منتديات ابن الراعى

رسالة القديس بولس  إلى أهل رومية الاصحاح الثانى والثالث Urlhtt10


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات ابن الراعى

رسالة القديس بولس  إلى أهل رومية الاصحاح الثانى والثالث Urlhtt10

منتديات ابن الراعى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    رسالة القديس بولس إلى أهل رومية الاصحاح الثانى والثالث

    ابن الانبا توماس
    ابن الانبا توماس
    مشرف
    مشرف


    عدد المساهمات : 374
    نقاط : 50523
    تاريخ التسجيل : 09/03/2011
    الموقع : منتديات ابن الراعى

    جديد رسالة القديس بولس إلى أهل رومية الاصحاح الثانى والثالث

    مُساهمة من طرف ابن الانبا توماس الخميس 17 مارس 2011 - 4:06

    <<


    الأصحاح الثاني
    حاجة اليهودي للخلاص

    إن كان الأممي قد سقط في شرور كثيرة ونجاسات، مقاومًا الناموس الطبيعي، فإنه لا يليق باليهودي أن يدينه، لأن الأول أخطأ بدون الناموس المكتوب، أمّا الثاني فبالناموس تعدى الوصيّة، وكأنه لم يخطيء فقط ولكنه أيضًا "تعدّى"، فصارت مسئوليته أعظم وعقابه أشد. وبهذا فإن الناموس لا يُبرّر من يسمعه بأذنيه، وإنما من يمارسه ويحفظه ويحياه [13]. اليهودي ليس يهوديًا في الظاهر [28]، ولا الخِتان في اللحم ختانًا، إنما اليهودي من عاش بالحق رجل الله الروحي، وكأن قلبه لا جسده مختونًا بالروح.

    هذا ما أوضحه الرسول في هذا الأصحاح، وهو حديث نافع لنا نحن كمؤمنين، لأنه إن كان اليهودي الظاهر يُدان على حرفيته القاتلة بدون روح، فبالأولى المسيحي أن تمسّك بالشكل والاسم دون الحياة، يكون أشر من اليهودي وأبشع، مستهينًا بالدم الكريم.

    هذا الحديث يمس بالأكثر حياة الخدام والرعاة، إذ يقدّم تحذيرًا لهم لئلاّ يسحبهم المجد الزمني وتلهبهم الكرامات عن الحياة الداخليّة الملتهبة بالروح والحق.

    1. الناموس وإدانة الآخرين 1-11.

    2. الناموس والحياة العمليّة 12–16.

    3. الناموس والتعليم 17–29.

    1. الناموس وإدانة الآخرين

    يعالج الرسول بولس موضوع اعتداد اليهودي بنفسه لأنه مستلم الناموس دون سواه من بقية الأمم، ولم يدرك أن الناموس هو مرآة تفضح الخطيّة وتكشف عن الضعف. للأسف بدلاً من أن يستخدمه اليهودي لاكتشاف ضعفاته، فيصرخ إلى الله بالتوبة، طالبًا عمل المخلص، تقسّى قلبه مستخدمًا الناموس لفضح خطايا الآخرين. هكذا بدلاً من أن يدخل به الناموس إلى التوبة اغتصب مركز الديّان، وأقام نفسه لمحاكمة الآخرين، تحت دعوى معرفة إرادة الله ومشيئته. استخدم الناموس لطلب المتكآت الأولى، ليُقيم نفسه ديّانًا للغير.

    إدانة الآخرين هي في ذاتها إعلان عن التعب الداخلي، كما فعل اليهود عندما أمسكوا بالزانية فأرادوا أن يتشفّوا فيها برجمها، أمّا الديّان فستر عليه بحبه، لكنه لم يتركها في خطيتها، إنما خلال محبته الحازمة أوصاها: "ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطيء أيضًا". هكذا شتان بين تصرف الإنسان الذي يدين أخاه مع أنه مشترك معه في الضعفات، وبين حكم الله الذي يطيل أناته علينا، لعلّنا نتوب فنفلت من الديونة.

    هكذا يربط الرسول بولس بين إدانتنا نحن للآخرين وإدانة الله الديّان لنا، مبرزًا النقاط التالية:

    أولاً: إذ نقيم أنفسنا ديّانين للإخوة ونحن مشتركون معهم في الضعف، نحكم على أنفسنا بأنفسنا خلال حكمنا على الغير، إذ يقول: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها... أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله؟" [1-3].

    يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كأن منطقه يُعلن: يا مَن تدين الزاني وأنت نفسك ترتكب ذات الخطيّة، ألست تدين نفسك بنفسك، حتى وإن لم يدنك أحد؟... أن كنت تعاقب إنسانًا يرتكب ذنبًا أقل منك، فكيف لا يأخذك الله بجريرتك ويدينك بقسوة، خاصة وأنك تحكم على نفسك بنفسك[57]؟]

    ثانيًا: بحكمك على أخيك ليس فقط تحكم على نفسك بذات تصرفك، وإنما غالبًا ما تخطئ أنت في الحكم، لأنك تحكم حسب الظاهر ولا تعرف أعماق الآخرين ودوافعهم، أمّا الله فيحكم عليك بحق، لأنه عالم بكل أسرارك. بمعنى آخر حتى أن حسبت نفسك أبرّ من أخيك فتحكم عليه وتدينه، فغالبًا ما يكون هذا الحكم ظالما، أمّا الله فهو وحده يدين البشر عن حق، إذ يقول الرسول: "ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه" [2].

    هذا وقد أبرز الرسول بولس سمات دينونة الله التي تختلف تمامًا عن إدانتنا نحن للآخرين، ألا وهي:

    أ. أنها "حسب الحق" [2]، لأنه هو "الحق" عينه.

    ب. أنه لا يودّ العقوبة، إنما في غنى لطفه وإمهاله وطول أناته يودّ أن "يقتادك إلى التوبة" [4].

    ج. إنها عادلة [5].

    د. "سيجازي كل واحد حسب أعماله" [6].

    ه. بدون محاباة [11].

    د. ليست حسب ما يعلمه الإنسان بل حسب ما يعمله ويحياه [13].

    ز. يدين الأعماق الداخليّة للضمير والفكر، أي سرائر الناس [15-16].

    ط. حسب حقيقة الإنسان الداخلي، لا مظهره كمتدينٍ أو كمعلمس [17-29].

    ثالثًا: أخطأ اليهود، خاصة قادتهم من الكتبة والفرّيسيّين أولاً بتحويل الناموس لا إلى مجال للحياة والعمل الروحي، وإنما لنقد الناس وإدانتهم بروح العجرفة والكبرياء، وثانيًا بكونهم إذ أدركوا لطف الله وطول أناته أساءوا استخدام هذه المعرفة. بمعنى آخر بينما هم يقسون على الآخرين ويدينونهم إذا بهم يستهينون بحب الله وصلاحه، إذ يقول الرسول: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة" [4]. لكن طول أناة الله علينا بالرغم من تسرّعنا نحن في الحكم على الآخرين لا يعني إعفائنا من العقاب، إنما حفظه للوقت المعيّن "ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله" [5-6].

    الله يطيل أناته لعلّنا نتوب، فإن تمسكنا بالشر زاد العقاب حيث يمتلئ كأس شرّنا، لهذا يرتعب الآباء من عدم التأديب في هذا العالم، حاسبين أن عدم تأديبنا هنا، إنما يحمل غضب الله في يوم الدينونة، عِوض العلاج الخفيف والسريع في هذا العالم بالتأديبات الزمنيّة[58].

    v ليت الذين يحبون حنوه يهابون أيضًا حقه (عدله)، فإن "الرب صالح (حلو) ومستقيم (حق)" (مز 25: Cool.

    إنك تحب فيه أنه صالح (حلو)، فلتخشه بكونه الحق...

    الرب لطيف، طويل الأناة، حنان، وهو أيضًا البارّ والحق.

    منحك فرصة للإصلاح، لكنك تحت تأجيل الدينونة أكثر من إصلاحك طرقك. هل كنت بالأمس شريرًا، فلتكن اليوم صالحًا![59]

    القدّيس أغسطينوس

    v كثيرًا ما أحدثكم عن صلاح الله، لا لتستهينوا به وتفعلون ما هو على هواكم، وإلا صار صلاحه هذا مؤذٍ لخلاصنا، وإنما لكي لا نيأس من خطايانا بل نتوب.

    صلاح الله يقودك للتوبة لا لصنع شر أعظم، فإن فسدت بسبب صلاحه تهين الله أمام الناس.

    v طول الأناة تقدّم لنا منافع فإن لم نستفد منها نسقط تحت دينونة أشد[60].

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    v [يستخدم الله أحيانًا التأديب وتارة الرحمة لحساب الصالحين:]

    طول أناة الله تدعو الأشرار للتوبة، كما أن تأديب الله يدرب الصالحين على الاحتمال.

    تحتضن أيضًا رحمة الله الصالحين لتثقيفهم كما أن حزم الله يصد الأشرار بسقوطهم تحت العقوبة[61].]

    القدّيس أغسطينوس

    بمعنى آخر إن كان الإنسان يميل بطبعه إلى القسوة على أخيه، حتى أن قدّم الله له كل حب وطول أناة فيدين الغير ويعنفه، فإن الله على النقيض يودّ خلاص الجميع ويطيل أناته لعل الكل يرجع إليه بالتوبة.

    لعلّه أيضًا أراد أن يؤكّد أن الله إن كان يطيل أناته عليهم فليس ذلك علامة رضاه عنهم، وإنما علامة صلاحه ينتظر توبتهم.

    رابعًا: إن كان الله هو الديّان، لكنّنا نحن الذين "نذخر لأنفسنا غضبًا"... إذ يريد الله الرحمة مقدمًا كل وسيلة لعلّنا نقتنيها، أمّا الإنسان غير التائب فيحفظ لنفسه الغضب. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظوا دقة التعبير: "تذخر لنفسك غضبًا"، موضحًا أن الدينونة لا تصدر عن الديّان إنما هي نتيجة لعمل الخاطيء، إذ لا يقول "يذخر الله لك" وإنما "تُذخّر لنفسك"... أنه يحاول اجتذابك بكل وسيلة، فإن ظللت على عنادك تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة. ولكن لا يتبادر إلى ذهنك أن غضبه انفعال عنيف إنما هو العدالة، هو "استعلان"، حيث ينال كل إنسان ما يستحقه[62].]

    خامسًا: إذ يتحدّث عن دينونة الله للبشر يبدأ أولاً بالحديث عن الصالحين الذين يكافئون بالحياة الأبدية، وبعد ذلك يتحدّث عن الذين يسقطون تحت الغضب، إذ يقول: "وأما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الأبدية، وأمّا الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للآثم فسخط وغضب، شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشرّ، اليهودي أولاً ثم اليوناني. مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح، اليهودي أولاً ثم اليوناني" [7-10].

    كأن الله يودّ أن يتمتّع الكل بنوال الحياة الأبدية خلال صبرهم في العمل الصالح، فينالون مجدًا وكرامة وخلودًا مع سلام أبدي، لذلك بدأ بهذه الفئة، أمّا الفئة الثانية التي تسقط تحت السخط والغضب التي تئن من الشدة والضيق فهي تحكم على نفسها بهذا خلال إطاعتها للإثم، الأمر الذي يودّ الله ألا يسقط أحد تحته. في هذا يختلف حكم الله عن حكم الناس، الله يتطلّع أولاً إلى الصالحين والأمور الصالحة، أمّا الإنسان فينظر الشرّ أولاً ويحكم سريعًا على الآخرين متطلعًا بالأكثر إلى عيوبهم.

    لاحظ القدّيس إيريناؤس أن الرسول بولس قد ركّز على حريّة الإرادة الإنسانيّة في هذه الرسالة (رو 2: 4-5، 7)، لذلك يعطى الله خيرات للذين يعملون الصالح، كما يقول الرسول، فينالون المجد والكرامة لأنهم يمارسون العمل الصالح مع أنه كان في سلطانهم ألا يفعلوه فيسقطون تحت حكم الله العادل[63].

    سادسًا:يؤكّد الرسول أن الله في حكمه لا يحابى: "لأن ليس عند الله محاباة" [11]، فإن كان يكافئ اليهودي أولاً سواء في الخير أو الشرّ، فلأن الله يدين بالأكثر من نال معرفة أوفر أو احتمل مركز القيادة والخدمة. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من العدل أن من يستمتع بنصيب أوفر من المعرفة ينال نصيبًا أشد من العقاب أن تعدى الناموس. ومن ثمة، يكون عقابنا أشد كلما ازددنا في الحكمة والسلطان. إن كنت غنيًا يُطلب منك العطاء أكثر من الفقراء، وإن كنت صاحب حكمة أوفر تلتزم بالطاعة أكثر من غيرك، وإن نلت سلطانًا يلزمك تقديم أعمال أكثر بهاءً[64].]

    المحاباة هي من سمات البشر، الذين ينحرفون عن الحق في الحكم مراعاة لحسب الإنسان أو نسبه أو غناه أو طلبًا لمنفعة ما، إذ يقول الرسول: "يحابون بالوجوه من أجل المنفعة" (يه 16)، وقد كان ذلك محظورًا على القضاة (لا 19: 15؛ تث 10: 17). يحذرنا الرسول يعقوب منها، قائلاً: "لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة" (يع 2: 1)، أمّا الله فيستحيل أن يحابى أحدًا (أف 6: 9؛ كو 3: 25). وقد ظهر عدم محاباة الله على الصليب، إذ "هكذا أحب الله العالم (بلا محاباة) حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو 3: 16)، كما يقول الرسول: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين" (رو 8: 32).

    2. الناموس والحياة العمليّة

    تحوّل الناموس في حياة اليهود عن غايته الإلهية، فعِوض أن يكون علّة إدراكهم لخطاياهم وشعورهم بالحاجة إلى عمل الله الخلاصي، تحوّل إلى تشامخ وكبرياء بأنهم عارفو الحق ومعلموه، فصاروا ديّانين للأمم، الأمر الذي أسقطهم تحت دينونة الله. إذن فالناموس ليس غاية في ذاته، إنما يليق أن نحتضنه ونحفظه لا خلال المعرفة الفكرية النظرية، وإنما خلال معرفة الحياة العمليّة والخبرة المُعاشة يوميًا، فيصير علّة تكليلنا، لهذا يقول الرسول:

    أولاً: "لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يُدان" [12].

    الناموس ليس مجالاً للافتخار بل للعمل، فإن كان الناموس يهب معرفة لوصية الله وإرادته، يلتزم أصحاب الناموس أن يمارسوا الوصيّة، وإلا سقطوا بالناموس تحت الدينونة، فيصيروا ليس كالأمميّين الذين يخطئون بدون الناموس يهلكون وإنما أشر منهم لأنهم يخطئون بمعرفة وهم تحت الناموس. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هنا لا يُظهر المساواة بين اليهودي والأممي فحسب، وإنما يوضّح كيف أثقل الناموس كاهل اليهودي. لأن الأممي يُدان بدون الناموس؛ هنا "بدون الناموس" تعبير عن تخفيف للعقوبة، إذ لا يقف الناموس شاهدًا عليه... إنما ينال جزاءه بناءً على منطق الطبيعة والعقل. أمّا اليهودي فيُدان بالناموس، أي تكون محاكمته بالطبيعة والمنطق وبجانبهما الناموس، لأن ما ناله من عناية يزيد من مسئوليته. تأملوا إلى أي مدى يجعل اليهودي يسرع بالضرورة نحو النعمة يستنجد بها. لأنهم أن احتجّوا بأنهم يكتفون بالناموس بلا حاجة إلى النعمة، يظهر لهم أنهم في حاجة إلى النعمة أكثر من الأمميّين، لأنه بالناموس يكون عقابهم أشد[65].]

    يقول القدّيس أغسطينوس: [الذين لم يسمعوا الكلمة (كلمة الإنجيل) يدانون بطريقة غير التي يُدان بها الذين يسمعونها ويستخفون بها[66].]

    يقول أيضًا[67] أن الذين هم بلا ناموس يهلكون، الأمر الذي له صداه المرهب، أمّا الذين تحت الناموس، فيُدانون بمعنى أنهم بلا عذر، وتكون دينونتهم هي الهلاك، بهذا فدينونتهم أصعب.

    ويقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تكون العقوبات واحدة في كل الخطايا بل هي متعددة ومتنوعة حسب الأوقات والأشخاص ورتبهم وفهمهم وظروفهم... فإن ارتكب كاهن زنًا تكون عقوبته مضاعفة جدًا بسبب الكرامة التي نالها[68].]

    ولعلّ الرسول قصد بذلك سقوط الكل تحت الدينونة، الأمم واليهود، ليُعلن حاجة الكل إلى الخلاص.

    ثانيًا: من يُخطي في الناموس تكون عقوبته أشد، لأن الناموس أو المعرفة تشهد عليه في يوم الدين، لذلك فالناموس لا يُبرّر الإنسان لمجرد سماعه أو حفظه، وإنما بتنفيذه كله، الأمر الذي يحسب مستحيلاً على البشر، "لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هم يبرّرون" [13].

    لاحظ دقّة حديث الرسول بولس، إذ يقول: "هم أبرار عند الله"، فإن كثيرين يسمعون الناموس ويتلونه على لسانهم فيتبرّرون أمام الناس كمتديّنين، لكن الله لا يدين الإنسان حسب مظهره، إنما حسب برّ قلبه الداخلي. فبسماعنا للوصية يمكننا أن نخدع إخوتنا وربّما أنفسنا، لكن هل نقدر أن نتبرّر أمام الله؟

    لقد طالبت الشريعة بالطاعة الكاملة (تث 4: 1؛ لا 18: 5)، وهو أمر مستحيل إذ لا يوجد إنسان بلا خطيّة... إذن فالحاجة ماسة إلى الذي يبرّر.

    ثالثًا: في الوقت أظهر فيه الناموس كثقلٍ على اليهودي، إذ يكون شاهدًا عليه يوم الدين، معلنًا أن الاستماع له بالأذن دون القلب والعمل لن يبرّره أمام الله، رفع من شأن الأممي الذي لم ينل الناموس المكتوب، وإنما خلال الطبيعة جاهد ليمارس ما جاء فيه، إذ يقول: "لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس، فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم، شاهدًا أيضًا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة، في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح" [14-16].

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً:

    [كأنه يقول: أنا لا أرفض الناموس، لكنني بسببه أبرّر الأمميّين... مظهرًا أنهم أفضل منهم، بل يمتازون عنهم بعملهم الصلاح، مع أنهم لم يأخذوا الناموس الذي يتشامخ به اليهود. في هذا كان الأمميّيون جديرين بالإعجاب، لأنهم تمّموا صلاح الناموس بأعمالهم لا بكلمات سمعوها... انظروا إذن كيف يلوم اليهود هكذا هادمًا غرورهم، مظهرًا أن الأمميّين الذين سعوا باجتهاد لإتمام الناموس، مع أنهم بدون الناموس، هم أولى بالكرامة منهم. هنا تزداد عجبًا بحكمة الرسول الذي أظهر تفوق الأممي على اليهودي دون أن ينطق بذلك صراحة[69].]

    [ولكي يزيد من مخاوفهم لا يكتفي بالقول: "خطايا الناس" بل يقول: "يدين الله سرائر الناس"، كي لا تظن أنه في مقدورك الهروب من دينونة الله... لأن الناس يقيمون القضاء لمحاكمة الأعمال العلنية (أما الله فيدين السرائر)... إذن ليدخل كل إنسان إلى أعماق ضميره ويحاسب نفسه بكل تدقيق، "لكي لا ندان مع العالم" (1 كو 11: 32)، لأن تلك المحاكمة رهيبة، وذلك الكرسي مخوف، والحساب يكون مرعبًا، لأن "الأخ لا يفدي" (مز 49: Cool،... ماذا يكون شعورنا حينما نقف أمام العالم بأسره وتعلن كل سرائرنا في مسرح مُضاء فسيح يضم من نعرفهم ومن لا نعرفهم؟[70]]

    ويرى ابن كاتب قيصر أنه يقصد بالأمم الذين ارتفعوا، بحياتهم مع الله، فوق اليهود هم "الآباء السابقون" قبل استلام الناموس الموسوي على يديّ موسى مثل إبراهيم وأيوب ويوسف، آمن إبراهيم بالله وقدّم ابنه ذبيحة مُحرقة، وقرّب أيوب عن بنيه ذبائح، خشية أن يكون أحدهم قد نطق بكلمة باطلة، أو أضمر في داخله ما يغضب الله (أي 1: 5)، ويوسف مارس حياة الطهارة ممتنعًا عن الشرّ لئلا يخطيء قدام الرب (تك39 : 5)... [هؤلاء عملوا بالطبيعة ما بالناموس ولم يحتاجوا إلى ناموسٍ مكتوبٍ، إذ لم يدعوا نيّاتهم تبكّتهم بل عملوا بما توجبه من الصلاح، وتركوا ما تنكره من القبائح، وهم في هذا ليسوا مثلنا نحن الذين تبكّتنا نيّاتنا وكتبنا.]

    يُعلّق أيضًا ابن كاتب قيصر على العبارات السابقة موضحًا أن أفكارهم مشتكية [15]. بمعنى أنها توبّخهم أن فعلوا أمرًا غير حسن، إذ كانت تقوم مقام الناموس.

    ويرى الأب سيرينوس في هذه العبارة تأكيدًا لسلطان الإنسان على فكره، وإلا ما كانت أفكارنا وضمائرنا تشتكي علينا، إذ يقول: [إذا ما جاهدنا كبشر ضد الاضطرابات والخطايا، تصير هذه تحت سلطاننا وفق إرادتنا، فنحارب أهواء الجسد ونهلكها، ونأسر حشد خطايانا تحت سلطاننا، ونطرد من صدورنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوّة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المئة (مت 8: 9) روحيًا[71].]

    ويرى الأب يوسف في هذه العبارة إعلانًا عن [أن نية الإنسان هي التي تجعله يُكافأ أو يعاقب[72].]

    ويُعلّق العلامة أوريجينوس على التعبير: "حسب إنجيلي" [16]، قائلاً: [الآن ليس لدينا عمل كتابي لبولس يدعى إنجيلاً، وإنما كل ما كرز به وما قاله هو الإنجيل، وما كرز به وما قاله كان أيضًا في حكم المكتوب؛ وما كتبه كان الإنجيل. وإن كان ما كتبه بولس إنجيلاً، فإن ما كتبه بطرس أيضًا هو إنجيل؛ وفي كلمة كل ما قيل أو كُتب ليُخلِّد معرفة حلول المسيح على الأرض، ويهيء لمجيئه الثاني أو ليقدّم ذلك كحقيقة قائمة في تلك النفوس التي تريد أن تتقبّل كلمة الله الواقف على الباب يقرع ويطلب أن يدخل فيها[73].]

    3. الناموس والتعليم

    عرض الرسول بولس في الأصحاح السابق شرور الأمم مؤكدًا حاجتهم لنعمة الله المجانية لكي تسندهم وتدخل بهم إلى خلاص الله. أمّا في هذا الأصحاح فإذ يوجّه الحديث لليهود يكشف لهم أنهم أكثر احتياجًا إلى النعمة الإلهية من الأمم، إن صح هذا التعبير. فإن الناموس الذي وُهب لهم لمعاونتهم استخدموه في إدانة الآخرين لا في توبتهم، وعِوض العمل به اكتفوا بالاستماع إليه، الأمر الذي جعل بعض الأمميّين المجاهدين داخليًا في ممارسة الحياة النقيّة يسبقونهم، إذ فعلوا خلال الطبيعة والمنطق بما هو في الناموس، فظهر الناموس مكتوبًا في قلوبهم وضميرهم وأفكارهم، بينما بقي أصحاب الناموس يسمعون له بآذانهم دون قلوبهم أو سرائرهم الداخليّة. والآن لكي يوضّح الرسول بشاعة ما بلغ إليه اليهود، يُعلن أنهم عِوض أن يكرزوا بالناموس حيًا في حياتهم، صاروا معلّمين به بالكلام ومقاومين له بالعمل. حسبوا أنفسهم قادة الفكر الروحي، ونورًا للعالم، ومهذِّبين للأغبياء، ومعلِّمين للأطفال، لهم صورة العلم والحق في الناموس، بينما تُقدّم حياتهم وسلوكهم خلاف هذا تمامًا.

    ويلاحظ في هذا الحديث الآتي:

    أولاً: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس يستخدم أسلوبًا يناسبهم كأناس يدعون العلم والمعرفة، ويقيمون أنفسهم كمعلِّمين للعالم، يتهكَّمون بالكل ويسخرون بهم، إذ يقول:

    [إنه لا يقول: "هوذا أنت يهودي"، إنما "هوذا أنت تسمى يهوديًا"، "وتفتخر بالله" [17]، أي تظن أنك محبوب لدى الله، ومكرم فوق جميع الناس. يُخيَّل إليّ أنه هنا يسخر برفق بقلّة منطقهم، وجنون شهوتهم وراء المجد، إذ أساءوا استخدام هذه العطية، فعِوض استخدامها كوسيلة لخلاصهم جعلوها علّة للتشامخ على الآخرين والازدراء بهم... كما يقول: "تثق أنك قائد للعميان"، وهنا أيضًا لا يقول: "أنت قائد" بل "تثق أنك قائد" بمعنى أنك تنتفخ، وهذا لأن كبرياء اليهود كان متشامخًا جدًا. يستخدم معهم ذات الكلمات المتداولة بينهم، والتي كانوا يردّدونها في زهوِهم. اسمعوا ما يقولونه في الإنجيل: "في الخطيّة وُلدتِ أنت بجُملتك وأنت تعلمنا" (يو 9: 34). بهذا الاستخفاف المتعالي كانوا يتطلّعون إلى جميع الناس[74].]

    [يستخدم الرسول ذات كلماتهم: "قائد للعميان، ونور للذين في الظلمة، ومهذّب للأغبياء، ومعلم للأطفال"، الألفاظ التي كان اليهود يطلقونها على من يتتلمذون لهم. تكراره هنا للعبارات هدفه أن يدركوا أن ما زعموه ميزة يفتخرون به هو علّة دينونتهم بالأكثر[75].]

    ثانيًا: إن كان يليق بالمعلم الروحي أن يكون بالحق قائدًا للعميان، ونورًا للذين في الظلمة، ومهذبًا للأغنياء، ومعلمًا للأطفال، لكنه لا يمارس هذا بذاته، بل بالله نفسه الذي يعمل في خدامه، إذ يدخل إلى قلوب المخدومين فيقودها بنفسه ويضيء في داخلها ويهذّبها ويدرّبها كأطفال صغار. وقد جاء السيد المسيح متجسدًا ليقوم بهذا الدور التربوي الروحي، لا خلال تقديم وصايا فحسب، وإنما بتغيير القلب وتجديده على الدوام.

    v معلم الأطفال الكامل صار طفلاً بين الأطفال لكي يهب حكمة للأغنياء[76].

    القدّيس كيرلس الأورشليمي

    ثالثًا: لا يقف الرسول عند استخدام تعبيراتهم ذاتها لتوبيخهم، لأنهم احتلّوا مركز المعلِّمين للعالم الوثني وهم لا يمارسون شيئًا ممّا يعلمون به، وإنما انتقل بهم إلى اتهامهم أنهم يهينون الله نفسه الذي يظنون أنهم يعلمون الآخرين عنه. إذ يقول: "فأنت إذن الذي تعلم غيرك، ألست تعلم نفسك؟ الذي تكرز ألا يُسرق، أتسرق؟ الذي تقول أن لا يُزنى، أتزني؟ الذي تستكره الأوثان، أتسرق الهياكل؟ الذي تفتخر بالناموس، أبتعدي الناموس تهين الله؟" [21-23].

    اهتم معلمو اليهود بالوعظ دون الحياة، ففقدت الكلمة قوّتها، لهذا يحث الرسول بولس تلميذه تيموثاوس الأسقف: "كن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرف، في المحبّة، في الروح، في الإيمان، في الطهارة، إلى أن أجيء أعكف على القراءة والوعظ والتعليم... لاحظ نفسك والتعليم وداوم على ذلك، لأنك إذا فعلت هذا تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضًا" (1 تي 4: 12-13، 16).

    v من يقوم بدور قيادي يلزم أن يكون أكثر بهاءً من أي كوكب منير.

    القدّيس يوحنا الذهبي الفم

    رابعًا: لا يقف الأمر عند إهانتهم لله خلال تعليمهم بشيءٍ وسلوكهم بآخرٍ، وإنما يستند الرسول إلى الأنبياء ليكيل لهم اتهامًا جديدًا: "لأن اسم الله يجدف عليه بسببكم بين الأمم" [24] (إش 52: 5؛ حز 36: 20، 23؛ 2 صم 12: 24).

    وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اليهود لا يتوقحون على الله فحسب، بل يدفعون الآخرين على ذلك... يدفعونهم إلى التجديف[77].]

    ولكي لا نسقط نحن في ذات هذا الخطأ علمنا ربنا يسوع أن نصلّي قائلين: "ليتقدّس اسمك"، فإنه لا يوجد حلُ وسط إمّا أن يتقدّس اسم الله فينا، أو يجدف عليه بسببنا.

    v اسم الله قدوس بطبيعته، قلنا أو لم نقل، لكنه أحيانًا يتدنس بين الخطاة... لذلك نصلّي أن يتقدّس اسم الله، لا بأن يصير مقدسًا كما لو كان غير مقدَّس، وإنما أن يتقدّس فينا عندما نتقدّس نحن ونعمل ما يليق بالقداسة[78].

    القدّيس كيرلس الأورشليمي

    خامسًا: ما هي غاية اليهودي في تعليمه الأممي؟ أن ينزعه من الغُرْلة لينقله إلى أهل الخِتان، ومن إنسان بلا ناموس إلى إنسان تحت الناموس. هذا الهدف يحقّقه اليهودي لكن في شكليّة بلا روح. هذا ما أعلنه الرسول بولس كاشفًا عن نوعين من الخِتان، ونوعين من الغُرْلة، وأيضًا نوعين من الناموس. فاليهودي يهتم بنزع غُرْلة الجسد لا الروح، وممارسة ختان الجسد لا الروح والاستماع للناموس والفخر به دون الحياة به عمليًا. هكذا يميّز الرسول بين الغُرْلة حسب الجسد، والغُرْلة حسب الروح، وأيضًا بالنسبة للختان، وبين الاستماع للناموس وممارسته. فاليهودي يهتم بالجسد والمظهر الخارجي في حياته وأيضًا في تعليمه للأممي، لذلك يقول:

    "فإن الخِتان ينفع أن عملت بالناموس،

    ولكن أن كنت متعديًا الناموس فقد صار ختانك غُرْلة.

    إذًا إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس، أفما تُحسب غرلته ختانا؟

    وتكون الغُرْلة التي من الطبيعة وهي تكمل الناموس

    تدينك أنت الذي في الكتاب والخِتان تتعدى الناموس؟

    لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الخِتان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا،

    بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي،

    وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الخِتان،

    الذي مدحه ليس من الناس بل من الله" [25-29].

    ويلاحظ في هذا النص الرسولي الآتي:

    أ. يري القدّيس يوحنا الذهبي الفم[79] أن الرسول يشبه قاضيًا يريد أن يصدر حكمًا على أشخاص ذوي رُتب، فكان يليق به أولاً أن يجردهم من رتبهم، وعندئذ يحكم عليهم، هكذا جرد الرسول اليهود من ميزاتهم إذ كشف عن حقيقة أمرهم أنهم غير مختونين بالروح، ولا متمتعين بالناموس روحيًا، إنما يعيشون في غُرْلة روحية رغم ختانهم بالجسد، هكذا جرّدهم لكي يُعلن دينونتهم.

    بهذا لم يقلّل الرسول من شأن الخِتان، ولا أعطى للغُرْلة فوزًا على الخِتان، إنما أوضح أن مختون الجسد قد يكون في غُرْلة من جهة الروح، وأيضًا من في غُرْلة الجسد قد يكون مختونًا في الداخل روحيًا، وهكذا قد يصبح الخِتان غُرْلة، والغُرْلة ختانًا!

    v كيف يصير الإنسان في غُرْلة بعد أن يُختتن؟ يقول (الرسول) ليته لا يكون هكذا، ليته لا يعيش كما لو كان أَغْلف، أي كما لو كان قد اِكتسى مرة أخرى باللحم الذي قُطع منه، فلم يعد يهوديًا[80].

    القدّيس أغسطينوس

    v يتفق هذا مع قوله: "دُعي أحد وهو مخْتون فلا يصر أَغْلف" (1 كو 7: 18).

    لقد كان يهوديًا ودُعي مختونًا، فليته لا يشاء أن يصير أَغْلف، أي لا يعيش كمن هو ليس مختونًا[81].

    القدّيس أغسطينوس

    v عندما يخطيء اليهودي يصير ختانه غُرْلة، وعندما يعمل الأممي باستقامة تُحسب غرلته ختانًا. فالأمور التي يظن أنها طاهرة تُحسب دنسة بالنسبة لمن لا يستخدمها بلياقة[82].

    العلامة أوريجينوس

    لقد سبق فتحدث إرميا النبي بوضوح عن ختان القلب والأذن، الأمر الذي نرجو أن نعود إليه في تفسيرنا لسفر إرميا إن شاء الرب.

    ب. يرى العلامة أوريجينوس في تعليقاته على إنجيل متي أن هذا النص الرسولي يودّ أن يوضّح أن اليهودي الحقيقي، ليس حسب الجنس، وإنما بالروح كرجل الله، هو ذاك الذي يُنتسب للسيد المسيح، إذ يقول أن كلمة "يهود" جاءت منتسبة ليهوذا بن يعقوب، لكنها الآن بالروح تخص من ينتسب لذاك الذي تجسد من سبط يهوذا. هذا هو اليهودي في الخفاء الذي له ختان القلب بالروح.

    بنفس المعني يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [الآن أسأل: ما هو إسرائيل اليوم؟ يجيب الرسول: الذين يسلكون بالروح لا بالحرف، يسلكون في ناموس المسيح، هم إسرائيل الله[83].]

    أما سمة اليهودي الروحي أو إسرائيل الجديد فهي: "الذي مدْحُه ليس من الناس بل من الله" [29]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لست أمنعك من شهوة المجد، إنما أريك المجد الحقيقي النابع عن الله... لنكن أنقياء في الخفاء، لا أن نتثقل بالاستعراضات والمظاهر والرياء. لنخلع بالأحرى ثياب الحملان، ولنكن بالحقيقة حملان، ليس شيء أتفه من المجد البشري. أن رأيت أطفالاً صغارًا رُضَّع، فهل تشتهي مجدًا منهم؟ هذا هو الحادث بالنسبة لكل البشر بخصوص المجد، لهذا دُعي "المجد الباطل[84]".]

    <<


    الأصحاح الثالث
    حاجة الكل للخلاص

    بعد عرض الرسول لعلاقة البشريّة بالله انتهي إلى هذا الأصحاح ليُعلن أنه وإن اختلفت خطايا البشر عن بعضهم البعض، لكن النتيجة واحدة، وهي سقوط الكل تحت نير الخطيّة، أي إعلان أن الكل غير بار ويحتاج إلى تبرير حقيقي فعَال. بمعنى آخر جاء هذا الأصحاح أشبه بحكم عام على البشرية كلها أنها بلا برّ حقيقي، في عوز إلى من يبرّرها.

    1. الاتهام: عدم أمانتنا مع أمانة الله 1- 8.

    2. علّة الاتهام: الكل بلا برّ 9–20.

    3. الحكم: دينونة الكل، والحاجة إلى تبرير عام 21-31.

    1. الاتهام: عدم أمانتنا مع أمانة الله

    الاتهام الموجّه للبشرية كلها: إنها بلا بر،ّ أي بلا أمانة في قبول وعد الله لها، بالرغم من برّ الله في وعده لها؛ في هذا يشترك اليهودي مع الأممي، ويتساوى الكل. هذا الاتهام قد يُسيء اليهود فهمه فيحسبونه مستهينًا بما نالوه من امتيازات، لذلك جاء الاتهام مفصلاً بطريقة لائقة لا تجرح مشاعرهم، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

    أولاً: أن كان الأممي قد كسر الناموس الطبيعي فهلك (ص 1)، واليهودي كسر الناموس المكتوب واستهان بالخِتان الروحي فسقط في دينونة أكثر مرارة من التي يسقط تحتها الأممي، فما الحاجة إذن لاختيار الله لشعبه؟ وتقديمه عهد الخِتان والناموس المكتوب؟ هذا هو التساؤل الذي وضعه الرسول بولس في نهاية حديثه عن ما بلغ إليه الأممي واليهودي، ولئلاّ يظن القارئ أن بولس الرسول يستهين بنعم الله وعطاياه في العهد القديم، لذلك يقول الرسول:

    "إذًا ما هو فضل اليهودي؟ أو ما هو نفع الخِتان؟

    كثير على كل وجه، أمّا أولاً فلأنهم أستؤمنوا على أقوال الله.

    فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟ أفلعلّ عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟

    حاشًا، بل ليكن الله صادقا وكل إنسان كاذبًا،

    كما هو مكتوب: لكي تتبرّر في كلامك،

    وتغلب متى حوكمت" [1-4].

    خشي الرسول أن يُساء فهم حديثه السابق، فيظنه البعض أنه يقلل من شأن معاملات الله مع شعبه، خاصة تقديمه ناموسه كعطيّة يؤتمنوا عليها، أو اختيارهم كشعبٍ مقدس له، أو دخوله في عهد معهم مقدمًا الخِتان علامة عهد. لذلك أسرع ليؤكّد أن العيب لا في العطيّة ولا في العاطي، وإنما في عدم أمانة من تسلمها. بمعني آخر، إنه ينتقد تصرف اليهود نحو نعم الله لا نعم الله في ذاتها، فإن الله في أمانته قدّم عطايا إلهية ونعم مجّانية مقدّسة، لكن الإنسان في غير أمانة أساء استخدامها، وأفسد عملها في حياته.

    يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على عبارات الرسول هذه، قائلاً:

    [إن كان المقصود هو أن كل هذه الأشياء بلا قيمة، فلماذا دُعي الشعب؟ ولماذا أُقيم عهد الخِتان؟

    ماذا يفعل الرسول هنا؟ وكيف يحل هذه المشكلة؟

    يحلها بنفس الطريقة التي سبق فاتبعها، إذ تغني بهبات الله لا بفضل اليهود، فبكونهم يهودًا عرفوا إرادة الله، وأدركوا الأمور الأسمى، ذلك ليس بفضل عملهم الذاتي، إنما هو عمل نعمة الله. وكما قال المرتّل في المزمور: "لم يصنع هكذا بإحدى الأمم وأحكامه لم يعرفوها". وكما أعلن موسى بسؤاله: "هل جرى مثل هذا الأمر العظيم؟ أو هل سُمع نظيره؟ هل سمع شعب صوت الله يتكلّم من وسط النار كما سمعت أنت وعاش؟" (تث 4: 32-33). هذا ما يفعله بولس هنا، إذ اتّبع ذات الوسيلة إذ قال بأن الخِتان ذو نفع إن أُقترن بفعل الصلاح (رو 2: 25) ولم يقل أن الخِتان بلا نفع، لذلك تساءل: إن كنت متعديًا الناموس فقد صار ختانك غرلة (رو 2: 25). كأنه يقول: يا من أختتنت صار ختانك غُرْلة، ولم يقل: يا من اختتنت ختانك بلا نفع على الإطلاق. لهذا يطيح بالأشخاص ويؤيد الناموس؛ هذا ما يفعله هنا إذ بعدما تساءل: ما هو فضل اليهودي؟ لم يجب بالنفي، بل أكدَ فضله ليعود فيدحضهم موضحًا عقوبتهم خلال الميزات التي نالوها.

    أردف السؤال بسؤال، قائلاً: أو ما هو نفع الخِتان؟

    ويجيب على السؤالين، قائلاً: "كثير على كل وجه، أمّا أولاً فلأنهم أستؤمنوا على أقوال الله".

    ترون إذن أنه في كل مناسبة يعدد نعم الله لا أفضال اليهود.

    ما معني: "استؤمنوا"؟ معناها أن الناموس قد وُضع بين أيديهم، لأن الله جعل لهم قيمة فأقامهم أمناء على أقواله التي نزلت من فوق. بقوله هذا يقيم شكوى ضدهم، إذ يهدف إلى إظهار نكرانهم للفضل بالرغم من المزايا التي وُهبت لهم.

    يستطرد فيقول: "فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء، أفلعلّ عدم أمانتهم تبطل أمانة الله؟ حاشًا" [3-4].

    لاحظوا هنا كيف يبرز الاتهام في شكل اعتراض، وكأنه يقول: رب معترض يتساءل: ما نفع الخِتان إذًا ما داموا قد أساءوا استخدامه؟ وهو لا يقف هنا موقف المشتكي العنيف، إنما موقف من يلتزم بتبرير الله من الشكاوى الثائرة ضده، فيحولها من ضد الله إلى ضد اليهود. يقول لهم: لماذا تتذمّرون من أن البعض لم يؤمنوا؟ كيف يؤثر هذا في الله من جهة عطاياه، فهل نكران مستخدميها يغيَر من طبيعتها؟ أو يجعل من الأمر المكرّم هوانًا؟ هذا هو معنى تساؤله: "أفلعلّ عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟" يجيبهم: "حاشا"، وكأنه يقول: لقد أكرمت فلانًا، فلم يقبل إكرامي، فهل يُحسب عدم قبوله الإكرام علّة شكوى ضدي؟ أو يقلّل هذا من إكرامي؟...

    تأمّلوا إذن كيف وضعهم الرسول في قفص الاتهام خلال ذات الأمور التي ينتفخون بها!... لقد عمل الله ما في وسعه، أمّا هم فلم يعرفوا أن ينتفعوا بأعماله معهم، إذ يردّد قول المرتّل في المزمور: "لكي تتبرّر في كلامك وتغلب متى حوكمت[85]".]

    [انظروا إلى خطّة بولس فإنه لم يَتّهم الكل بعدم الأمانة، بل قال: "إن كان قوم" [3] هؤلاء كانوا غير أمناء، وهكذا يبدو الرسول غير قاسٍ في اتهاماته حتى لا يظهر كعدوٍ[86].]

    هكذا لم يحقِّر الرسول من العطايا الإلهية سواء بالنسبة للختان كعلامة للعهد الإلهي إن فهم روحيًا وأيضًا لعطيّة الأقوال الإلهية، إنما يهاجم عدم أمانة الإنسان، الأمر الذي لا يبطل أمانة الله.

    لم يتجاهل رجال العهد الجديد عطايا الله لرجال العهد القديم، خاصة أقوال الله، ففي خطاب الشماس استفانوس جاء حديثه عن موسى النبي هكذا: "الذي قبل أقوالاً حيّة ليعطينا إيّاها" (أع 7: 38).

    في حبٍ قدّم الله أقوالاً حيّة تحمل المواعيد الإلهيّة، لكن قابل الإنسان الحب بالجمود، فعصى أقوال الله، وتجاهل حفظها روحيًا وعمليًا بالرغم من افتخاره بها، وتمسكه بحفظها في حرفيتها. ومع هذا يبقي الله أمينًا في تحقيق ما وعد به.

    رفض الإنسان اليهودي "الحق" برفضه وعود الله الواردة في أقواله خاصة ما جاء بالنسبة للمسيا المخلص، فحُسب كاذبًا، أمّا الله فيبقي صادقًا يحقّق ما وعد به.

    هذا ويقدّم لنا القدّيس جيروم تفسيرًا روحيًا لعبارة: "ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا" [4]، معلنًا أنه ما دام الإنسان يسلك بفكره وإمكانياته البشريّة الذاتية، إنما يعيش بالكذب، لكنه متى التقى بالله "الحق" وحمل سماته ويحسب ابنًا لله، ينعم بالحق فيه، فيكون بالله صادقًا، إذ يقول: [يصير الإنسان بالقداسة إلهًا، بهذا يكف عن أن يكون إنسانًا ينطق بالكذب[87].]

    ويرى القدّيس كبريانوس خلال ذات العبارة أنه لا يليق بنا أن نيأس حين نرى البعض ينحرف عن الإيمان أن ينكره، إنما كرجال الله نتشدّد ونسلك بالحق، حتى وإن سلك كثيرون بالكذب، فمن كلماته:

    [إن كان كل إنسان كاذبًا والله وحده صادق يليق بنا نحن خدام الله، خاصة الكهنة، ماذا نفعل سوى أن ننسى الأخطاء البشريّة والكذب، ونستمر في حق الله، ونحفظ وصايا الرب[88]!]

    [اختار الرب يهوذا من بين الرسل، وقد خان يهوذا الرب، فهل ضعُف إيمان الرسل أو وَهن ثباتهم لأن يهوذا الخائن قد فشل في تبعيتهم؟ هكذا فإن قداسة الشهداء وكرامتهم لا تنقصان لأن إيمان البعض قد تحطّم[89].]

    [ينصحنا بولس أيضًا ألا نضطرب حين يهلك الأشرار خارج الكنيسة، ولا يضعف إيماننا بمفارقة غير المؤمنين لنا... فمن جانبنا يلزمنا أن نجاهد ألا يهلك أحد تاركًا الكنيسة بسبب خطأ ارتكبناه، لكن أن هلك أحد بإرادته وخطيته ولا يودّ العودة أو التوبة والرجوع إلى الكنيسة، فإننا لا نُلام في يوم الدين، مادمنا كنّا مهتمين بإصلاحه، إنما يسقط هو وحده تحت الدينونة لرفضه العلاج بنصيحتنا الصالحة[90].]

    ويقدّم لنا الأب بولاس أسقف يوبا Bobba بموريتانيا ذات الفكر قائلاً أنه يلزم ألا نضطرب حين يرفض إنسان إيمان الكنيسة[91].

    يرى القدّيس أغسطينوس أن الكذب هنا يعني الفراغ، والصدق أو الحق يعني الملء، إذ يقول: [الله الملء والإنسان فارغ. أن أراد أحد أن يمتلئ فليذهب إلى ذاك الذي هو الملء: "تعالوا إلى واستنيروا" (راجع مز 34: 5). فإن كان الإنسان كاذبًا، فهو بهذا فارغ يطلب أن يمتلئ، فيجري بسرعة وغيرة نحو الينبوع ليمتليء[92].]

    يقول أيضًا: [عندما يعيش إنسان حسب الحق يعيش لا حسب نفسه بل حسب الله القائل: "أنا هو الحق" (يو 14: 6). من يحيا حسب نفسه، أي حسب الإنسان لا الله، فبالتأكيد يعيش حسب الكذب، ليس لأن الإنسان نفسه كذب إذ الله موجده وخالقه، وهو بالتأكيد ليس موجدًا للكذب ولا خالق له، إنما لأن الإنسان الذي خُلق مستقيمًا لكي يحيا حسب الله خالقه لا حسب نفسه، أي يتمّم إرادة الله لا إرادته الذاتية، صار يعيش بغير ما خُلق ليعيش به، وهذا هو الكذب... لذلك لم يقُل أن كل خطيّة هي كذب باطلاً[93].]

    ثانيًا: إذ عالج الرسول المشكلة الأولي وهي: ما نفع بركات الله ونعمه على اليهودي، إن كان اليهودي قد أساء استخدامها، فصارت البركات وهي مقدّسة ومباركة علّة عقوبة أعظم لمن أساء استخدامها؟ إذ أظهر الرسول أن بعضًا منهم كانوا غير أمناء، لكن يبقي الله أمينًا بالرغم من عدم أمانتهم، وأنه لا يليق أن نشين كرامة واهب النعم، إن أساء الذين قبلوها استخدامها. الآن يعالج الرسول مشكلة أخرى مشابهة للأولى ومكمّلة لها، وهي كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الوثنيّين قد استهانوا بكلمات الرسول بولس: "حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًا"... فحسبوا أن النتيجة الطبيعية لذلك هي أننا نخطيء لكي تزداد النعمة، أو بمعنى آخر لنكن غير أمناء فتتجلي أمانة الله.

    يقول الرسول: "ولكن إن كان إثمنا يبين برّ الله، فماذا نقول: ألعلّ الله الذي يجلب الغضب ظالم؟ أتكلم بحسب الإنسان: حاشًا، فكيف يدين الله العالم إذ ذاك؟ فإنه أن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده، فلماذا أُدان أنا بعد كخاطئ؟ أمّا كان يُفتري علينا، وكما يزعَم قوم أننا نقول: لنفعل السيّئات لكي تأتي الخيرات، الذين دينونتهم عادلة" [5-8].

    نستخلص من هذا النص الآتي:

    أ. لا يتوقف عدو الخير عن محاربة خدمة السيد المسيح بكل طرق، فإن كان اليهود يهاجمون الكرازة بدعوى أن الرسول بولس يُهين الناموس ويستخفّ بالخِتان، ويقاوم أمة اليهود، فإن الأمم من جانبهم أيضًا يقاومون هذا العمل بإساءة فهمه، حاسبينه أنه ينادي بفعل السيئات لكي تأتي الخيرات، وكأن الشرّ هو علّة الخير، وعدم أمانتنا هو مجد لأمانة الله، وهذا بلا شك افتراء كاذب. لذا إذ يُعلن الرسول عن سقوط العالم كله في الشرّ، ليتحدّث عن حاجة الجميع إلى المخلص، يوضّح أنه لا ينادي بما أُتُّهم به، مُظهرًا أن هذا القول يستلزم أحد أمرين: إمّا أن يكون الله غير عادل، لأنه يجازي الإنسان على شرّه وعدم أمانته، وهو علّة نصرة الله ومجده، أو أنه إن لم يعاقبنا تقوم نصرته على رذائلنا، وكِلا الأمران ممقوتان عند الرسول.

    ب. يودّ الرسول تأكيد أن الله الذي يتمجّد حتى في شرّنا بإعلان برّه وحبّه للخطاة لا يعفي الإنسان من مسئوليته عن ارتكابه للإثم. فقد اعتاد الإنسان منذ بدء سقوطه أن يلقي باللوم على غيره، كما فعل آدم الذي ألقى باللوم على المرأة التي جعلها الله معه (تك 3: 12)، وكما فعلت حواء التي ألقت باللوم على الحيّة.

    يقول الرسول: "أتكلم بحسب الإنسان" [5] وكأنه إذ يلتزم بتقديم هذا الاعتراض الذي يخطر على فكر البعض، إنما يتكلّم كإنسان متكابر على الله، إذ ينسب لله الظلم في إدانته للإنسان الأثيم ويفتح الباب للإنسان أن يتمادى في ارتكاب الآثام بحجّة إعلان "برّ الله". لهذا جاءت هذه الرسالة تؤكد أن برّ الله وأمانته في مواعيده وفيض نعمته على الخطاة ليست فرصة للشر، إذ يقول: "أنبقى في الخطيّة لكي تكثر النعمة؟ حاشا، نحن الذين مُتنا عن الخطيّة كيف نعيش بعد فيها؟" (رو 6: 1-2).

    ج. يُعلّق القدّيس إكليمنضس السكندري[94] على العبارات الرسولية التي بين أيدينا موضحًا أن الله يوقع العقوبة ليس عن انفعال، إنما لتحقيق العدالة، فيختار الأثيم لنفسه أن يسقط تحت العقوبة بكامل حريته، هو الملوم لا الله.

    2. علّة الاتهام: الكل بلا برّ

    الآن بعد أن ردَ على اليهود الذين اتهموا الرسول أنه يستخف بعطايا الله لهم كيهود أهل الخِتان وأصحاب الناموس، كما ردَ على الأمميّين الذين حسبوه ينادي بفعل الشرّ لكي يجلب الخير، بدأ يؤكّد من جديد فساد البشريّة كلها ليُعلن حاجة الكل إلى طريق واحد للخلاص، هو التمتّع ببرّ المسيح خلال الإيمان بفدائه، إذ يقول:

    "فماذا إذًا، أنحن أفضل؟ كلا البتة.

    لأننا قد شكونا أن اليهود واليونانيّين أجمعين تحت الخطيّة.

    كما هو مكتوب: أنه ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله.

    الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا ليس ولا واحد.

    حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مكروا.

    سمَ الأصلال تحت شفاههم، وفمهم مملوء لعنة ومرارة.

    أرجلهم سريعة إلى سفك الدم، في طرقهم اغتصاب وسحق، وطريق السلام لم يعرفوه.

    ليس خوف الله قدام عيونهم" [9-18].

    الآن إذ يُعلن فساد البشريّة كلها يلجأ إلى رجال العهد القديم ليقتطف كلماتهم التي تؤكد ذلك:

    يلجأ إلى داود النبي القائل: "ليس من يفهم، ليس من يطلب الله" (مز 14: 2 الترجمة السبعينيّة)، وقد جاءت الترجمة العبرية: "هل من فاهم طالب الله!" فإذ أخطأ الكل في حق الله، انطمست عيون أذهانهم، فلم تعد تستطيع أن تراه، ولا أن تدرك أسراره الإلهية، كآدم الذي أخطأ، فصار غير قادرٍ على إدراك محبّة الله، وأصبح هاربًا من وجهه لا يقدر أن يطلبه. لكن هل ينطبق هذا على اليهود الذين صارت لهم معرفة الله بالناموس، ويطلبونه خلال طقوسهم وعبادتهم غير المنقطعة؟ يجيب المرتّل: "ليس من يفهم، ليس من يطلب الله"، غير مميّز اليهودي عن الأممي، لأن اليهودي في حرفيته لم يستطع إدراك أعماق الناموس وغايته الإلهية كما تحوّلت الطقوس إلى شكليات لا تمس القلب ليُدرك الله ويعاينه.

    ويقتطف من نفس المزمور: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد" (مز 14: 3). مرة أخرى يؤكّد أن "الجميع" بلا تمييز بين يهودي أو أممي إذ لم يفهموا، ولم يعد للصلاح موضع فيهم. هذا أيضًا ما يعلنه إشعياء النبي القائل: " كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحدٍ إلى طريقه" (إش 53: 6).

    بعد أن تحدّث عن فساد الكل بوجه عام بدأ يُعلن فساد الإنسان في كُلّيته، فتحوّلت الحنجرة إلى قبر مفتوح (مز 5: 9) تخرج رائحة موت ونتانة، وانشغل اللسان بالمكر، وتحوّلت الشفاه إلى مخزن خفي لسمَ الأصلال (مز 140: 3)، وفمهم ينبوع لعنة ومرارة (مز 10: 7)، وأرجلهم تسرع إلى سفك الدم (إش 59: 7؛ أم 1: 16) لا تعرف طريق السلام، بل طريق السحق والمشقة، أمّا أعماقهم ففقدت البصيرة الداخليّة، فلم يعد خوف الله أمام عيونهم (مز 36: 1). وكأن الفساد قد دبَّ في حياة الإنسان الداخليّة، كما في أعضائه الظاهرة.

    3. الحكم: دينونة الكل، والحاجة إلى تبرير عام

    إن كان الذين بلا ناموس مكتوب قد سقطوا تحت الهلاك، والذين تحت الناموس قد صاروا تحت الدينونة، فكيف يمكن الخلاص؟ يقدّم لنا الرسول بولس العلاج معلنًا الحاجة إلى المخلص الذي يقدّم حياته فِدْية عن العالم كله، واهبا البرّ الإلهي لمؤمنيه. ويلاحظ في هذا العلاج الآتي:

    أولاً: يقول الرسول: "وأما الآن فقد ظهر برّ الله بدون الناموس" [21]. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يكتفي بقوله "البرّ"، إنما يصفه "برّ الله" مظهرًا مدي النعمة وعظمة الوعد مادام الله هو مصدرهما.]

    إن كان الإنسان قد فشل في نوال البرّ خلال الناموس الطبيعي أو الناموس المكتوب، إذ ظهر كاسرًا للناموس، فإن الله قدّم برّه لنا، باتحادنا مع الآب في ابنه البارّ الذي بلا خطيّة، نحمله في داخلنا، ويحملنا هو فيه، فنحسب به أبرارٌا. فالبرّ الذي صار لنا ليس وليد جهادنا الذاتي ولا طاعتنا الذاتية، إنما هو ثمرة عمل روحه القدوس الذي يهبنا الشرّكة مع الآب في ابنه، فنحمل سمات الابن فينا، ويصير برّه برًا لنا.

    بمعني آخر إذ فقد الكل "البرّ" صارت الحاجة إلى برّ الله، الأمر الذي تحدّث عنه الله بلسان النبي إشعياء:

    "اسمعوا لي يا أشدّاء القلوب البعيدين عن البرَّ، قد قربت برّي، لا يبعد، وخلاصي لا يتأخر" (إش 46: 12-13).

    "قريب برّي، قد برز خلاصي... أمّا خلاصي فإلى الأبد يكون، وبرَّي لا ينُتقص... أمّا برّي فإلى الأبد يكون، وخلاصي إلى دور الأدوار" (إش 51: 5، Cool.

    "احفظوا الحق واِجروا العدل، لأنه قريب مجيء خلاصي واستعلان برّي" (إش 56: 1).

    ثانيًا: بقوله: "ظهر برّ الله". وليس "قدّم برّ الله" يُعلن أن هذا البرّ الإلهي ليس جديدًا، إنما هو في ذهن الله يودّ أن يقدمه لنا، إنما في الوقت المعيّن، لذا يقول: "مشهودًا له من الناموس والأنبياء". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يودّ أن يقول لهم: لا تضطربوا لأنكم لم تنالوا قبل الآن، ولا تفزعوا... لأن الناموس والأنبياء أشاروا إليه منذ القديم[95].]

    هذا البرّ الذي أنبأ الله به على أفواه الأنبياء، أعلنه في ابنه يسوع المسيح البارّ لحسابنا، إذ يقول: "برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح، إلى كل وعلي الذين يؤمنون، لأنه لا فرق" [22]. أشار الأنبياء على البرّ من بعيد، أمّا المسيح فهو وحده جاء نائبًا عنّا لكي إذ يحمل المؤمنين فيهن ينعمون ببرّ الآب الذي هو أيضًا برّ الابن. هذا ما أعلنه السيد في صلاته الوداعية: "أنا مجّدتك على

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت 21 سبتمبر 2024 - 14:40