية الخطيّة علينا:

    v لا يجسر أحد أن يقول: "ملكي وإلهي" (مز 5: 1) إلا ذلك الذي لا تملك الخطيّة في جسده المائت...

    أنت تملك فيّ، أمّا الخطيّة فلا تملك، لأنك أنت إلهي!

    أنت هو إلهي، لأن بطني ليست إلهًا لي، ولا الذهب ولا الشهوة!

    أنت هو الفضيلة، أودّ أن أقتنيك!

    أنت هو إلهي، أنت هو فضيلتي![158]

    القدّيس جيروم

    v إنها كرامة عظيمة وشرف كبير أن يكون الإنسان عبدًا للرب لا للخطية[159].

    v "قلب الملك في يدّ الرب" (أم 21: 1). لنكن ملوكًا فنحكم جسدنا (من الخطيّة) ونخضعه، فيكون قلبنا في يد الله[160].

    القدّيس جيروم

    v هذا هو عملنا الحالي مادامت حياتنا مستترة، ألا نملك الخطيّة أو شهوة الخطيّة في جسدنا المائت، فإننا إن كنّا نطيع شهوتها تملك علينا.

    شهوة الخطيّة فينا، لكنّنا لا نسمح لها أن تملك علينا. ورغبتها موجودة، لكن يلزم ألا نطيعها حتى لا تسيطر علينا. فإذ لا نسمح للشهوة أن تغتصب أعضاءنا بل للعفة أن تطلبها كحق لها، بهذا تكون أعضاؤنا آلات برّ لله وليست آلات إثم للخطية. بهذا لا تسودنا الخطيّة، لأننا لسنا تحت الناموس الذي يأمر بما هو للخير دون أن يهبه، بل تحت النعمة التي تحببنا بما يأمر به الناموس، وهي قادرة على السيطرة على (الإرادة).

    v مادامت الخطيّة بالضرورة موجودة في أعضائك فلا تجعل لها سلطان عليك لتملك، وإنما على الأقل اطردها ولا تطع متطلباتها.

    هل يثور فيك الغضب؟ لا تُخضِع له لسانك بالنطق بكلمة شريرة، ولا تُخضع له يدك أو قدمك كأن تضرب بهما. ما كان يمكن للغضب غير المتعقل أن يثور فيك لو لم توجد الخطيّة في أعضائك، ولكن اُطرد قوّتها الحاكمة، فلا يكون لها أسلحة لمحاربتك، عندئذ تتعلم هي ألا تثور فيك إذ تجد نفسها بلا أسلحة...

    هكذا يليق بكل أحد أن يجاهد إذ يبغي الكمال، حتى إذ تجد الشهوة نفسها بلا استجابة من الأعضاء تقل يومًا فيومًا خلال رحلتها[161].

    القدّيس أغسطينوس

    v "إذن لا تملكن الخطيّة في جسدكم المائت" [12]... لم يقل: "لا تدعها توجد هناك" لأنها هي موجودة فعلاً.

    v ما دمت تحمل جسدًا قابلاً للموت تحاربك الخطيّة؛ لكن ليتك لا تجعلها تملك... أي اقطع رغباتها. فإن بدأتَ تطيعها تملك عليك.

    ماذا يعني "تطيع"؟ تخضع أعضاؤك كآلات إثم للخطية[162].

    القدّيس أغسطينوس

    سابعًا: مرة أخرى يؤكّد الرسول أن الدعوة للموت مع المسيح لا تعني تحطيم كيان الجسد بل تقديسه، فقد رأينا في الحديث عن المعموديّة أن الإنسان العتيق الذي يُصلب [6] إنما يبطِل جسد الخطيّة لا أعضاء الجسد في ذاتها، والآن إذ يتحدّث عن الجهاد بعد المعموديّة خلال إمكانيات المعموديّة أو خلال "عمل النعمة" فينا يؤكّد أن الدعوة للموت مع المسيح ليست دعوة سلبيّة للخسارة والتبديد، وإنما دعوة إيجابيّة للربح. فالموت هنا هو ربح، إذ فيه تمتّع بالمعيّة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات، القادر لا على تحطيم أعضاء الجسم كآلات إثم للخطية وإنما بالأحرى يقيمها آلات برّ لله، واهبًا إيّاها تقديسًا من عنده.

    يقول الرسول: "ولا تقدّموا أعضاءكم آلات إثم للخطية، بل قدّموا ذواتكم للَّه كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات برّ لله" [13].

    والعجيب قبل أن يطالبنا بتقديم أعضاءنا آلات برّ لله يطالبنا بتقديم "ذواتنا لله كأحياء من الأموات"، بمعنى أنه لن تتقدّس أعضاؤنا الجسديّة ما لم يتقدّس كياننا ككل، ونقبل القيامة عاملة في نفوسنا كما في فكرنا وجسدنا الخ...

    v الأعضاء عينها التي اعتدنا أن نخدم بها الخطيّة ونجلب بها ثمرة الموت يريدنا الله أن نستخدمها للطاعة للبرّ فنثمر للحياة[163].

    القدّيس إيريناؤس

    يرى القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص أنه إذ يتقدّس الإنسان في كُلّيته، خاصة النفس، تتحوّل الأعضاء الجسديّة من آلات إثم إلى آلات برّ لمجد الله. فتكون النفس كالمرأة التي وجدت الدرهم المفقود (لو 15)، فدعت جيرانها ليفرحوا معها ويشاركونها بهجتها بالدرهم. هكذا أعضاؤنا أشبه بالجيران، ندعوها لتمارس فرحنا بخلاص الرب عمليًا!

    ثامنًا: يختم الرسول بولس حديثه عن عمل المعموديّة الملتحم بالجهاد الروحي، قائلاً: "فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" [14]، مؤكدًا الإمكانيات الجديدة التي صارت لنا خلال النعمة، التي تعمل فينا في مياه المعموديّة كما في جهادنا اليومي، الإمكانيات الواهبة للغلبة والنصرة.

    2. الحرّية في المسيح يسوع

    إذ ركّز الرسول بولس أنظارنا نحو المعموديّة كأبناء لله، نمارس هذه البنوّة خلال موتنا مع المسيح وحياتنا معه كل أيام غربتنا، أراد أن يصحّح مفهومًا خاطئًا استقر في ذهن اليهود، ألا وهو أنهم أحرار لمجرد انتسابهم لإبراهيم جسديًا، الأمر الذي وضح في حوارهم مع السيد المسيح حين أعلن لهم: "أنكم إن ثبتّم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو 8: 31-32)، "أجابوه: إننا ذُرّية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارًا؟ أجابهم يسوع: الحق الحق أقول لكم أن كل من يعمل الخطيّة هو عبد للخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أمّا الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرّركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارًا" (يو 8: 33-36).

    يلاحظ في حديث الرسول بولس هنا عن الحرّية التي صارت لنا في المسيح يسوع الآتي:

    أولاً: يستخدم الرسول أسلوب التشجيع، إذ يقول: "فشكرًا للَّه أنكم كنتم عبيدًا للخطية، ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلّمتموها، وإذ أُعتقتم من الخطيّة صرتم عبيدًا للبرّ" [17-18]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه يعود فيُدخل الثقة في نفوسهم بعد أن أزعجهم بالخزي وأرعبهم بالعقاب، مظهرًا لهم أنهم بالفعل نالوا الحرّية من شرورٍ كثيرة بفضل النعمة الإلهية، لذا وجب عليهم تقديم الشكر لله على هذه العطية. بمعني آخر، إن كان الرسول يدعونا للحرية، فإنه يدعونا لحياة نمارسها بالنعمة، يجب أن تزداد وتلتهب فينا.

    ثانيًا: بقوله "أطعتم من القلب" يُشير إلى أن الحرّية التي نمارسها لا تتحقق عن اضطرار، إنما تُمارس خلال الحب "من القلب" بكمال إرادتنا. فالحرّية في المسيح هي عبودية للبرّ [18] لكنها عبودية الحب الاختياري وليس عبودية العنف الإلزامي؛ عبودية النضوج والالتزام بلا استهتار أو تسيّب!

    v لا يقل المسيحي أنني حرّ، أفعل ما يحلو لي، ليس لأحد أن يكبح إرادتي مادمت حرًا. إن كنت بهذه الحرّية ترتكب خطيّة فأنت عبد للخطية.

    لا تفسد حريتك بالتحرّر للخطية، إنما لاستخدامها في عدم ارتكاب الخطيّة. "فإنكم إنما دُعيتم للحرّية أيها الإخوة، غير أنه لا تُصيِّروا الحرّية فرصة للجسد بل بالمحبّة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل 5: 12) [164].

    القدّيس أغسطينوس

    ثالثًا: ما هي صورة التعليم التي تسلّمناها لنطيعها من القلب؟ "إذ أعتقتم من الخطيّة صرتم عبيدًا للبرّ"... أي خروج بالنعمة من حالة العبوديّة القاسية التي أذلتنا بها الخطيّة إلى حالة عبودية للبرّ يبتهج بها قلبنا بالحب الداخلي.

    رابعًا : يقول الرسول: "أتكلم إنسانيًا من أجل ضعف جسدكم" [19]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول يتكلّم معهم بكونه إنسانًا، يشاركهم ذات العمل، فهو لا يتحدّث متعاليًا عن أمر عسير صارم، إنما يوصيهم كإنسان يحمل معهم ذات طبيعتهم، وله خبرة عمليّة أنه كان قبلاً يستخدم أعضاءه لخدمة الإثم وقد تحررت، فصارت أعضاؤه متعبدة للبرّ.

    خامسًا: يقارن الرسول بين العبوديّة للإثم والعبوديّة للبرّ، فيرى الأولي قاسية ومخزية، إذ يقول "تستحون منها" [21] ونهايتها الموت [21]، أمّا الثانية فعلى العكس تهب تقديسًا ونهايتها حياة أبدية [21]. فإن كانت الأولي تثمر عارًا وموتًا، فالثانية تثمر قداسة وحياة أبدية. ويرى الأب موسى أن الثمر الثاني يحمل مستويين: الهدف النهائي وهو الحياة الأبدية، وأمّا الهدف الحالي فهو "القداسة" التي هي "نقاوة القلب" والتي بدونها لن ننعم بالحياة الأبدية[165]. وكأن العبوديّة للبرّ تسندنا في زماننا الحاضر بثمرها الذي للبرّ حيث تهب القلب نقاوة، فيقدر على معاينة الله، وتدخل بنا إلى العالم الأبدي، إذ تهبنا "الحياة الأبدية".

    سادسًا: إذ يتحدّث الرسول بولس هنا عن "الحياة الأبدية" [24] كعطيّة مجّانية للنعمة، يتساءل القدّيس أغسطينوس: كيف يمكن أن تكون "الحياة الأبدية" جزاءً لأعمال صالحة (مت 16: 27) وفي نفس الوقت عطيّة مجّانية للنعمة؟ وقد جاءت إجابته بإسهاب في كتابه عن "النعمة والإرادة الحرة[166]"، نقتطف منها الآتي:

    [يبدو لي أن هذا السؤال لا يمكن حلّه مطلقًا ما لم نفهم أنه حتى الأعمال الصالحة التي نجازى عنها بالحياة الأبدية هي من عمل نعمة الله، لأنه عن ماذا قال الرب يسوع: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا"؟ (يو 15: 5)

    والرسول نفسه بعدما قال: "لأنكم بالنعمة مخلَّصون بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطيّة الله، ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (أف 2: 8-10) رأي بالطبع أن البشر يمكنهم أن يفهموا من هذه العبارة أن الأعمال الصالحة ليست هامة للمؤمنين، إنما يكفيهم الإيمان وحده، وفي نفس الوقت يرى أولئك المفتخرون بأعمالهم كما لو أنهم قادرون وحدهم على تنفيذها، لهذا وفّق بين هذه الآراء بعضها البعض... مكملاً: "لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيه"...

    اسمع الآن وافهم إن عبارة: "ليس من أعمال" قيلت عن الأعمال التي تظن أن مصدرها هو أنت وحدك. لكن لتفتكر في الأعمال التي يشكِّلها الله فيك. عن هذه يقول: "نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع" "لأعمال صالحة قد سبق فأعدها الله لكي تسلك فيها"...

    علي أي الأحوال تُعطى الحياة الأبدية هكذا، كجزاء لأعمال صالحة، لأن الله يعمل أعمالاً صالحة في أناس صالحين، قيل عنهم: "الله هو العامل فيكم أن ترّيدوا وأن تعملوا من أجل مسرّته"، حتى أن المزمور المطروح أمامنا يقول: "الذي يكلّلك بالرحمة والرأفة" (مز 103: 4)، إذ من خلال رحمته تنفذ الأعمال الصالحة التي بها تنال الأكاليل.]



    <<


    الأصحاح السابع
    الناموس فاضح الخطيّة



    بعد تفنيده للحُجَّة الأولي لليهود الخاصة ببنوّتهم لإبراهيم الحرّ رافعًا إياهم إلى البنوّة للتمتع بالحريّة الحقيقية، أخذ يفنّد الحُجّة الثانية الخاصة باستلامهم الناموس الموسوي دون سواهم، معلنًا أن الناموس يفضح الخطيّة ولا يعالجها، لذا فهو لا يُبرّر الخطاة، إنما يقودهم إلى المسيح لينعموا ببرّه.

    1. الحاجة إلى التحرّر من الناموس1-6.

    2. الناموس يفضح الخطية7-13.

    3. ناموس الله وناموس الخطيّة14-25.

    1. الحاجة إلى التحرّر من الناموس

    الناموس الذي يفتخرون به يمثل رجلاً يحكم على امرأته الخاطئة بالموت؛ إنه يدينها! فالحاجة الآن إلى التحرّر من حكمه هذا بدخول آخر كرجل لها بعد أن يموت حكم الأول فتتحرر من سلطانه. بمعنى آخر، يلزم أن يتحرّر الإنسان من حكم حرفيّة الناموس ليتقبل العريس الآخر ربنا يسوع.

    "أم تجهلون أيها الإخوة، لأني أكلم العارفين بالناموس،

    أن الناموس يسود على الإنسان ما دام حيًا.

    فإن المرأة التي تحت رجل هي مرتبطة بالناموس بالرجل الحيّ،

    ولكن إن مات الرجل فقد تحررت من ناموس الرجل،

    فإذا مادام الرجل حيًا تدعي زانية أن صارت لرجلٍ آخر،

    ولكن إن مات الرجل فهي حرة من الناموس،

    حتى أنها ليست زانية إن صارت لرجل آخر.

    إذًا يا إخوتي أنتم أيضًا قد متم للناموس بجسد المسيح،

    لكي تصيروا لآخر للذي قد أقيم من الأموات لنثمر لله" [1-4].

    يلاحظ في هذا النص الرسولي:

    أولاً: إذ كان الرسول بولس يعالج موضوع افتخار اليهود على الأمم بكونهم مستلمي الناموس، أراد وهو يحطّم كبرياءهم هذا ألاّ يهاجم الناموس ذاته، لأنه ناموس الله المقدس، إنما يهاجم مستخدميه. يظهر ذلك في دقة العبارات التي استخدمها الرسول هنا وهو يتحدّث عن الناموس، إذ نراه يكتب بحساسية شديدة:

    أ. وهو يقدّم مثل المرأة المرتبطة برجل كمثال للأمة اليهوديّة المرتبطة بالناموس، يقول: "لأني أكلم العارفين بالناموس" [1]... كأنه في نفس المثال يتحدّث ناموسيًا، عن أمور واضحة يحكم فيها الناموس نفسه، أو بمعنى آخر يُعلن الرسول أنه يقبل حكم الناموس ذاته في هذا الأمر، أو يلتجئ إلى حكم الناموس لأنه عادل ومقدس.

    ب. في مثل المرأة المرتبطة برجل اكتفى بذكر موت الرجل لتُحرّر المرأة من سلطانه، فلا تُحسب زانية إن تزوجت آخر. فالمرأة هنا تُشير إلى الكنيسة، سواء على مستوى الجماعة أو كل عضو فيها. فالمؤمن لا يقدر أن يرتبط بحرف الناموس وأعماله الرمّزية مع أعمال النعمة الإلهية، وإلا حُسب كامرأة اقترنت بعريسين.

    هذا ويلاحظ دقّة تعبير الرسول بولس، فإذ يتحدّث عن اقتران الإنسان بالناموس لم يتعرض لموت الناموس نفسه كي يتحرّر الإنسان منه، بل في دقّة بالغة يقول: "قُدِّ متم للناموس"... وكأن الذي يموت هو الإنسان للناموس ليحيا للمسيح. قال هذا حتى لا يظن أحد أن الرسول يقاوم الناموس نفسه ويطلب الخلاص منه، إنما الحرّية من حكمه، ومن حرفيته القاتلة.

    مرة أخري يقول: "أن الناموس يسود على الإنسان مادام حيًا" [1]، لكن إن مات الإنسان فلا يخضع لشرائع الناموس الحرفيّة وأعماله.

    ثانيًا: في المثال الذي بين أيدينا يقدّم لنا الرسول امرأة ورجلين، فإن المرأة تبقى تحت ناموس الرجل الأول مادام حيًا، فإن مات تحرّرت من سلطانه لترتبط بالآخر، ولا تُحسب هذه الأرملة زانية. فإن كانت المرأة تمثل جماعة المؤمنين، والرجل الأول هو الناموس، والثاني هو السيد المسيح، فإن المؤمنين إذ يرتبطون بالناموس يخضعون لأعماله، ويسقطون تحت الحكم الصادر منه. لذا صارت الحاجة أن يتحرّر المؤمنون من هذا السلطان، أي حرفيّة أعماله، وإيفاء الحكم الصادر منه بموتنا، كي نرتبط بالثاني، أي السيد المسيح القائم من الأموات. وقد تحقّق هذا الموت للناموس والتحرّر منه خلال موت المسيح عنّا، إيفاءً للحكم الصادر ناموسيًا ضدّنا! بهذا لم يكسر المسيح الناموس بل أكمله، وحقّق غايته، بدخوله كعريسٍ للجماعة المقدّسة خلال موته بالصليب، لتعيش معه عروسًا متّحدة معه أبديًا بلا انفصال عنه.

    إذن موتنا للناموس لحساب اتحادنا مع السيد المسيح لا يعني انهيارًا للناموس، إنما يعني تحقيق غايته بتقديمنا للرجل الآخر الذي أُقيم من الأموات لنقوم معه. أكَّد الرسول التزامنا بالزواج الثاني، قائلاً:

    "إنكم لستم لأنفسكم" (1 كو 6: 19).

    "قد أُشتريتم بثمن، فلا تصيروا عبيدًا للناس" (1 كو 7: 23).

    "وهو مات لأجل الجميع، كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للذي مات لأجلهم وقام" (2 كو 5: 15).

    ثانيًا: أنجب هذا الزواج ثمرًا لحساب الله، إذ يقول: "لنثمر لله" [4]، على عكس الزواج السابق حين كان المؤمنون تحت سلطان الرجل الأول، أي تحت الناموس الموسوي، فإنهم لم يستطيعوا أن يُثمروا لله لا لسبب خاص بالناموس ذاته، وإنما بسبب طبيعة العصيان التي كانت لهم، لذا جاء الثمر هو: "حكم الناموس علينا بالموت".

    يقارن الرسول بين الثمرين: ثمر الاتحاد بالرجل الأول المعلن حكمه علينا بسبب شر طبيعتنا وثمر الاتحاد بالثاني الذي يحررنا من الحكم الناموسي، مقدمًا لنا إمكانيات جديدة: "لنثمر لله، لأنه لما كنّا في الجسد كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا لكي نُثمر للموت، وأمّا الآن فقد تحرّرنا من الناموس إذ مات الذي كنّا ممسكين فيه، حتى نعبد بجدّة الروح لا بعُتق الحرف" [4-6].

    يقول القدّيس يوحنا ذهبي الفم: [ها أنتم ترون ما قد نلناه من الزوج السابق! إنه لم يقل: "لما كنّا في الناموس"، إذ في كل عبارة يحجم عن أن يعطي فرصة للهراطقة (باحتقار الناموس)، بل يقول "لما كنّا في الجسد"، أي كنّا في الأفعال الشرّيرة، في الحياة الجسدانيّة. ما يقوله لا يعني أنهم كانوا قبلاً في الجسد وأنهم الآن بدون أجسام، إنما يقصد بقوله هذا أنه ليس الناموس هو سبب الخطايا، وفي نفس الوقت لا يحرّر من خزيها، إذ قام بدور المتّهم القاسي بفضح خطاياهم، حيث أن الذين يرتبطون به أكثر لا يفكّرون في الطاعة نهائيا، الأمر الذي يكشف نهاية عصيانهم بصورة أقوى. هذا ما جعله لا يقول: "كانت أهواء الخطايا التي أنتجها الناموس" بل قال "كانت أهواء الخطايا التي بالناموس (خلاله)"... بمعنى أنه خلال الناموس صارت ظاهرة ومعلنة. كذلك لم يتّهم الجسد ذاته، إذ لم يقل: "الأهواء التي ارتكبتها الأعضاء"، وإنما التي "تعمل في أعضائنا"، ليظهر أن أصل الضرر جاء من موضع آخر، وهي الأفكار التي تعمل فينا، وليست الأعضاء التي تعمل الأهواء فيها. فإن النفس تقوم بدور اللاعب على القيثارة التي هي الجسد، فتلزمه بذلك. فالنغم غير المنسجم لا ينسب للأخير (القيثارة) بل للأول (النفس) أكثر من الأخير[167].]

    هكذا وإن أعلن الرسول بولس الحاجة إلى التحرّر من الناموس، الرجل الأول، لكنه لا يُلقي باللوم على الناموس ولا أعضاء الجسم، إنما العيب هو في النفس التي تقود الأهواء فينا أكثر ممّا للجسد... وإن كان الأخير ملتزم بالمسئولية مع النفس لكنه ليس المسئول الأول.

    إذ تحقّق الزواج الثاني يقول الرسول: "وأما الآن فقد تحرّرنا من الناموس" [6]، وقد جاءت الكلمة اليونانية للتحرير هنا بمعني أنه "لم يعد هناك أثر أو فاعلية".

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة بالقول:

    [انظر كيف يستعبد هنا الناموس والجسد، إذ لم يقل أن الناموس صار بلا فاعلية، ولا الجسد بلا فاعلية، وإنما نحن صرنا بلا فاعلية (أي خلصنا). كيف خلصنا؟ بموت الإنسان القديم ودفنه، هذا الذي كان ممسكًا بالخطيّة، هذا ما يعنيه بقوله: "إذ مات الذي كنّا مُمسكين فيه". كأنه يقول بأن القيد الذي كنّا ممسكين به قد انكسر وتبدّد (مات)، حتى أن الخطيّة التي كنّا ممسكين بها لا تعود تمسك بنا. لكن لا ترجعوا إلى الوراء أو تهملوا، فقد تحرّرتم لتصيروا عبيدًا لكن ليس بذات الطريقة السابقة وإنما "بجدّة الروح، لا بعُتق الحرف".

    عندما أخطأ آدم وسقط جسمه تحت الموت والآلام تقبل خسائر جسديّة كثيرة، وصار الحصان (الجسم) أقل حيويّة وأقل طاعة. ولكن إذ جاء المسيح جعله أكثر رشاقة بالنسبة لنا خلال المعموديّة، رافعًا إيّاه بجناح الروح (القدس). بهذا لم تعد العلامات الخاصة بسباق الجري هي بعينها القديمة، إذ لم يكن السباق سهلاً كما هو الآن (لأن الحصان صار أكثر رشاقة). لهذا السبب لم يطلب منهم أن يتركوا القتل فقط، كما في القديم وإنما حتى الغضب؛ لا يتركوا الزنا فحسب، وإنما يتخلّوا حتى عن النظرة غير الطاهرة؛ يمتنعوا لا عن القسم الباطل فقط، وإنما حتى عن القسم الصادق (مت 5: 21، 27، 33). أمّا من جهة الأصدقاء فيأمرهم أن يحبّوا حتى أعداءهم. في كل الأمور أعطانا أرضًا أوسع للجري عليها فإن لم نطع يهدّد بجهنم، مظهرًا أن هذه الأمور نصارع من أجلها إلزاميًا مثل العزوبية والفقر، يأمرنا أن نتمّمها... لذلك يقول: "إن لم يزد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20). ومن لا يدخل الملكوت بالضرورة يُلقى في جهنم. لذلك يقول بولس أيضًا: "فإن الخطيّة لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (رو 6: 14). وهنا أيضًا يقول: "حتى نعبد بجدة الروح لا بعتق الحرف" [6]، فإنه لم يعد الحرف الذي يدين، أي الناموس القديم، وإنما الروح الذي يعين. لهذا السبب أن وجد بين القدماء إنسان بتول كان هذا الأمر غريبًا تمامًا، أمّا الآن فقد صار هذا الأمر منتشرًا في كل أنحاء العالم. قديمًا قليلون بالكاد كانوا يحتقرون الموت، أمّا الآن (في عهد القدّيس ذهبي الفم) فيوجد في القرى والمدن طغمات من الشهداء بلا حصر، لا من الرجال فحسب وإنما أيضًا من النساء[168].]

    الآن اعتقنا من الحرف، وتمتّعنا بجدية الروح، وكأننا بملخس عبد رئيس الكهنة الذي قُطعت أذنه اليمنى كما بالسيف (يو 18: 10) ليُمسك الرب بنفسه أذنه ويشفيه، وكما يقول القدّيس أغسطينوس[169] كانت رمزًا لتجديد السمع، ينزع الفكر الحرفي القديم والتمتّع بالفكر الروحي الجديد.

    2. الناموس يفضح الخطيّة

    خشي الرسول بولس لئلا يسيء القاريء فهم عبارته: "وأما الآن فقد تحرّرنا من الناموس" [6]، لئلاّ يُظن أن الرسول يهاجم الناموس أو يقلّل من قدسيّته، لذلك قدّم سؤالاً: فماذا نقول؟ "هل الناموس خطيّة؟" [7]، وجاءت الإجابة واضحة وصريحة: "حاشا"... إذن، فلماذا يفرح بتحريره من الناموس؟

    أولاً: لأن الناموس يفضح الخطيّة ولا يعالجها. عرّفني على الخطيّة التي ارتكبها، وربّما لم أكن أدركها [7].

    ثانيًا: لأن الناموس إذ قدّم لي الوصيّة كشف عن طبيعة العصيان التي فيّ [8-11]، فربّما لو لم توجد وصية معيّنة تمنعني من شيء لا أهتم بعمله، إنما وجود الوصيّة يثير فيّ طبيعتي (كل شيء ممنوع مرغوب). هنا العيب لا في الوصيّة التي أثارتني، وإنما في طبيعة العصيان الخفيّة في داخلي والتي لم يكن لها أن تظهر ما لم توجد وصية.

    أبرز الرسول بولس هاتين النقطتين بكل وضوح في هذا الأصحاح [7-13] وقد علق عليهما القدّيس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً:

    [سبق فقال: "كانت أهواء الخطايا التي بالناموس تعمل في أعضائنا" (7: 5)؛ "فإن الخطيّة لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة" (6: 14)؛ "حيث ليس ناموس ليس أيضًا تعدٍ" (4: 15)؛ "وأما الناموس فقد دخل لكي تكثر الخطيّة" (5: 20)؛ "لأن الناموس ينشىء غضبًا" (4: 15)، فلئلا يسيء هذا كله للناموس، ولكي يصحح الشك الذي ينشأ عن هذه الأقوال قدّم اعتراضًا، قائلاً: "فماذا نقول؟ هل الناموس خطيّة؟ حاشا" [7]. قبل أن يقدّم البرهان استخدم هذا القسم "حاشا" لكي يسترضي السامع، ملاطفًا من اضطرب للسؤال...

    لا يقول هنا: "فماذا أقول"، إنما "فماذا نقول؟" كأنه أمامهم مداولة وحكم، حيث اجتمعوا معًا، وجاء الاعتراض لا منه، وإنما خلال المناقشة بسبب ظروف الحال. فإنه لا ينكر أحد أن الحرف يقتل والروح يحي (2 كو 3: 6)، إذ هذا واضح تمامًا، ولا يقبل المناقشة. فإن كان هذا حقيقة مُعترف بها، فماذا نقول عن الناموس؟ هل الناموس خطيّة؟ حاشا! وضح لنا إذن هذا الأمر الصعب!...

    يقول إن الناموس ليس خطيّة، "بل لم أعرف الخطيّة إلا بالناموس"... "فإنني لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس لا تشته" [7]. ألا تلاحظ كيف أنه لم يظهر الناموس كديان للخطية، وإنما أيضًا إلى حد ما كمصدر لها، لكن لا عن خطأ من جانبه هو (وإنما من جانب ضعفنا وعصياننا)... هذا جاء عن ضعفنا لا عن عيب في الناموس، لأنه عندما نشته شيئًا ونُمنع منه تلتهب الشهوة بالأكثر. هذا لا ينبع عن الناموس، لأنه يمنعنا ليحفظنا منها، وإنما الخطيّة هي من إهمالك وسوء تصرفك، مستخدمًا ما هو صالح للضد. العيب ليس في الطبيب بل في المريض الذي لا يسيء استخدام الدواء، فإن الناموس لم يُعطَ لإشعال الشهوة بل لإطفائها، وإن كان ما قد حدث هو العكس. فاللوم ينسب إلينا لا إلى الناموس... فإن عمل الطبيب يقف عند المنع لكن على المريض أن يضبط نفسه.

    ولكن ماذا إن كانت الخطيّة قد اتخذت فرصة بالوصيّة؟ بالتأكيد يوجد أشرار كثيرون اتّخذوا من الوصايا الصالحة فرصة ليزدادوا شرًا. هذا هو الطريق الذي به أهلك الشيطان يهوذا بإغراقه في محبّة الطمع وجعله يسرق ما هو للفقراء. فما حدث لم يكن بسبب الثقة التي أُعطيت له بتسليمه الصندوق، وإنما بسبب شرّ روحه. وأيضًا حواء بإحضارها ما يأكله آدم طُرد من الفردوس، لكن لم تكن الشجرة هي السبب، وإن كان ما حدث قد اتّخذ الشجرة فرصة لتحقيقه...

    لو كان الناموس ملومًا لأن الخطيّة وجدت فرصة به، لانطبق هذا أيضًا على العهد الجديد، ففي العهد الجديد نجد آلاف القوانين أكثر أهمية...

    عندما قال الرب: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطيّة" (يو 15: 22)، وجدت الخطيّة مجالاً في مجيء الرب وحديثه معهم، ومع ذلك فقد صار عقابهم أشد. وأيضًا عندما تحدّث بولس الرسول عن النعمة قال: "فكم عقابًا أشرّ تظنون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله؟" (عب 10: 29)[170].]

    v لقد استلمت الناموس، وأنت تود أن تحتفظ به لكنك لا تقدر. بهذا تترك كبريائك وتدرك ضعفك. إذن اِجرِ إلى الطبيب، واغسل وجهك. لتشتاق إلى المسيح ولتعترف به. آمن متكلاً عليه، فإذ تتمتّع بالروح بعد الحرف (السابق) تخلص.

    v إننا نصغي إلى الناموس، فإن لم توجد نعمة إنما نصغي للعقاب الذي يحلّ بنا[171].

    القدّيس أغسطينوس

    يكمل القدّيس يوحنا الذهبي الفم حديثه السابق، متسائلاً: إن كان الإنسان لم يعرف الشهوة قبل الناموس، فلماذا صار الطوفان؟ ولماذا كان حرق سدوم؟ ويجيب على هذا التساؤل، بأن الإنسان يعرف الخطيّة (بالناموس الطبيعي)، لكن جاء الناموس يحدّد الشهوة ويكشفها، مقدمًا للإنسان معرفة دقيقة، فصار الناموس جنبًا إلى جنب مع الناموس الطبيعي يضيف على الإنسان اتهامًا أشد، هذا ما دعا الرسول أن يقول: "أمّا أنا فكنت بدون ناموس عائشًا قبلاً" [9]، إذ لم تكن هناك معرفة دقيقة ومحدّدة، ولا اتهام صريح ضدي يحكم عليّ بالموت. فبقوله "كنت عاشًا قبلاً" تعني أنني لم أكن تحت إدانة الناموس الدقيقة والصارمة التي تستوجب موتي.

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يعطِ الناموس للخطية وجودها، إذ كانت موجودة من قبل، لكنه أشار إلى تلك التي هربت من ملاحظتنا. هذا يُعتبر مدحًا للناموس، إذ كان الناس يخطئون قبله وهم لا يدركون. ولما جاء الناموس فإنهم وإن لم ينتفعوا منه بشيء إلا أنه عرّفهم عليها بدقة، مظهرًا أنهم يخطئون. هذا ليس بالأمر الهيّن لتحريرهم من الشرّ. فإن كانوا لم يتحرّروا، فالأمر لا يخص الناموس الذي حدّد كل شيء بهذا الهدف، وإنما يسقط بالاتهام كله على أرواحهم...

    لذلك يقول: "فوُجدت الوصيّة التي للحياة هي نفسها لي للموت" [10]. لم يقل "جاءت الوصيّة للموت" أو "صارت للموت" بل قال: "فوُجدت"... كأنه يقول إن أردت أن تعرف غايتها فهي تقود إلى الحياة وأعُطيت بهذه الغاية. فإن وُجدت للموت، إنما الخطأ فيمن استلم الوصيّة، وليس في الوصيّة التي تقود للحياة.

    سلط الرسول على هذه النقطة ضوءًا جديدًا، بقوله: "لأن الخطيّة وهي متخذة فرصة بالوصيّة خدعتني بها وقتلتني" [11]. لاحظ أنه في كل موضع يُبرّر الناموس من الاتهام ويحفظه من الخطيّة.

    "إذًا الناموس مقدس والوصيّة مقدّسة وعادلة وصالحة" [12]... لأنه وإن كان اليهود غير طاهرين خلال الناموس، وإن كانوا ظالمين وطامعين، فإن هذا لا يفسد صلاح الناموس، تمامًا كما أن عدم أمانتهم لا يبطل أمانة الله[172].]

    لقد أظهر قدسية الناموس وصلاحه وعدله، مادحًا إياه، لأنه وإن كانت الخطيّة وجدت الفرصة في الوصيّة لتقتلني، لكنها بالأكثر انفضحت فظهر شرّها بقتلي... بهذا يقودنا الناموس إلى ضرورة الخلاص منها، إذ يقول: "فهل صار لي الصالح موتًا؟ حاشا! بل الخطيّة، لكي تظهر خطيّة، منشئة لي بالصالح موتًا لكي تصير الخطيّة خاطئة جدًا بالوصيّة" [13]. هكذا حوّل الرسول الاتهام من الناموس الصالح إلى الخطيّة الخاطئة جدًا، أو بمعني آخر ركّز أنظارنا على أنفسنا في الداخل. فبشرنا يتحوّل حتى ما هو صالح إلى ضررنا. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [النقطة موضوع الاهتمام ليس ما نتسلمه بل الشخص الذي يتسلم الشيء... فإنه حتى الأمور الصالحة تكون ضارة، والضارة تكون مفيدة حسب شخصية من يتقبّلها. ها أنت ترى الشرّ قد جاء خلال الصالح (الناموس) مادام الذي يتقبله إنما يتقبله بطريقة خاطئة[173].]

    3. ناموس الله وناموس الخطيّة

    إذ أظهر في بداية هذا الأصحاح الحاجة إلى التحرّر من الناموس الذي فضح خطاياي وأصدر حكمه على بالموت، عاد ليؤكّد أن العيب ليس في الناموس، وإنما في الخطيّة العاملة فيّ، والآن يمدح الرسول الناموس الإلهي، ويُعلن عن ناموس الخطيّة الكائن في أعضائي، لكي إذ اكتشفه ألجأ إلى المخلص القادر وحده أن ينقذني منه.

    "فإننا نعلم أن الناموس روحي وأمّا أنا فجسدّي، مبيع تحت الخطيّة" [14]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم[174] أن الرسول بقوله هذا يُعلن أنه لا حاجة للتدليل على أن "الناموس روحي". فهو بعيد كل البعد عن كونه مصدرًا للخطية، أو علّة للشرور الحادثة. أنه "روحي"، معلم للفضيلة ومضاد للرذيلة؛ يقودنا بعيدًا عن كل أنواع الخطايا بالتهديد والنصح والتأديب والإصلاح وبمدحه للفضيلة. إذن من أين جاءت الخطيّة مادام الناموس معلمًا هكذا؟ إنها منّا نحن: "وأما أنا فجسدي، مبيع تحت الخطيّة". لقد تقبّلت الشهوات الجسديّة واستُعبدت للخطية، صرت غارقًا في أعماقها، ساقطًا تحت ناموسها، فحُسبت جسديًا.

    v لعنة الله الأصليّة (بسقوط أبوينا في العصيان) جعلتنا جسدانيّين، وحُكم علينا بالأشواك والحسك؛ وقد باعنا أبونا بذلك التعاقد التعيس حتى أننا صرنا عاجزين عن فعل الصلاح الذي نريده. إذ صرنا ننقطع أحيانًا عن تذكّر الله العظيم السمو، مضطرّين إلى الانشغال بما يخص الضعف البشري. وبينما نشتهي الطهارة ننزعج غالبًا بغير إرادتنا بالشهوات الطبيعية التي لا نريد حتى أن نعرفها، لذلك نحن نعلم أنه ليس ساكن في أجسادنا شيء صالح (رو 7: 18)، أي ليس ساكن فيه السلام الأبدي الدائم الذي لهذا التأمل المذكور[175].

    الأب ثيوناس

    v "أمّا أنا فجسديّ، مبيع تحت الخطيّة" [14]. هذا يعني: "بكوني إنسانًا جسدانيًا موضوع بين الخير والشرّ كوكيل حرّ، لي سلطان أن اختار ما أريد. فإنه "هاأنذا أجعل أمامكم طريق الحياة وطريق الموت" (إر 21: 8؛ جا 15: 8؛ تث 30: 15)، بمعنى أن الموت يأتي ثمرة لعصيان الناموس الروحي أو الوصيّة والطاعة للناموس الجسدي أي مشورة الحيّة. فبمثل هذا اختيار أنا مبيع للشيطان، ساقط تحت الخطيّة. هكذا أمسك الشرّ بي،

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 19:20