من طرف ابن الانبا توماس الجمعة 25 مارس 2011 - 16:40
٣. ارتفاع الرأس إلى السماء
"ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون،
وأخذته سحابة عن أعينهم" [9].
يؤكد لوقا الإنجيلي: "ولما قال هذا... وهم ينظرون"، ففي قيامته لم يره أحد، لكن الطبيعة شهدت له، والقبر الفارغ، مع شهادة الجند أنه سُرق وهم نيام الأمر الذي لا يقبله عقل بل أكد قيامته، وظهورات السيد لكثيرين وفي أوقات متباينة وهو يتحدث معهم ويحاورهم، حتى لا يظنوا أن ما رأوه كان حلمًا جميلاً، أو وهمًا. ما كان يمكنهم أن يصدقوا حقيقة صعوده ويؤمنوا بها لو لم يروها بأعينهم.
كان لابد أن يروا صعوده ويتحدثوا مع الملاكين ليدركوا أن ملكوت المسيح ليس ملكوتًا أرضيًا زائلاً، بل ملكوت سماوي أبدي. ولكي يدركوا أن رسالته على الأرض قد كملت (يو ١٧: ٤؛ ١٩: ٣٠)، وكان لائقًا به أن يعود إلى مجده الذي له مع الآب (يو ١٧: ٤–٥؛ في ٢: ٦، ٩–١٠).
أتم السيد رسالته على الأرض، فصعد لكي يرسل الروح القدس ليقود كنيسته في العالم كله.
صعد إلى الآب لكي يهيئ لنا مجدنا خلال شفاعته الكفارية لدى الآب لغفران خطايانا وتبريرنا فيه، كرئيس الكهنة الأعظم (عب ٩: ٧–٨، ١١–١٢، ٢٥). ولكي يعلن انفتاح أبواب السماء لأول مرة لحامل الطبيعة البشرية، فصار لنا حق الصعود معه.
قدم لنا الإنجيلي لوقا هذا المشهد الحقيقي المثير والبديع لصعود السيد المسيح إلى السماء، وقد أخذته سحابة عن أعين تلاميذه. يقول المرتل: "الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح" (مز 104: 3). ويقول دانيال النبي: "كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه..." (دا 7: 13). يشير السحاب إلى السمو الفائق والجلال الإلهي (تث ٤: ١١؛ ٢صم ٢٢: ١٢؛ مز ٩٧: ٢)، كما يشير إلى الشكيناهShekinah كمجدٍ يمثل الحضرة الإلهية (خر ٣٣: ٧–١١؛ ٤٠: ٣٤؛ مر ٩: ٧).
"ارتفع" إذ صار جسد الرب ممجدًا بقيامته من الأموات، لا سلطان للجاذبية الأرضية على الجسد القائم من الأموات، وأصبح طبيعيًا أن يرتفع، بل ويرفع معه كل من يلتصق به، أو يصير عضوًا فيه. "وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع". (يو 12: 32)
بعد قيامته تسربل جسده بالمجد والتحف بالنور، ومن أجلنا أخفي ذلك عن الأعين حتى يتلامس معه تلاميذه ومن معهم ويتأكدون من قيامته. لقد قدم نعمة خاصة لتلاميذه لكي يروه صاعدًا، هذا الذي لما ظهر لشاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق ارتعد وتحير، "بغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض". (أع 9: 3-4)
لقد أخفى مجده عن أعين الذين التقوا معه حتى إذ أخذته سحابة عن أعينهم، رفع الحجاب عن مجده، ولم يعُد بعد يمكن للأعين البشرية أن تراه. إنما نراه بعد أن يهبنا قيامة أجسادنا لتصير على مثال جسده الممجد. "حينئذ ينظرون ابن الإنسان آتيًا في سحابٍ بقوةٍ كثيرةٍ ومجدٍ" (مر 13: 26).
v لقد نلنا هذابسبب "الجسد" الذي قدمه الرب، لقد قدم للآب بكر طبيعتنا. وبسبب كرامة المُقدم وكمال قابل التقدمة، وجد الآب "العطية" مقبولة، فاستلمها بيده وضمها لنفسه وقال (للرب المتجسد): "اجلس عن يميني" (مز 10:68).
ألم يرتفع (الناسوت المتحد باللاهوت) إلى فوق السماوات؟!
أليست هذه كرامة بلا قياس؟!
لقد ارتفعت (طبيعتنافي شخص الإله المتجسد) فوق السماوات، وسمت فوق الملائكة. لقد عبرت فوق رؤساء الملائكة والشاروبيم، وحلقت فوق السيرافيم، عالية أكثر من كل القوات السمائية، واستراحتفي العرش الإلهي الحقيقي وحده...
إن سلوك جنسنا كان هكذا شريرًافي الماضي، حتى كان الأمرفي خطر من أن يُباد كل الجنس البشرى عن وجه الأرض. والآن نحن الذين قبلاً حُسبنا غير متأهلين للبقاءفي الأرض رُفعنا إلى السماوات.
نحن الذين كان قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السماوات، وندخل السماوات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي.
هذه الطبيعة التي لنا، التي كان الشاروبيم يحرس أبواب الفردوس منها، هوذا اليوم ترتفع فوق الشاروبيم!
كيف يمكننا أن نعبر على حدث عظيم (عيد الصعود) هكذا عبورًا سريعًا؟!
لأنه نحن الذين أسأنا إلى مثل هذه المراحم العظيمة، حتى صرنا غير مستحقين للأرض ذاتها، وسقطنا من كل سلطان وكرامة، بأي استحقاق نرتفع إلى كرامة علوية كهذه؟!
كيف انتهى الصراع؟!
لماذا زال غضب اللّه؟...
فإن هذا هو بحق عجيب: إن السلام قد حلّ، لا بعمل قام به الذين أثاروا غضب اللّه... بل الذي غضب علينا بحق هو نفسه يدعونا إلى السلام. إذ يقول الرسول: "إذًا نسعى كسفراء عن المسيح كأن اللّه يعظ بنا" (2 كو 20:5). وماذا يعنى هذا؟ بالرغم من أننا أسأنا إليه، فإنه هو الذي يسعى إلينا ويدعونا إلى السلام. إنه حقا هكذا، فإذ هو اللّه، وهو الإله المحب الذي يدعونا إليه[32].
v هذه أيضا علامة أنه صعد إلى السماء، إذ لم تحمله نار كما في حالة إيليا، ولا مركبات نارية، بل "أخذته سحابة"، بكونها رمزًا للسماء، كما يقول النبي: "جعل السحاب مركبته" (مز 104: 3)، فقد قيل هذا عن الآب نفسه. لذلك يقول: "على السحاب" بطريقة رمزية حيث يود أن يتحدث عن القوة الإلهية، فإنه لا توجد قوة أخرى تُرى على السحاب. اسمع أيضًا ما يقوله نبي آخر: "يجلس الرب على سحابة خفيفة " (إش 19: 1)... أيضًا على الجبل حلّ السحاب بسبب الله، حيث دخل موسى في الظلمة، ولم يكن السحاب بسبب موسى[33].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v "الجاعل السحاب طريقه، الماشي على أجنحة الرياح" (مز 104: 3). بهذا يشير إلى عنايته الإلهية التي تبلغ كل موضع. فإنه يجعل وضعه على الرياح والسحاب.
يقول إنه يقوم بشخصه بضبط كل الأمور ويقودها، وفي الوقت اللائق يهب النفع الصادر عنها. إنه في نفس الوقت يعلم أن الطبيعة الإلهية حاضرة في كل موضع، ويفحص كل الأشياء، حيث أن الرياح هي أسرع كل الأمور المادية، تعبر في ومضة من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق إلى الغرب. لا يجد صورة دقيقة للسرعة بين الأمور المادية أكثر من الرياح، لذلك قال إن الله تحمله أجنحة الرياح، مشيرًا بهذا إلى حضوره في كل موضع.
أيضًا نجد إله الجميع يظهر لبني إسرائيل في سحاب، ويجعل ظهوره الشخصي في خيمة الاجتماع عن طريق سحابة (خر 13: 21؛ 40: 34). عندما دشن سليمان البيت بالطبع غطت سحابة البيت (2 أي 5: 13: 14).
والمسيح الرب على الجبل مع الثلاثة رسل أعطى ومضة من سحابة مشرقة حوله (مت 17: 5)، وفي صعوده حملته سحابة منيرة عن أنظارهم[34].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
v صعد إلى السماوات ولم يعد بعد هنا (بالجسد). حقًا إنه جالس هناك عن يمين الآب، وهو أيضًا هنا دون أن ينسحب قط عن حضرة مجده[35].
القديس أغسطينوس
v عندما أراد إظهار أنه توجد قيامة للجسد حقيقية، وأنه ليس مستحيلاً أن يصعد الجسد إلى السماء، "ارتفع إلى السماء وهم يشخصون"، إذ كان هو في الجسد[36].
القديس يوستين
"وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق،
إذا رجلان قد وقفا بهم بلباسٍ أبيض" [10].
إذ كانت الملائكة تشتهي خدمته والشهادة له، ظهر ملاكان للحاضرين يشهدان لصعوده، ربما كانا ذات الملاكين اللذين كانا في القبر يشهدان لقيامته[37].
رأوا ملاكين في شبه بشر بلباسٍ أبيض، كأنهما ملتحفان بالنور علامة الطهارة والفرح والمجد. غالبًا ما تظهر الملائكة بلباسٍ أبيضٍ (يو ٢٠: ١٢؛ مت ٢٨: ٣؛ مر ١٦: ٥)، ويظهر المفديون في السماء سائرين مع المخلص بثيابٍ بيضٍ؛ كما قيل: "من يغلب فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا" (رؤ ٣: ٥، ٧: ٩، ١٣–١٤).
v على أي الأحوال، ما رأته أعينهم لم يكن مُشبعًا تمامًا. فبالنسبة للقيامة رأوا نهايتها ولم يروا بدايتها (إذ لم يروه أثناء قيامته). أما في الصعود فرأوا البداية ولم يروا النهاية.
فبالنسبة للأولى لم يكن من الضروري أن يروا البداية، لأن الرب نفسه الذي يتحدث بهذه الأمور حاضر، والقبر يعلن بكل وضوح أنه ليس فيه السيد. وأما في الأخيرة فكانوا محتاجين أن يتعرفوا على التكملة بكلمة الغير (بواسطة الملاكين). فلم تكن أعينهم قادرة أن تريهم إياه، أي في العلا، ولا أن تخبرهم بأنه بالحقيقة صعد إلى السماء... لذلك جاءت ملائكة تخبرهم به. لاحظوا كيف حدث كل شيء بتدبيرٍ، وأن ما حدث لم يكن بالروح وحده، وإنما كان لأعينهم دورها في ذلك[38].
v كان المنظر الخارجي مبهجًا (بلباسٍ أبيض)، كانا ملاكين في شكل رجلين[39].
v الفارق بين الملائكة والبشر عظيم، مع هذا فإنه يجلبهم ليقتربوا إلينا أسفل... إنهم يعملون من أجلنا، ومن أجلنا يجرون هنا وهناك، ويترقبون مجيئنا (إليهم). هذه هي خدمتهم، إنهم يُرسلون في كل طريق لحسابنا[40].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v عندما تقدم المنتصر بجسده القائم من الموت، قالت قوات معنية: "من ذا الآتي بثيابٍ حمر من بُصرة؟" أما الذين كانوا في صحبته، فقد صاحوا بالقائمين على أبواب السماء: "انفتحي يا أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد[41]"
العلامة أوريجينوس
v اليوم (عيد الصعود) استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن طويل!
اليوم رأى رؤساء الملائكة أولئك الذين يشتاقون إلى رؤيتهم منذ زمنٍ بعيدٍ!
اليوم رأوا طبيعتنا (إذ اتحد بها الابن الكلمة)في العرش الإلهي، تتلألأفي جمالٍ أبديٍ ومجدٍ سرمديٍ!
هذا ما اشتهاه الملائكة زمانًا!
هذا ما كان ينتظره رؤساء الملائكة!
ومع أن الطبيعة البشرية قد سمت فوقهمفي الكرامة، لكنهم فرحوا من أجل الخير الذي حلّ بنا، لأنه عندما حلّ بنا العقاب حزنوا.
وبالرغم من أن الشاروبيم وقفوا حارسين الفردوس (عند طردنا)، إلا أنهم اغتموا من أجل شقائنا، وذلك مثلهم كمثل عبد يقبض بيد رفيقهفي حضرة سيده، ويلقي بهفي السجن ويبقى حارسًا إياه، لكنه مملوء حزنًا من أجل الضيقة التي حلت بزميله... هكذا فعل الشاروبيم إذ قاموا باستبعاد البشر عن الفردوس، لكنهم كانوا حزانى من أجل هذا...
ولكي تعرفوا أنهم حزنوا على ذلك، أوضح لكم هذا بما يحدث بين البشر. لأنه إن كنتم ترون أناسًا لهم حنو على العبيد رفقائهم، فإنكم لا تشكون أن هذا كان بالنسبة للشاروبيم. لأن هذه القوات السمائية أكثر حنانًا من البشر.
منْ منَ البشر لا يتألم إذ يرى الغير يُعاقبون، حتى ولو كان العقاب بعدلٍ ومن أجل خطايا كثيرة؟!
هذا الحنو هو أمر مستحق للمديح، فإنه بالرغم من معرفة الشاروبيم عن جرائم الناس، وإدراكهم أنهم عصوا عصيانًا خطيرًا، لكنهم يحزنون من أجلهم حزنًا قلبيًا. وذلك مثل موسى أيضًا عندما أعلن هذا بعدما ارتكب شعبه عبادة الأوثان، إذ قال: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فإمحني من كتابك الذي كتبت" (خر32:32).
ماذا تقصد يا موسى؟! أنت ترى كفرهم، ومع ذلك هل تحزن بسبب معاقبتهم؟! يقول: نعم لأجل هذا أحزن إذ هم يُعاقبون، ولو أنهم ارتكبوا ما يستحق العقاب...
وهكذا فإن موسى، وحزقيال (8:9)، وإرميا (24:10)، هؤلاء حزنوا من أجل الخطاة، أفلا تشفق القوات السمائية من أجل ضيقاتنا؟!...
فإنهم يرون شؤوننا كأنها شئونهم، لهذا كم تكون فرحتهم، إذ يروننا قد تصالحنا مع اللّه! فما كانوا يفرحون هكذا لو لم يكونوا قد حزنوا من أجلنا. أما فرحهم فواضح من كلمات المسيح نفسه: "أقول لكم هكذا يكون فرحفي السماء بخاطئ واحد يتوب" (لو 7:15). فإن كانت الملائكة تفرح متى رأت إنسانًا خاطئًا يرجع إلى اللّه تائبًا، فكيف لا يمتلئون فرحًا عظيمًا عندما يرون الطبيعة البشرية كلها، في بكرها، تصعد اليوم إلى السماء؟!
اسمعوا أيضًافي موضع آخر عن فرح الطغمات السمائية بسبب رجوعنا إلى الصداقة مع اللّه. فإنه عندما وُلد ربنا حسب الجسد، ناظرين إلى أنه منذ تلك اللحظة قد حلت الصداقة مع الجنس البشرى عوض العداوة، وإلا ما كان قد نزل بينهم، فإذ رأوا ذلك ترنمت جوقة سمائية قائلة: "المجد للّهفي الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لو 14:2)...
أتريدون أن تعرفوا عظم غبطتهم وفرحهم عندما رأوا المسيح صاعدًا إلى السماء؟! أنصتوا إلى كلماته التي يخبرنا بها عنهم كيف كانوا يصعدون وينزلون على الدوام، وهذا أسلوب من ينتظر أن يرى أمرًا جديدًا عجيبًا.
وأين يظهر أنهم كانوا يصعدون وينزلون؟
أنصتوا إلى كلمات الرب: "من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة اللّه يصعدون وينزلون على ابن الإنسان" (يو 51:1).
هذه هي علامة القلوب المتحننة المملوءة حبًا، إذ لم ينتظروا الوقت المعين، إنما سبقوا الساعة المحددة بالبهجة.
وهكذا بقوا صاعدين ونازلين برغبة مملوءة شوقًا وحبًا، منتظرين تلك الرؤية الجديدة العجيبة من جهة (الإله المتأنس) الذي يظهرفي السماوات.
بسبب هذه كانت الملائكة تظهرفي كل حين: عندما وُلد، وعندما قام، وعندما صعد إلى السماوات. إذ يقول الكتاب المقدس: "إذا رجلان قد وقفا بهما بلباس أبيض". لبسهما هذا يعلن عن فرحتهما.
وقد قالا للتلاميذ: "أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؛ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء" (أع 10:1، 11).
ركز انتباهك معي! لماذا قالا هكذا للتلاميذ؟! ألم يرَ التلاميذ ما هو حادث أمامهم؟ ألم يقل الإنجيلي: "هذا ارتفع وهم ينظرون". لماذا وقف الملاكان بهما وأخبراهما عن صعوده إلى السماء؟! كان ذلك لسببين:
السبب الأول: لأن التلاميذ بدأوا يحزنون، لأن المسيح سيتركهم... "ليس أحد منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم" (يو 5:16- 6)...
لأجل هذا وقف الملاك بمن حزنوا عند الصعود، مذكرًا إياهم بأنه سيأتي أيضًا مرة أخرى "إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء". كأنه يقول لهم: "أنتم تحزنون لأنه صعد. لكن لا تحزنوا بعد، فإنه سيعود". وقد قال لهم ذلك حتى لا يفعلوا ما فعله أليشع، ممزقًا ثيابه عندما رأى سيده يصعد إلى السماء (2مل12:2)، لأنه لم يقف به أحد يقول له بأن إيليا سيعود مرة أخرى. فلكي لا يفعلوا هذا، وقف بهما الملاكان وعزياهم، ونزعا عنهم الحزن الذي ملأ قلوبهم. هذا هو سبب ظهور الملاكين.
وأما السبب الثاني فهو ليس بأقل من الأول، إذ أضافا قائلين: "يسوع هذا الذي ارتفع عنكم" لماذا؟ لقد ارتفع إلى السماء. والمسافة بينهم وبين السماء شاسعة، تعجز قدرة أبصارهم عن أن ترى جسدًا يرتفع إليها... لهذا فإن الملاكين وقفا بهم وأوضحا لهم حقيقة الصعود إلى السماء، حتى لا يظنوا أنه أُخذ إلى فوق حيث يوجد إيليا، بل بالحق صعد إلى السماوات. ولهذا السبب قيل لهم: "هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء". لم يضف هذا القول بغير سبب. لكن إيليا أُخذ إلى فوق كما إلى السماء، لأنه خادم. أما يسوع فقد صعد إلى السماء (حيث العرش الإلهي) إذ هو الرب.
واحد صعدفي مركبة، والآخرفي سحابة.
عندما دُعى العبد أُرسلت إليه مركبة، أما الابن فإذ له العرش الإلهي، وليس أي عرش بل عرش أبيه، وقد جاءفي إشعياء... "هوذا الرب راكب على سحابة" (إش1:19)...
إذ صعد إيليا سقط عنه رداءه لأليشع (2 مل 13:2)، وإذ صعد يسوع أرسل النعم لتلاميذه، لهم جميعًا، وليس لنبيٍ واحد، بل إلى أمثال أليشع كثيرين بل ومن هم أكثر من أليشع مجدًا.
لنقم أيها الإخوة المحبوبون، ولنرفع أعين نفوسنا تجاه ذاك الذي سيعود، إذ يقول لنا بولس: "لأن الرب نفسه بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكة، وبوق اللّه ينزل من السماء... ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعًا معهمفي السحب لملاقاة الرب في الهواء" (1 تس 16:4). ولكن ليس الكل (يتمتع بهذا) بل بعضنا يصعد إلى السماوات وآخرون يبقون...
اسمعوا ماذا يقول المسيح؟ "اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى" (مت 41:24)...
فهل نحن أيضًا نصعد؟!...
وعندما أقول "نحن" أحسب نفسي لست (مستحقًا) أن أكون بين الذين يصعدون. لأنني لست هكذا بلا إحساس أو فهم حتى أتجاهل خطاياي. وإذ أخشى أن أتلف فرح هذا العيد المقدس، لهذا فإنني أبكي بدموع مرة عندما استرجعفي ذهني هذه الكلمات وأتذكر خطاياي.
وإذ لا أريد أن أنزع فرح هذا العيد، فإنني أنهي عظتي تاركًا فرح هذا العيد يشعفي أذهانكم دون أن يُحتجب، فلا يبتهج الغنى كثيرًا بغناه، ولا يتضايق الفقير بسبب فقره، بل يصنع كل إنسان عمله أيا كان حسبما يمليه عليه ضميره.
لأن الإنسان السعيد ليس هو الغنى، ولا الفقير إنسان بائس، بل بالأحرى مطوّب، ومثلث التطويبات، ذاك الذي يكون مستحقًا أن يصعد على السحاب ولو كان أفقر الجميع.
وهو بالحق بائس ومثلث البؤس، ذاك الذي يحسب مع المفقودين ولو كان أغنى من جميع الناس...[42]
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وقالا أيها الرجال الجليليون،
ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟
إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء،
سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء" [11].
كان موطن التلاميذ هو الجليل، فلا نعجب إن دعاهم الملاكان جليليين.
ليس من منظر لحدثٍ في تاريخ البشرية يمكن أن يبهر الإنسان مثل صعود السيد المسيح على السحاب، يقابله تمامًا مجيئه على السحاب لكي يحمل معه كنيسته في موكب سماوي فائق، ويدخل بها إلى الأمجاد الأبدية.
لماذا كانوا واقفين ينظرون إلى السماء؟