الأصحاح الثاني
سجود الملوك للملك
إذ وُلد المسيّا الملك جاء المجوس يمثّلون كنيسة الأمم المنجذبة لعريسها الملك، تقبل حبّه وتتعبّد له، تقدّم له حياتها تقدمة حب مقابل ذبيحة حبّه اللانهائي:
1. مجيء المجوس 1-6.
2. ثورة هيرودس 7-8.
3. سجود المجوس 9-11.
4. انصراف المجوس 12.
5. الهروب إلى مصر 13-15.
6. قتل أطفال بيت لحم 16-18.
7. العودة إلى الناصرة 19-23.
1. مجيء المجوس
حقًا إن مجيء كلمة الله متجسّدًا قد شغل ذهن الله قبل خلقتنا، وقد هيأ له وسط شعبه بالآباء والأنبياء والناموس، بطرق متنوّعة، ومع هذا إذ تحقّق الأمر تجاهله الشعب تمامًا اللهمّ إلا القليل النادر. لهذا قدّم الله توبيخًا خلال الغرباء، فجاء إليه المجوس كباكورة كنيسة الأمم. جاءوا إلى بلدٍ غريبٍ ليسجدوا لطفل بسيط في مزود، وليس مولود قصر ملكي، لكن يقود موكبهم نجم سماوي، يُعلن عن وجود سرّ خفي فيه.
والمجوس هم كهنة وفي نفس الوقت ملوك كلدانيون أو فارسيون يقضون جل وقتهم في دراسة الظواهر الفلكية والتكهن بالحوادث المقبلة.
غالبًا ما جاء المجوس في موكب عظيم يتقدّمهم ثلاثة من كبارهم يحملون الهدايا للملك العجيب، هؤلاء يمثّلون كل أجناس البشريّة المتسلسلة عن أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وكأنهم بكور الشعوب الأممية جاءوا يلتفون مع بسطاء اليهود - الرعاة - في السجود للمسيّا، فيضمهم معًا كنيسة واحدة له. يقول القدّيس أغسطينوس: [من هم هؤلاء المجوس إلا بكور الأمم؟ لقد كان الرعاة إسرائيليّين والمجوس أمميّين. كان الأوّلون ملاصقين له، والآخرون جاءوا إ ليه من بعيد. لقد أسرع الكل إلى حجر الزاوية[72]".]
وما هو هذا النجم؟ يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يكن نجمًا حقيقيًا كسائر النجوم، إنّما هو ملاك ظهر في شكل نجم أرسله الله لهداية المجوس العاملين في الفلك، ويعلّل ذلك بالآتي:
أولاً: أن مسار النجم الذي ظهر مختلف عن مسار حركة النجوم الطبيعيّة.
ثانيًا: كان النجم ساطعًا في الظهيرة والشمس مشرقة، وليس كبقيّة النجوم تسطع ليلاً.
ثالثًا: كان يظهر أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى.
رابعًا: كان منخفضًا، قادهم إلى حيث المزود تمامًا.
ويرى العلاّمة أوريجينوس أنه نجم حقيقي لكنّه من نوع فريد، إذ يقول: [إننا نعتقد أن الذي ظهر في المشرق كان نجمًا جديدًا، ليس كالنجوم العاديّة... لكنّه يُحسب في عداد المذنبات التي تشاهد في أحيان كثيرة، أو النيازك، أو النجوم الملتحمية أو النجوم التي على شكل الجرار، أو أي اسم ممّا يصف به اليونانيّون أشكالها المختلفة[73].]
لماذا استخدم النجم؟
أولاً: استخدم الله كل وسيلة للحديث مع شعبه موضّحًا لهم أسرار التجسّد الإلهي وأعماله الخلاصيّة، لكن إذا أظلمت عيون قلوبهم بظلمة الشرّ وتقسّى قلبهم، بعث إليهم غرباء الجنس كعطشى للحق يوبّخونهم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لتوبيخ اليهود على قسوتهم، ولينزع عنهم كل عذر يحتجّون به على جهلهم الإرادي[74].] ويقول القدّيس جيروم: [لكي يعرف اليهود بنبأ ميلاد المسيح من الوثنيّين حسب نبوّة بلعام أحد جدودهم، بأن نجمه يظهر من المشرق. وإذ أرشد النجم المجوس حتى اليهوديّة وتساءل المجوس عنه، لم يبقَ لكهنة اليهود عذر من جهة مجيئه[75].] حقًا في كل عصر إذ يتقسّى قلب المؤمنين أبناء الملكوت يحدّثهم الرب أحيانًا خلال الملحدين والأشرار الذي يقبلون الإيمان في غيرة متّقدة توبّخهم.
ثانيًا: الله الذي يحب البشريّة كلها يُعلن ذاته للجميع، محدثًا كل واحدٍ بلغته. فقد تحدّث مع اليهود بالناموس والنبوّات، واستخدم الفلسفات اليونانيّة بالرغم ممّا ضمّته من أضاليل كثيرة كطريق خلاله قبل كثير من الفلاسفة إنجيل الحق. وها هو يحدّث المجوس رجال الفلك بلغتهم العمليّة.
يحدّث الله كل إنسان باللغة التي يفهمها، فأرسل للرعاة ملائكة وللمجوس نجمًا يقول القدّيس أغسطينوس: [أظهر الملائكة المسيح للرعاة، وأعلن النجم عنه للمجوس. الكل تكلم من السماء!... الملائكة تسكن السماوات، والنجم يزيّنها، وخلال الاثنين تُعلن السماوات مجد الله[76].] ويقول الآب غريغوريوس الكبير: [كان من اللائق أن كائنًا عاقلاً، أي ملاكًا هو الذي يخبر هؤلاء الذين استخدموا عقولهم في معرفة الله، أمّا الأمم فإذ لم يعرفوا أن يستخدموا عقولهم في معرفته لم يقدهم الصوت الملائكي بل العلاّمة (النجم). لهذا السبب يقول بولس أن النبوّة ليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين، وأما الآية (العلامة) فليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1 كو 14: 22)[77].] ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس[78] أن المجوس أدركوا أن تعاويذهم قد بطلت، وشعروا أثناء عملهم أن أمرًا يفوق السحر قد حدث في العالم، فتطلّعوا إلى النجوم ليروا علامة من الله في السماء، عندئذ أدركوا كلمات بلعام: "يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل... " (عد 24: 17). يقول القدّيس جيروم: [تعلّموا عن ظهور هذا النجم من نبوّة بلعام إذ هم من نسله[79].]
ثالثًا: يرى البعض أن المجوس تسلّموا هذا التقليد الخاص بظهور النجم عند مجيء الملك المخلّص عن دانيال النبي الذي عينه الملك كبيرًا للمجوس حين كان في السبي البابلي، وفد حدّد في نبوّاته موعد مجيئه.
رابعًا: أراد الله أن يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة، فالنجوم التي اُستخدمت كوسيلة للتضليل يعبدها الناس (عا 5: 26) صارت وسيلة للدخول بهم إلى الالتقاء مع الله. حقًا ما أعجب معاملات الله معنا، إنه لا يحطّم ما لنا حتى إن صار طريقًا للشرّ إنّما يغيّر مساره ويحوّله إلى الخير؛ عِوض أن يكون خادمًا لمملكة الظلمة يصير آلة برّ لحساب مملكة النور. كل ما وهبنا الله من طاقات ومواهب ومشاعر ودوافع إن تدنّست لا يحطّمها الله، بل بروحه القدّوس يجدّدها ويقدّسها لتصير سرّ بنياننا الروحي ووسائط للشهادة له.
والعجيب أن الله استخدم النجوم للكرازة بين الفلكيّين، فإذا ببعضهم أرادوا تأكيد مفاهيمهم الشرّيرة بذات العمل الإلهي الفائق، فادّعوا أن لكل إنسان نجمه الذي يُسيّر حياته لا يقدر أن ينحرف عنه. وقد انبرى كثير من الآباء يواجهون هذه الادعاءات مثل الآباء غريغوريوس الكبير[80]، يوحنا الذهبي الفم[81]، وأغسطينوس[82]. نذكر على سبيل المثال بعض عبارات للقدّيس أغسطينوس: [لم يكن للنجم الذي رآه المجوس السلطان على المسيح المولود حديثًا، لم يكن هذا النجم أحد النجوم التي خُلقت في بدء الخليقة ويجرى في مساره حسب قانون خالقه، إنّما كان نجمًا جديدًا ظهر في هذا الميلاد العجيب من عذراء، وعكس خدمته على المجوس الباحثين عن امرأة، فتقدّمهم ليضيء لهم الطريق حتى قادهم إلى الموضع حيث فيه كان كلمة الرب كطفل. لم يُولد الطفل لأن النجم كان هناك، وإنما جاء النجم لأن المسيح قد وُلد. إن كان يجب أن نتحدّث عن المصير بالأحرى دعنا نقول لم يحدّد النجم مصير المسيح (كما يدَّعي المنجّمون) بل المسيح الذي حدّد مصير النجم.]
خامسًا: جاء النجم يكمّل شهادة الطبيعة للسيّد المسيح. إن كانت البشريّة العاقلة لم تعرف كيف تستقبله كما يجب انطلقت الطبيعة الجامدة تشهد له بلغتها الخاصة. يقول القدّيس أغسطينوس: [شهدت له السماوات بالنجم، وحمله البحر إذ مشى عليه (مت 14: 25)، وصارت الرياح هادئة ومطيعة لأمره (مت 23: 27)، وشهدت له الأرض وارتعدت عند صلبه (مت 27: 51)[83].] هكذا قدّمت الطبيعة تمجيدًا لخاِلقها بلغتها، ونحن أيضًا إذ صرنا سماءً يليق بنا أن نشهد له بظهور نجمه فينا يقود الخطاة إلى المسيّا المخلّص، ينحنون له ويتعبّدون بالحق. ما هو هذا النجم إلا سِمة الصليب الحيّ المعلن في حياتنا الداخليّة وتصرّفاتنا في الرب. يقول القدّيس أغسطينوس: [عرفه المجوس بواسطة نجم كعلامة سماويّة وجميلة قدّمها الرب، لكنّه لا يرغب فينا أن يضع المؤمن نجمًا على جبهته بل صليبًا. بهذا يتّضع المؤمن ويتمجّد أيضًا، فيرفع الرب المتواضعين، هذا الذي في تواضعه تنازل.]
متى بدأ ظهور النجم؟
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم قد ظهر مبكرًا قبل الميلاد ربّما بحوالي سنتين، حيث قاد المجوس ليبلغوا بيت لحم في وقت الميلاد. ويرى البعض أنه ظهر عند ميلاده، وقد أخذ المجوس بعض الوقت حتى بلغوا بيت لحم، لهذا إذ تحقّق هيرودس الأمر أمر بقتل الأطفال من سنتين فما دون، إذ حسب المدّة بناءً على ظهور النجم.
بالنجم التقَى المجوس باليهود
يروي لنا الإنجيلي اللقاء الذي تمّ بين المجوس واليهود على كل المستويات، خاصة الملك ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب، إذ يقول: "ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يُولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" [1-6].
لقد وُلد السيّد في "بيت لحم" التي تعني "بيت الخبز"، فجاء إلينا خبزًا سماويًا يتناوله الجياع والعطاش إلى البرّ. للأسف جاء المجوس من المشرق يحتملون آلام الطريق وأتعابه، يبحثون عن غذاء نفوسهم، بينما بقيَ الملك ورؤساء الكهنة والكتبة في أماكنهم يرشدون الغرباء للخبز الحيّ، وأما هم فلا يقتربون إليه. لعلّهم صاروا كالعاملين في بناء فلك نوح، الذين هيّأوا فلك الخلاص ولم يدخلوه!
حقًا ما أبعد الفارق بين المجوس ورؤساء اليهود، فقد تمتّع الغرباء بسرّ الحياة، وحُرم الرؤساء منه.
يقول القدّيس أغسطينوس: [صار اليهود أشبه بالنجّارين الذين صنعوا فلك نوح، فأقاموا لغيرهم طريق النجاة، أمّا هم فهلكوا في الطوفان. إنهم يشبهون المعالم التي توضع للكشف عن الطريق لكنها تعجز عن السير فيه. السائلون تعلّموا وكمّلوا الطريق، والمعلّمون نطقوا بالتعليم وبقوا متخلّفين[84].] ويقول القدّيس يعقوب السروجي: [صاروا كارزين له وهم سائرون في الطريق، يبشّرون بأن ملكًا للعالم كلّه قد أشرق. انبسطت كرازتهم لأميال في الطريق، وكسروا قلوب الملوك الذين جازوا في تخومهم، حثّهم الحق ليكونوا له كارزين. الذين هم من الخارج صاروا شهوده وبلغوا أرض اليهوديّة... نظروها فإذا هي هادئة والسكوت يخيّم على حكمائها الذين لم يُدركوا الملك الآتي لخلاصهم. أتى البعيدون ليبشّروا القريبين بميلاد الملك. ابنة الكلدانيّين أرسلت الهدايا للمخلّص، وابنة إبراهيم التي في بيته لم تكرمه[85].]
2. ثورة هيرودس
تكرّر اسم هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.
مات هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة، وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى لم يقدر أحد أن يقترب إليه.
هذه الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة، أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها الرياح[86].] ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة[87].]
اضطرب هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس (الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.
أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له" [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة[88].]
3. سجود المجوس
"فلما سمعوا من الملك ذهبوا،
وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم
حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.
فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا.
وأتوا إلى البيت،
ورأوا الصبي مع مريم أمه،
فخّروا وسجدوا له،
ثم فتحوا كنوزهم،
وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا" [9-11].
إذ تركوا الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!... هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة خبز![89]]
برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان... لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ نراهم يقدّمون هدايا[90].]
ماذا تعني هدايا المجوس؟
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا[91].]
ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت... لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: "كنز مشتهى في فم البار" (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: "يداي تقطران مرًا" (نش 5:5). إننا نقدّم للملك الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات) الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، "تعفّنت الحيوانات في روثها[92]". الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد الخلاعة ويحفظ في الطهارة[93].]
4. انصراف المجوس
"ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس،
انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" [2].
في بساطة الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل. بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير[94] إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة[95].]
في مرارة أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم وخضوعهم لإبليس، وكأنه - إن صح هذا التعبير - يسلّمون مسيحهم الداخلي لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: "من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟" (عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية - إن صح التعبير - ويشهّر به بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.
5. الهروب إلى مصر
"وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلاً:
قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر،
وكن هناك حتى أقول لك،
لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه.
فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر" [13-14].
يلاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الملاك لم يقل عن القدّيسة مريم "امرأتك"، بل قال "أمه"، فإنه إذ تحقّق الميلاد وزال كل مجال للشك[96]. صارت القدّيسة منسوبة للسيّد المسيح لا ليوسف. لقد أراد الملاك تأكيد أن السيّد المسيح هو المركز الذي نُنسب إليه. يرى القدّيس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيّد المسيح خلال الإيمان الحيّ العامل بالمحبّة تحمله فينا روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقدّيسة مريم التي حملته روحيًا كما حملته بالجسد!
لماذا هرب السيّد المسيح إلى مصر؟
أولاً: الهروب إلى مصر يمثّل حلقة من حلقات الألم التي اجتازها القدّيس يوسف بفرحٍ، فإن كان الوحي قد شهد له بالبرّ، فإن حياة البرّ تمتزج بالآلام دون أن يفقد المؤمن سلامة الداخلي. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الملاك ليوسف، قائلاً: [لم يتعثّر يوسف عند سماعه هذا، ولا قال: هذا أمر صعب، ألم يقل لي إنه يخلّص شعبه، فكيف لا يقدر أن يخلّص نفسه، بل نلتزم بالهروب، ونقطع رحلة طويلة، ونقطن في بلد آخر؟ فإن هذا يناقض ما وعدت به! لم يقل شيئًا من هذا، لأنه رجل إيمان! بل ولا سأل عن موعد رجوعه، إذ لم يحدّده الملاك، بل قال له: "وكن هناك حتى أقول لك". لم يحزن بل كان خاضعًا ومطيعًا يحتمل هذه التجارب بفرح. هكذا يمزج الله الفرح بالتعب، وذلك مع كل الذين يتّقونه... مدبّرًا حياة الأبرار بمزج الواحدة بالأخرى. هذا ما يفعله الله هنا... فقد رأى يوسف العذراء حاملاً، فاضطرب وبدأ يشك... وفي الحال وقف به الملاك وبدّد شكّه ونزع عنه خوفه. وعندما عاين الطفل مولودًا امتلأ فرحًا عظيمًا، وتبع هذا الفرح ضيق شديد إذ اضطربت المدينة، وامتلأ الملك غضبًا يطلب الطفل. وجاء الفرح يتبع الاضطراب بظهور النجم وسجود الملوك. مرّة أخرى يلي هذا الفرح خطر وخوف لأن هيرودس يطلب حياة الطفل، والتزم يوسف أن يهرب إلى مدينة أخرى[97].]
هذه هي صورة الحياة التقويّة الحقيقية، هي مزيج مستمر من الضيقات مع الأفراح، يسمح بها الرب لأجل تزكيتنا ومساندتنا روحيًا، فبالضيق نتزكّى أمام الله، وبالفرح نمتلئ رجاءً في رعاية الله وعنايته المستمرّة.
ثانيًا: هروب السيّد المسيح من الشرّ أكّد حقيقة تجسّده، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لو أنه منذ طفولته المبكّرة أظهر عجائب لما حُسب إنسانًا[98].]
ثالثًا: هروبه كممثّل للبشريّة يقدّم لنا منهجًا روحيًا أساسه عدم مقاومة الشرّ بالشرّ، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تطفأ بالنار بل بالماء.
رابعًا: كانت مصر رائدة العالم الأممي، فكانت بفرعونها تُشير في العهد القديم إلى العبوديّة، بخصوبة أرضها تُشير إلى حياة الترف ومحبّة العالم. كان يمكن للسيّد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهوديّة أو الجليل، لكنّه أراد تقدّيس أرض مصر، ليقيم في وسط الأرض الأمميّة مذبحًا له. في هذا يقول إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة، وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تُخُمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويَعرف المصريّون الرب في ذلك اليوم، ويقدّمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به... مبارك شعبي مصر" (إش 19). اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حيّ. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدّم السيّد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله، ظهر ذلك بوضوح خلال عمل مدرسة الإسكندريّة وظهور الحركات الرهبانيّة والعمل الكرازي. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هلمّوا إلى برّيّة مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكيّة في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليّين... لقد تهدّم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصّنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برّيّة مصر الممتلئة من قلالي النُسّاك... على أيّ الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي بكل خوارس كواكبها حاربت ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك... على أي الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي حاربت الله في برود فعبدت القطط، وخافت البصل، وكانت ترتعب منه، مثل هذا يدرك قوّة المسيح حسنًا[99].]
يتحدّث أيضًا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: [إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشرّ، أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما كل الأرض، فتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس، والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه.] كما يقول: [تأمّل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر[100].]
6. قتل أطفال بيت لحم
"حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًا،
فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها،
من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس.
حينئذ تمّ ما قيل بإرميا النبي القائل:
صوتٌ سُمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير.
راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزّى،
لأنهم ليسوا بموجودين" [16-18].
قتل أطفال بيت لحم لم يتم بمحض الصدفة، لكنّه يمثّل جزءً لا يتجزأ من حياة المخلّص، اهتم الوحي بإعلانه في العهدين القديم والجديد. لقد رأى إرميا النبي راحيل زوجة يعقوب المدفونة هناك تبكي على أولادها (أحفادها) من أجل قسوة قلب هيرودس عليهم.
ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح ملك السلام أن تحدث هذه الكارثة بسبب ميلاده؟ في الوقت الذي فيه انطلقت الملائكة بالتسبيح تطوّب البشريّة لتمتّعها بالسلام السماوي، وجاء الغرباء يحملون الهدايا إلى طفل المزود، إذا بالأطفال العبرانيّين يُقتلون بلا ذنب. لقد قدّم هؤلاء الأطفال عملاً كرازيًا وشهادة حق أمام العالم كله، فإنهم يمثّلون كنيسة العهد الجديد التي حملت بساطة الروح كالأطفال، التي لا يطيقها هيرودس فيضطهدها، لكنّه لا يقدر أن يكتم صوت شهادتها، إذ انطلق الأطفال كأبكار لينعموا بالوحدة مع الحمل الإلهي أينما وُجد.
عبور أطفال بيت لحم إلى فوق يمثّلون كنيسة الأبكار كموكب روحي مقدّس يتقدّمهم المصلوب البكر، يرتفعون به ومعه خلال البذل الحق ليشاركوا السمائيّين ليتورجيّاتهم وتسابيحهم العلويّة الجديدة.
في اختصار أقول أن هذا الحدث بما فيه من نحيبٍ وعويلٍ مع مرارةٍ قاسيةٍ لا يمكن إنكارها، يحمل كشفًا عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة بسيطة بلا تعقيد، تحمل الصليب كعلامة جوهريّة تمسّ طبيعتها، كنيسة أبكار، مرتفعة إلى فوق تمارس حياتها السماويّة خلال ثبوتها في الرأس السماوي المصلوب!
7. العودة إلى الناصرة
أوحي للقدّيس يوسف أن ينصرف إلى ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة يُقال لها "ناصرة"، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيّدعي ناصريًا.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث بقوله: [عاد يوسف إلى الناصرة، لكي يتجنب الخطر من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يبتهج بالسكنى في موطنه[101].]
ذهابه إلى الناصرة، وهي بلد ليست بذي قيمة أراد به أن يحطّم ما اتسم به اليهود من افتخارهم بنسبهم إلى أسباط معيّنة، أو من بلاد ذات شهرة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن الموضع كان قليل الأهمّية، بل بالأحرى ليس فقط الموضع وإنما كل منطقة الجليل. لهذا يقول الفرّيسيّون: "فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل" (يو 7: 52). إنه لم يخجل من أن يُدعى أنه من هناك، ليظهر أنه ليس بمحتاج إلى الأمور الخاصة بالبشر، وقد اختار تلاميذه من الجليل... ليتنا لا نستكبر بسبب سموّ مولدنا أو غنانا، بل بالأحرى نزدري بمن يفعل هكذا. ليتنا لا نشمئز من الفقر، بل نطلب غنى الأعمال الصالحة. لنهرب من الفقر الذي يجعل الناس أشرارًا، هذا الذي يجعل من الغِنى فقرًا (لو 16: 24)، إذ يطلب متوسّلاً بلجاجة من أجل قطرة ماء فلا يجد[102].]
كلمة "ناصرة"، منها اشتقّت "نصارى" لقب المسيحيّين؛ وهي بالعبريّة Natzar وتعني غصن، ومنها الكلمة العربيّة "ناضر"، وقد سمّيَ السيّد المسيح في أكثر من نبوّة في العهد القديم بالغصن. فجاء في إشعياء النبي: "ويخرج قضيب من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب..." (إش 11: 1-2). وجاء في إرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأُقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك، وينجح، ويُجري حقًا وعدلاً في الأرض" (راجع إر 33: 15) وفي زكريا: "هأنذا آتي بعبدي الغصن" (زك 3: ، "هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت، ويبني هيكل الرب" (زك 6: 12)... هكذا كان اليهود يترقّبون في المسيّا أنه يُدعى "الغصن"... أي "ناصري".
الأصحاح الثالث
حفل التتويج
عِمَاد الملك
قبل أن يبدأ السيّد المسيح عمله بين شعبه كملك روحي كان يلزم إقامة حفل تدشين أو تتويج للملك الحقيقي عند نهر الأردن بعد أن هيّأ له سابق الملك ـ القدّيس يوحنا المعمدان ـ الذي تقدّم كملاك الرب يهيّئ له الطريق:
1. سابق الملك 1-6.
2. تهيئة الطريق 7-12.
3. عماد المسيح 13-17.
1. سابق الملك
كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولاً سبق فأنبأ عنه بإشعياء النبي: "صوت صارخ في البرّيّة، اعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا" (إش 40: 3)، وبملاخي النبي: "هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النبي قبل مجيء يوم الرب" (مل 4: 5).
يقول الإنجيلي: "في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهوديّة" [1]. لا يفهم من قوله: "في تلك الأيام" أنه بعد رجوع العائلة المقدّسة من مصر مباشرة، وإنما يقصد بها "في ذلك العصر" أو "في ذلك الزمان" وقد حدّد القدّيس لوقا عماد السيّد بنحو ثلاثين من عمره حسب الجسد (لو 3: 23)، وقد سبقه القدّيس يوحنا بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين من عمره، السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود.
كان القدّيس يوحنا يكرز "في برّيّة اليهوديّة"، ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع ضياعها (يش 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة ولا مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد.
لم يخدم القدّيس يوحنا ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت مملوءة جفافًا؛ صارت برّيّة قاحلة وقفرًا محتاجة إلى المسيّا الملك أن ينزل إليها ليرويها بمياه روحه القدّوس، فيجعلها فردوسًا تحمل ثمار الروح. يقول إشعياء النبي على لسان الطبيعة البشريّة المتعطّشة لعمل المسيّا الملك: "يسكب علينا روح من العلاء، فتصير البرّيّة بستانًا" (إش32: 15)، "تفرح البرّيّة والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا، ويبتهج ابتهاجًا ويُرَنِّم" (إش 35: 1-2). هكذا يقدّم القدّيس يوحنا البشريّة كقفرٍ للملك، فيحوّلها فردوسًا أبديًا، بل ويجعلها هيكله المقدّس. لقد حُرم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع، الذي يجعل من برّيتنا هيكلاً جديدًا سماويًا.
لعلّ داود النبي قد رأى بروح النبوّة هذا المنظر، فتهلّلت نفسه فيه، إذ قدّم لنا في ذات البرّيّة مزموره الثالث والستين، فيه يقول: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء... التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني" (مز 63: 1، . لقد رأى داود النبي جموع التائبين على يديّ يوحنا المعمدان في هذه البرّيّة، وقد التهبت قلوبهم بالعطش، وعطش جسده لمياه نعمته... فجاء السيّد لتلتصق هذه النفوس به، وتستند بقوّته بكونها يمين الرب.
ويرى القدّيس أمبروسيوس أن البرّيّة التي كرز فيها القدّيس يوحنا المعمدان هي الكنيسة التي قال عنها النبي إشعياء "لأن بنيّ المستوحشة أكثر من بنيّ ذات البعل" (إش 54: 1) فقد جاء كلمة الله حتى تثمر من كانت قبلاً مستوحشة وبرّيّة.
كيف هيّأ القدّيس يوحنا المعمدان الطريق الملوكي؟ بالمناداة بالتوبة، قائلاً: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" [2]. كان كأسد يزأر في البرّيّة، فخرجت إليه أورشليم وكل اليهوديّة وجميع الكورة المحيطة بالأردن [5]. كانت كلماته أصيلة، ينطق بكلمة الرب كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة.
"التوبة" في اليونانيّة "ميتانية" وتعني تغيير الاتّجاه، فيعطي الإنسان لله الوجه لا القفا خلال اتّحاده بالمسيّا وذلك بعدما حوّل القفا لا الوجه نحو الله (إر 2: 27). لقد التقى شاول الطرسوسي بالآب خلال المسيّا القائم من الأموات، فتغيّر قلبه وفكره وكل اشتياقاته.
لقد "اقترب ملكوت السماوات"، فصار على الأبواب، إذ جاء السيّد المسيح ليسكن فينا، ولم يعد بعيدًا عنّا. وكما يقول الرسول بولس: "الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك" (رو 10: . أمّا طريق التمتّع بهذا الملكوت فهو إدراكنا بالحاجة إلى عمل المسيّا فينا؛ فإذ يَدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة... فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة[103].]
يقول القدّيس أمبروسيوس: [كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها[104].]
لقد وصف إشعياء النبي القدّيس يوحنا المعمدان، قائلاً: "صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة" [3]. إنه الصوت الذي يسبق "الكلمة الإلهي"، وكما يقول الآب غريغوريوس الكبير: [من حديثنا تعرفون أن "الصوت" يكون أولاً عندئذ تُسمع "الكلمة"، لهذا يُعلن يوحنا عن نفسه أنه "صوت"، إذ هو يسبق "الكلمة". فبمجيئه أمام الرب دُعى "صوتًا"، وبخدمته سمع الناس "كلمة الرب" إنه يصرخ معلنًا: "اصنعوا سُبله مستقيمة"... إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بتواضعٍ كلماته للحق، يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). أمّا من يرفع قلبه بالكبرياء، ومن يلتهب بحُمّى الطمع، ومن يلوث نفسه بدنّس الشهوة يغلق باب قلبه ضدّ مدخل الحق، ولئلا يقتني الرب المدخل فإنه يحكم الإغلاق بالعادات الشرّيرة[105].]
يكمّل معلّمنا لوقا البشير هذه النبوّة بقوله: "كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كل بشرٍ خلاص الله" (لو 3: 5-6). ما هذه الوديّان التي تمتلئ خلال التوبة إلا وديان الأمم المنسحقة والمعترفة بحاجتها للمخلّص، هذه التي تمتلئ بمياه الروح القدس الواهبة للحياة. وما هذه الجبال والأكَمَة التي تنخفض إلا كبرياء إسرائيل ويهوذا، فقد تشامخ اليهود وظنّوا أنهم أبرار. فقد جاء يوحنا ليحطّم هذا الكبرياء والتشامخ حتى يستقبل المتّواضعون خلاص الله، فيصلح حال النفوس المعوجّة، وتتغيّر طبيعتها التي كانت كالشعاب القاسية لتصير سهلة. بهذا فإن خلاص الله مقدّم لكل البشر، اليهود والأمم!
v ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق[106].
العلاّمة أوريجينوس
كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه. يقول الإنجيلي: "كان لباسه من وبَر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادًا وعسلاً برّيًا" [4].
يندهش القدّيس يوحنا الذهبي الفم كيف يتحدّث الإنجيلي عن رسالة القدّيس يوحنا المعمدان التي تنبأ عنها إشعياء النبي ليعود فيتحدّث عن ملابسه وطعامه! لقد قدّم هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء كإيليّا يسبق الرب. بهذا المظهر أيضًا قدّم لنا درسًا في الحياة النسكيّة والبعد عن الحياة المدلّلة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا ننسى هذا النوع من الحياة المدلّلة والمخنّثة، فإنه لا يمكن أن تقوم الندامة مع الحياة المترفة في وقت واحد. ليعلِّمك يوحنا هذا الأمر بثوبه وطعامه مسكنه[107].]
لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة.
"واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم" [6].
إذ كان يوحنا يكرز بالتوبة كانت الجموع تأتي إليه تطلب العماد على يديه، معترفين بخطاياهم. لقد عرف اليهود أنواعًا من المعموديّات منها معموديّة المتهوّدين الدخلاء[108]. أمّا معموديّة يوحنا فجاءت رمزًا للمعموديّة المسيحيّة، جاء بها القدّيس يوحنا المعمدان ليهيّئ بها الطريق أمام معموديّة العهد الجديد. لم يكن لمعموديّة يوحنا أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به المعموديّة المسيحيّة لدخول السيّد المسيح "الابن الوحيد" إليها؛ ولم تكن تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.
v كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد؟... إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح![109]
الأب غريغوريوس (الكبير)
v لنعالج باختصار الأنواع المختلفة للمعموديّة:
موسى كان يعمدّ لكن في الماء، في السحابة والبحر، لكنّه فعل هذا بطريقة رمزيّة.
يوحنا أيضًا عمّد، حقًا ليس بطقس اليهود، وليس فقط في الماء وإنما لمغفرة الخطايا، لكنها لم تكن بطريقة روحيّة كاملة، إذ لم يضف أنها "في الروح".
يسوع عمّد ولكن في الروح، وهذا هو الكمال!
توجد أيضًا معموديّة رابعة، تتم بالاستشهاد والدم، الذي اعتمد بها المسيح نفسه والتي هي مكرّمة جدًا عن الباقين...
ومع ذلك توجد معموديّة خامسة وهي عاملة بالأكثر، معموديّة الدموع، حيث كان داود يُعوّم كل ليلة سريره ويغسل فراشه بدموعه (مز 6: 6)[110].
القدّيس غريغوريوس النزينزي
2. تهيئة الطريق
كان يوحنا يهيّئ الطريق للرب في القلوب، ليس بجمع الناس حوله ولحسابه، وإنما بالدخول بجماهير الشعب إلى حياة التوبة، معترفين بخطاياهم. وقد جاء الفرّيسيّون والصدّوقيّون إلى معموديّته بأجسادهم دون قلوبهم، لذا صار يوبّخهم هكذا: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" [7]. لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، بدعوتهم "أولاد الأفاعي".
اتفق القادة المتضادّون معًا ضدّ يوحنا كما اتفقوا معًا ضدّ المسيح نفسه، فقد كان الفرّيسيّون يمثّلون السلطة الكنيسة اليهوديّة والتقليد بطريقة حرفيّة قاتلة. وكان الصدّوقيّون يمثّلون الجانب المضاد للسلطة، ضدّ التقليد، ينكرون القيامة ولا يقبلون فكرة وجود الأرواح. كان الفرّيسيّون يتطلّعون إلى يوحنا أنه أكثر خطرًا من الصدّوقيّين في الثورة على السلطة، فقد خرجت الجماهير من كل المدن لترى مثالاً حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين وكل رجال السلطة الدينيّة. أمّا الصدّوقيّون فإنهم مع مقاومتهم كانوا يرون في يوحنا من هو أخطر من رجال السلطة الدينيّة، فقد كسب الجماهير لصفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين.
على أي الأحوال، وقف القدّيس يوحنا أمام الفرّيسيّين والصدّوقيّين بكل قوّة يوبّخهم، ملقّبًا إيّاهم: "يا أولاد الأفاعي". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات (1 تي 1: 9) يبيدون معلّميهم بأيديهم[111].]
يكمّل القدّيس يوحنا المعمدان حديثه مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، قائلاً: "فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" [8-9].
إن كان اليهود عامة، وقادتهم الروحيّين بصفة خاصة، يتّكلون على نسبهم جسديًا لإبراهيم أب الآباء، فقد أوضح القديس يوحنا لهم بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، وإنما حملوا شرّ الأفاعي فيهم. فالإنسان حسب فكره وتصرفاته يظهر ابن من هو؟ فالسالكون بغير حكمة يدعون "أبناء الحماقة" (أي 30: ، والذين يسلكون في المعصية يحسبون "أبناء المعصية" (كو 3: 6)، ومن لا يبالي بهلاك نفسه يسمى "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، وعلى العكس الذين يختبرون الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح وفيه يعتبرون "أبناء القيامة" (لو 20: 36)، والذين يحبّون النور الإلهي، ويسعون نحوه فيدعون: "أبناء النور" (يو12: 36) و"أبناء النهار" (1 تس 5: 5) الخ.
إن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم، وإلا فإن الله يُقيم له أولادًا من الحجارة، وقد أقام فعلاً. لقد أخرج الله من الأمم التي تحجّرت قلوبهم أبناء لإبراهيم خلال الإيمان بالسيّد المسيح، الذي رأى إبراهيم يومه فتهلّل (يو 8: 56).
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التشبيه جاء عن ولادة هذا الشعب خلال اسحق الموهوب لإبراهيم خلال رحم سارّة العقيم كما لو كان متحجّرًا[112]. كان كالحجر في حالة موت غير قادر على الإنجاب، فأقام الله منه أولادًا لإبراهيم خلال قوّة وعده الإلهي وإيمان إبراهيم بالله القادر على الإقامة من الأموات. هذا ما قصده النبي عندما قال: "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم، وإلى نقرة الجب التي منها حُفِرتُم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارّة التي ولدتكم" (إش 51: 1-2). ها هو يذكرهم الآن بهذه البنوّة، فقد جعله الله أبًا لهم بطريقة معجزيّة كمن يُقيم من الحجارة أولادًا. الآن أيضًا يمكنه أن يفعل ذلك[113].
ويرى القدّيس أغسطينوس أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا. إنه يقول: [يُقصد بالحجارة كل الأمم ليس من أجل قدرتهم على الاحتمال كالحجر الذي رفضه البنّاءون، وإنما من أجل غباوتهم وبلادتهم الباطلة، فصاروا كالأشياء التي اعتادوا أن يعبدوها، إذ عبدوا الصور الجامدة صاروا هم أنفسهم بلا حس؛ "مثلها يكون صانعوها بل كل من يتّكل عليها" (مز 115: . لكنهم إذ بدأوا يعبدون الله، ماذا سمعوا بخصوصهم؟ "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45) إذ يصير الإنسان مشابهًا لمن يعبده. إذن ماذا يقصد بالقول: "الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9)؟... أي نصير أولادًا لإبراهيم بامتثالنا بإيمانه وليس بميلادنا من جسده[114].] كما يقول: [كنّا في آبائنا حجارة إذ عبدنا الحجارة كآلهة، من هذه الحجارة يخلقنا الله عائلة لإبراهيم[115].]
ويقول القدّيس جيروم: [يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكمk وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا[116].]
"والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر.
فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع، وتُلقى في النار" [10].
ماذا يقصد بالفأس التي يضرب بها الشجر غير المثمر، أو الشجر الذي يحمل ثمارًا غير جيّدة إلا صليب ربّنا يسوع المسيح الذي يضرب أصل طبيعتنا الفاسدة ليهلك الإنسان القديم، مقيمًا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه الذي يقدّم ثمر الروح القدس المفرح. إنه يدفن الإنسان العتيق في مياه المعموديّة كما في القبر مع السيد، أو يُلقي به كما في النار ليقدّم لنا خبرة الحياة. لهذا فلا عجب إن كمَّل النبي حديثه بخصوص المعموديّة المسيحيّة، بكونها طريق هدم الإنسان القديم وقيامة الإنسان الجديد، إذ يقول: "أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار" [11].
يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي الكور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات[117].]
يقول القدّيس كبريانوس: [إنها المعموديّة التي فيها يموت الإنسان القديم، ويولد الإنسان الجديد كما يُعلن الرسول مؤكّدًا أنه خلصنا بغسل التجديد[118].]
يرى القدّيس يوحنا المعمدان أنه غير مستحق أن يحمل حذاء السيّد المسيح، وفي موضع آخر يُعلن أنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذائه (يو 1: 27)، ماذا يعني بهذا؟ إن كان كلمة الله غير المُدرَك قد صار كمن يلبس حذاء بتجسّده، إذ صار كواحدٍ منّا ي
سجود الملوك للملك
إذ وُلد المسيّا الملك جاء المجوس يمثّلون كنيسة الأمم المنجذبة لعريسها الملك، تقبل حبّه وتتعبّد له، تقدّم له حياتها تقدمة حب مقابل ذبيحة حبّه اللانهائي:
1. مجيء المجوس 1-6.
2. ثورة هيرودس 7-8.
3. سجود المجوس 9-11.
4. انصراف المجوس 12.
5. الهروب إلى مصر 13-15.
6. قتل أطفال بيت لحم 16-18.
7. العودة إلى الناصرة 19-23.
1. مجيء المجوس
حقًا إن مجيء كلمة الله متجسّدًا قد شغل ذهن الله قبل خلقتنا، وقد هيأ له وسط شعبه بالآباء والأنبياء والناموس، بطرق متنوّعة، ومع هذا إذ تحقّق الأمر تجاهله الشعب تمامًا اللهمّ إلا القليل النادر. لهذا قدّم الله توبيخًا خلال الغرباء، فجاء إليه المجوس كباكورة كنيسة الأمم. جاءوا إلى بلدٍ غريبٍ ليسجدوا لطفل بسيط في مزود، وليس مولود قصر ملكي، لكن يقود موكبهم نجم سماوي، يُعلن عن وجود سرّ خفي فيه.
والمجوس هم كهنة وفي نفس الوقت ملوك كلدانيون أو فارسيون يقضون جل وقتهم في دراسة الظواهر الفلكية والتكهن بالحوادث المقبلة.
غالبًا ما جاء المجوس في موكب عظيم يتقدّمهم ثلاثة من كبارهم يحملون الهدايا للملك العجيب، هؤلاء يمثّلون كل أجناس البشريّة المتسلسلة عن أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وكأنهم بكور الشعوب الأممية جاءوا يلتفون مع بسطاء اليهود - الرعاة - في السجود للمسيّا، فيضمهم معًا كنيسة واحدة له. يقول القدّيس أغسطينوس: [من هم هؤلاء المجوس إلا بكور الأمم؟ لقد كان الرعاة إسرائيليّين والمجوس أمميّين. كان الأوّلون ملاصقين له، والآخرون جاءوا إ ليه من بعيد. لقد أسرع الكل إلى حجر الزاوية[72]".]
وما هو هذا النجم؟ يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه لم يكن نجمًا حقيقيًا كسائر النجوم، إنّما هو ملاك ظهر في شكل نجم أرسله الله لهداية المجوس العاملين في الفلك، ويعلّل ذلك بالآتي:
أولاً: أن مسار النجم الذي ظهر مختلف عن مسار حركة النجوم الطبيعيّة.
ثانيًا: كان النجم ساطعًا في الظهيرة والشمس مشرقة، وليس كبقيّة النجوم تسطع ليلاً.
ثالثًا: كان يظهر أحيانًا ويختفي أحيانًا أخرى.
رابعًا: كان منخفضًا، قادهم إلى حيث المزود تمامًا.
ويرى العلاّمة أوريجينوس أنه نجم حقيقي لكنّه من نوع فريد، إذ يقول: [إننا نعتقد أن الذي ظهر في المشرق كان نجمًا جديدًا، ليس كالنجوم العاديّة... لكنّه يُحسب في عداد المذنبات التي تشاهد في أحيان كثيرة، أو النيازك، أو النجوم الملتحمية أو النجوم التي على شكل الجرار، أو أي اسم ممّا يصف به اليونانيّون أشكالها المختلفة[73].]
لماذا استخدم النجم؟
أولاً: استخدم الله كل وسيلة للحديث مع شعبه موضّحًا لهم أسرار التجسّد الإلهي وأعماله الخلاصيّة، لكن إذا أظلمت عيون قلوبهم بظلمة الشرّ وتقسّى قلبهم، بعث إليهم غرباء الجنس كعطشى للحق يوبّخونهم. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لتوبيخ اليهود على قسوتهم، ولينزع عنهم كل عذر يحتجّون به على جهلهم الإرادي[74].] ويقول القدّيس جيروم: [لكي يعرف اليهود بنبأ ميلاد المسيح من الوثنيّين حسب نبوّة بلعام أحد جدودهم، بأن نجمه يظهر من المشرق. وإذ أرشد النجم المجوس حتى اليهوديّة وتساءل المجوس عنه، لم يبقَ لكهنة اليهود عذر من جهة مجيئه[75].] حقًا في كل عصر إذ يتقسّى قلب المؤمنين أبناء الملكوت يحدّثهم الرب أحيانًا خلال الملحدين والأشرار الذي يقبلون الإيمان في غيرة متّقدة توبّخهم.
ثانيًا: الله الذي يحب البشريّة كلها يُعلن ذاته للجميع، محدثًا كل واحدٍ بلغته. فقد تحدّث مع اليهود بالناموس والنبوّات، واستخدم الفلسفات اليونانيّة بالرغم ممّا ضمّته من أضاليل كثيرة كطريق خلاله قبل كثير من الفلاسفة إنجيل الحق. وها هو يحدّث المجوس رجال الفلك بلغتهم العمليّة.
يحدّث الله كل إنسان باللغة التي يفهمها، فأرسل للرعاة ملائكة وللمجوس نجمًا يقول القدّيس أغسطينوس: [أظهر الملائكة المسيح للرعاة، وأعلن النجم عنه للمجوس. الكل تكلم من السماء!... الملائكة تسكن السماوات، والنجم يزيّنها، وخلال الاثنين تُعلن السماوات مجد الله[76].] ويقول الآب غريغوريوس الكبير: [كان من اللائق أن كائنًا عاقلاً، أي ملاكًا هو الذي يخبر هؤلاء الذين استخدموا عقولهم في معرفة الله، أمّا الأمم فإذ لم يعرفوا أن يستخدموا عقولهم في معرفته لم يقدهم الصوت الملائكي بل العلاّمة (النجم). لهذا السبب يقول بولس أن النبوّة ليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين، وأما الآية (العلامة) فليست للمؤمنين بل لغير المؤمنين (1 كو 14: 22)[77].] ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس[78] أن المجوس أدركوا أن تعاويذهم قد بطلت، وشعروا أثناء عملهم أن أمرًا يفوق السحر قد حدث في العالم، فتطلّعوا إلى النجوم ليروا علامة من الله في السماء، عندئذ أدركوا كلمات بلعام: "يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل... " (عد 24: 17). يقول القدّيس جيروم: [تعلّموا عن ظهور هذا النجم من نبوّة بلعام إذ هم من نسله[79].]
ثالثًا: يرى البعض أن المجوس تسلّموا هذا التقليد الخاص بظهور النجم عند مجيء الملك المخلّص عن دانيال النبي الذي عينه الملك كبيرًا للمجوس حين كان في السبي البابلي، وفد حدّد في نبوّاته موعد مجيئه.
رابعًا: أراد الله أن يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة، فالنجوم التي اُستخدمت كوسيلة للتضليل يعبدها الناس (عا 5: 26) صارت وسيلة للدخول بهم إلى الالتقاء مع الله. حقًا ما أعجب معاملات الله معنا، إنه لا يحطّم ما لنا حتى إن صار طريقًا للشرّ إنّما يغيّر مساره ويحوّله إلى الخير؛ عِوض أن يكون خادمًا لمملكة الظلمة يصير آلة برّ لحساب مملكة النور. كل ما وهبنا الله من طاقات ومواهب ومشاعر ودوافع إن تدنّست لا يحطّمها الله، بل بروحه القدّوس يجدّدها ويقدّسها لتصير سرّ بنياننا الروحي ووسائط للشهادة له.
والعجيب أن الله استخدم النجوم للكرازة بين الفلكيّين، فإذا ببعضهم أرادوا تأكيد مفاهيمهم الشرّيرة بذات العمل الإلهي الفائق، فادّعوا أن لكل إنسان نجمه الذي يُسيّر حياته لا يقدر أن ينحرف عنه. وقد انبرى كثير من الآباء يواجهون هذه الادعاءات مثل الآباء غريغوريوس الكبير[80]، يوحنا الذهبي الفم[81]، وأغسطينوس[82]. نذكر على سبيل المثال بعض عبارات للقدّيس أغسطينوس: [لم يكن للنجم الذي رآه المجوس السلطان على المسيح المولود حديثًا، لم يكن هذا النجم أحد النجوم التي خُلقت في بدء الخليقة ويجرى في مساره حسب قانون خالقه، إنّما كان نجمًا جديدًا ظهر في هذا الميلاد العجيب من عذراء، وعكس خدمته على المجوس الباحثين عن امرأة، فتقدّمهم ليضيء لهم الطريق حتى قادهم إلى الموضع حيث فيه كان كلمة الرب كطفل. لم يُولد الطفل لأن النجم كان هناك، وإنما جاء النجم لأن المسيح قد وُلد. إن كان يجب أن نتحدّث عن المصير بالأحرى دعنا نقول لم يحدّد النجم مصير المسيح (كما يدَّعي المنجّمون) بل المسيح الذي حدّد مصير النجم.]
خامسًا: جاء النجم يكمّل شهادة الطبيعة للسيّد المسيح. إن كانت البشريّة العاقلة لم تعرف كيف تستقبله كما يجب انطلقت الطبيعة الجامدة تشهد له بلغتها الخاصة. يقول القدّيس أغسطينوس: [شهدت له السماوات بالنجم، وحمله البحر إذ مشى عليه (مت 14: 25)، وصارت الرياح هادئة ومطيعة لأمره (مت 23: 27)، وشهدت له الأرض وارتعدت عند صلبه (مت 27: 51)[83].] هكذا قدّمت الطبيعة تمجيدًا لخاِلقها بلغتها، ونحن أيضًا إذ صرنا سماءً يليق بنا أن نشهد له بظهور نجمه فينا يقود الخطاة إلى المسيّا المخلّص، ينحنون له ويتعبّدون بالحق. ما هو هذا النجم إلا سِمة الصليب الحيّ المعلن في حياتنا الداخليّة وتصرّفاتنا في الرب. يقول القدّيس أغسطينوس: [عرفه المجوس بواسطة نجم كعلامة سماويّة وجميلة قدّمها الرب، لكنّه لا يرغب فينا أن يضع المؤمن نجمًا على جبهته بل صليبًا. بهذا يتّضع المؤمن ويتمجّد أيضًا، فيرفع الرب المتواضعين، هذا الذي في تواضعه تنازل.]
متى بدأ ظهور النجم؟
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم قد ظهر مبكرًا قبل الميلاد ربّما بحوالي سنتين، حيث قاد المجوس ليبلغوا بيت لحم في وقت الميلاد. ويرى البعض أنه ظهر عند ميلاده، وقد أخذ المجوس بعض الوقت حتى بلغوا بيت لحم، لهذا إذ تحقّق هيرودس الأمر أمر بقتل الأطفال من سنتين فما دون، إذ حسب المدّة بناءً على ظهور النجم.
بالنجم التقَى المجوس باليهود
يروي لنا الإنجيلي اللقاء الذي تمّ بين المجوس واليهود على كل المستويات، خاصة الملك ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب، إذ يقول: "ولما وُلد يسوع في بيت لحم اليهوديّة في أيام هيرودس الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم، قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟ فإنّنا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له. فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يُولد المسيح؟ فقالوا له: في بيت لحم اليهوديّة، لأنه هكذا مكتوب بالنبي: وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل" [1-6].
لقد وُلد السيّد في "بيت لحم" التي تعني "بيت الخبز"، فجاء إلينا خبزًا سماويًا يتناوله الجياع والعطاش إلى البرّ. للأسف جاء المجوس من المشرق يحتملون آلام الطريق وأتعابه، يبحثون عن غذاء نفوسهم، بينما بقيَ الملك ورؤساء الكهنة والكتبة في أماكنهم يرشدون الغرباء للخبز الحيّ، وأما هم فلا يقتربون إليه. لعلّهم صاروا كالعاملين في بناء فلك نوح، الذين هيّأوا فلك الخلاص ولم يدخلوه!
حقًا ما أبعد الفارق بين المجوس ورؤساء اليهود، فقد تمتّع الغرباء بسرّ الحياة، وحُرم الرؤساء منه.
يقول القدّيس أغسطينوس: [صار اليهود أشبه بالنجّارين الذين صنعوا فلك نوح، فأقاموا لغيرهم طريق النجاة، أمّا هم فهلكوا في الطوفان. إنهم يشبهون المعالم التي توضع للكشف عن الطريق لكنها تعجز عن السير فيه. السائلون تعلّموا وكمّلوا الطريق، والمعلّمون نطقوا بالتعليم وبقوا متخلّفين[84].] ويقول القدّيس يعقوب السروجي: [صاروا كارزين له وهم سائرون في الطريق، يبشّرون بأن ملكًا للعالم كلّه قد أشرق. انبسطت كرازتهم لأميال في الطريق، وكسروا قلوب الملوك الذين جازوا في تخومهم، حثّهم الحق ليكونوا له كارزين. الذين هم من الخارج صاروا شهوده وبلغوا أرض اليهوديّة... نظروها فإذا هي هادئة والسكوت يخيّم على حكمائها الذين لم يُدركوا الملك الآتي لخلاصهم. أتى البعيدون ليبشّروا القريبين بميلاد الملك. ابنة الكلدانيّين أرسلت الهدايا للمخلّص، وابنة إبراهيم التي في بيته لم تكرمه[85].]
2. ثورة هيرودس
تكرّر اسم هيرودس بين عدد من حكّام فلسطين وملوكها أو بعض أجزاء منها أو المناطق القريبة إليها، وفي العهد الجديد ذُكر أربعة ملوك بهذا الاسم، وكان ذلك أثناء الحكم الروماني على فلسطين، من بينهم هيرودس الكبير هذا. وكان هيرودس هذا أدوميًا مولدًا، تجري في عروقه العداوة ضدّ اليهود. لم يكن له حق المُلك، لكنّه صار ملكًا على اليهوديّة، بمساعدة الرومان الذين تحالف معهم أبوه، وكان عنيفًا وشاذًا صار في أواخر أيّامه عرضة للهواجس. كان محبًا لسفك الدماء، قتل الكثير من أعضاء السنهدرين، كما قتل ابنيه الإسكندر وأرسطوبولس، وقبل موته بخمسة أيام قتل ابنه أنتياباتير. وفيما هو يسلّم أنفاسه الأخيرة أمر بقتل جميع عظماء أورشليم حتى يعم الحزن المدينة، ولا يجد الملك الجديد مجالاً للبهجة، لكنّه مات قبل أن تتحقّق أمنيته الأخيرة.
مات هيرودس بعد قتل أطفال بيت لحم بثلاثة شهور، وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفوس، كيف اشتدّت شراهته في الفترة الأخيرة في أكل اللحم بدرجة بالغة، وأصيب بمرض النقرس وداء الاستسقاء، وقد تصاعدت منه رائحة كريهة جدًا، حتى لم يقدر أحد أن يقترب إليه.
هذه الصورة تكشف لنا عن مشاعر هذا الوحش المفترس، عند سماعه عن موكب المجوس ومجيئهم للسجود لملك اليهود. لقد جمع عدوّ اليهود رؤساء الكهنة والكتبة يسألهم خشية أن يسحب الكرسي من تحته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد خشيَ أن ترجع المملكة إلى يهودي، فيطرده اليهود هو وذرّيته ويقطعونهم من الملوكيّة. حقًا كثيرًا ما يتعرّض السلطان العظيم لمخاوف شديدة. فإن الأفنان (أعالي الأشجار) يمكن أن تحرّكها ريح خفيف، وهكذا الذين يسكنون الأماكن العالية تهزّهم كل إشاعة! أمّا الذين يقطنون الأماكن المنخفضة، أيّا كانت، فيكونون كالأشجار التي في الوادي غالبًا ما لا تؤثّر فيها الرياح[86].] ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [اضطرب الملك الأرضي عندما وُلد الملك السماوي، لأن السيادة الأرضيّة تضطرب عندما تظهر العظمة السماويّة[87].]
اضطرب هيرودس الأرضي الذي اتسم بالشرّ عندما أدرك أن من تخدمه النجوم السماويّة قد جاء. حقًا إن تجلِّي رب المجد يسوع في القلب كما في مزود يزعزع هيرودس (الشيطان) الطاغية، الذي يملك بالشرّ. وكأنه إذ يملك الرب بصليبه فينا تنهار مملكة إبليس ولا تقدر أن تثبت.
أخفى هيرودس اضطرابه بمظاهر الخداع، إذ يقول الإنجيلي: "حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا. وتحقّق منهم زمان النجم الذي ظهر. ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدّتموه فأخبروني، لكي آتي أنا أيضًا وأسجد له" [7-8]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغريهم على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة[88].]
3. سجود المجوس
"فلما سمعوا من الملك ذهبوا،
وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم
حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي.
فلما رأوا النجم فرحوا فرحًا عظيمًا جدًا.
وأتوا إلى البيت،
ورأوا الصبي مع مريم أمه،
فخّروا وسجدوا له،
ثم فتحوا كنوزهم،
وقدّموا له هدايا ذهبًا ولبانًا ومرًا" [9-11].
إذ تركوا الملك ظهر لهم النجم وصار يتقدّمهم ليدخل بهم إلى حيث كان السيّد المسيح مضجعًا. ما أحوجنا أن نخرج من دائرة هيرودس الخفي، أي دائرة الخطيّة عمل إبليس، لتتكشّف لنا علامات الطريق الملوكي بوضوح.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النجم الذي رآه المجوس وتقدّمهم إلى بيت لحم إنّما هو خدمة الفقراء والمحتاجين، إذ يقول: [رأوا النجم وكانوا فرحين، وها أنت ترى المسيح نفسه غريبًا وعريانًا ولا تتحرّك!... هم قدّموا ذهبًا وأنت بالكاد تقدّم قطعة خبز![89]]
برؤيتهم للسيّد استراحت قلوبهم وزالت عنهم كل المتاعب، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [قبل رؤيتّهم الطفل كانت المخاوف والمتاعب تضغط عليهم من كل جانب، أمّا بعد السجود فحلّ الهدوء والأمان... لقد صاروا كهنة خلال عمله التعبُّدي، إذ نراهم يقدّمون هدايا[90].]
ماذا تعني هدايا المجوس؟
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لم يقدّموا غنمًا ولا عجول، بل بالأحرى قدّموا الأمور التي تقترب بهم إلى قلب الكنيسة، إذ جاءوا إليه ببداءة التقدمة: معرفة وحكمة وحبًا[91].]
ويقول الأب غريغوريوس الكبير: [يقدّم الذهب كجزية الملك، ويقدّم البخور تقدمة لله، ويستخدم المرّ في تحنيط أجساد الموتى. لهذا أعلن المجوس بعطاياهم السرّيّة للذين يسجدون له بالذهب أنه الملك، وبالبخور أنه الله، وبالمرّ أنه يقبل الموت... لنُقدّم للرب المولود الجديد ذهبًا، فنعترف أنه يملك في كل موضع، ولنقدّم له البخور إذ نؤمن أنه الله ظهر في الزمان، مع أنه قبل كل زمان. ولنقدّم له المرّ، مؤمنين أنه وإن كان في لاهوته غير قابل للألم، فقد صار قابلاً للموت في جسدنا. ويمكننا أيضًا بهذه العلامات أن نفهم شيئًا آخر. الذهب يرمز للحكمة كما يشهد سليمان: "كنز مشتهى في فم البار" (أم 21: 20 الترجمة السبعينيّة). والبخور الذي يُحرق أمام الله يرمز لقوة الصلاة كقول المزمور: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 141: 2)، والمرّ يرمز لإماتة أجسادنا، حيث تقول الكنيسة المقدّسة لعامليها الذين يعملون فيما لله حتى الموت: "يداي تقطران مرًا" (نش 5:5). إننا نقدّم للملك الجديد الذهب، إن كنّا في عينيّه نضيء بنور الحكمة السماويّة، ونقدّم له بخورًا إن كنّا نحرق أفكار الجسد على مذبح قلوبنا، فنرفع لله اشتياقاتنا السماويّة رائحة طيّبة. ونقدّم له المرّ عندما نُميت بالنسك شرور (شهوات) الجسد، فنقول إنه بالمرّ نحفظ الجسد الميّت من الفساد، كما نقول عن الجسد بأنه فسد متى غلبته الخلاعة، إذ قيل بالنبي، "تعفّنت الحيوانات في روثها[92]". الحيوانات التي تهلك في روثها تُشير إلى الجسدانيّين الذي يختمون حياتهم وسط غباوة شهواتهم. إذن فلنقدّم لله مرًا لحماية أجسادنا المائتة من فساد الخلاعة ويحفظ في الطهارة[93].]
4. انصراف المجوس
"ثم إذ أوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس،
انصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم" [2].
في بساطة الإيمان قبِل هؤلاء الرجال ما أُوحيَ إليهم في حلم، ولم يتشكّكوا في الطفل. بالإيمان تركوا طريقهم الذي قدموا منه، ليسيروا في طريق أخرى، حتى لا يلتقوا بهيرودس، مقدّمين للمؤمنين مثلاً حيًا للنفس عندما تلتقي بالسيّد المسيح، إذ لا تعود تسلك في طريقها القديم حيث هيرودس (إبليس) يملك. ويرى الأب غريغوريوس الكبير[94] إن هذا الطريق الجديد إنّما هو طريق الفردوس، الذي تلتزم النفس أن تسلكه خلال لقائها مع ربّنا يسوع. ويقول القدّيس أمبروسيوس: [لنرجع بعيدًا عن هيرودس صاحب السلطان الزمني إلى حين، فنأتي إلى المسكن الأبدي، إلى مدينتنا السمائيّة[95].]
في مرارة أقول إنه ليس شيء يحزن قلب الله مثل أن يرى منّا مجوسًا قد شاهدوا النجم السماوي، واستنار قلبهم وانطلقوا إلى حيث يوجد المخلّص، فانتزع عنهم كل تغرّب عن الله، وصاروا قريبين جدًا للآب، يحلّ فيهم ويجعلهم مقدّسا له بروحه القدّوس، لكنهم للأسف بعد أن قدّموا حياتهم هدايا ثمينة يفرح بها الرب، عادوا مرتدّين إلى طريق هيرودس، أيضًا إلى أعمال إنسانهم القديم وخضوعهم لإبليس، وكأنه - إن صح هذا التعبير - يسلّمون مسيحهم الداخلي لهيرودس، فيبيد منهم العدوّ ثمر نعمة الله السماويّة فيهم. في مرارة يوبّخهم الرسول بولس، قائلاً: "من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشرّ تظنّون أنه يُحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحَسِبَ دم العهد الذي قُدِّس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟" (عب 10: 28-29). إذن ليتنا لا نرتدّ إلى طريق هيرودس المخادع، فلا نسلّم يسوعنا الداخلي في يديه فيصلب مرّة ثانية - إن صح التعبير - ويشهّر به بسببنا، وينطفئ الروح الذي فينا.
5. الهروب إلى مصر
"وبعدما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم، قائلاً:
قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر،
وكن هناك حتى أقول لك،
لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه.
فقام وأخذ الصبي وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر" [13-14].
يلاحظ القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الملاك لم يقل عن القدّيسة مريم "امرأتك"، بل قال "أمه"، فإنه إذ تحقّق الميلاد وزال كل مجال للشك[96]. صارت القدّيسة منسوبة للسيّد المسيح لا ليوسف. لقد أراد الملاك تأكيد أن السيّد المسيح هو المركز الذي نُنسب إليه. يرى القدّيس أغسطينوس أن النفس التي ترتبط بالسيّد المسيح خلال الإيمان الحيّ العامل بالمحبّة تحمله فينا روحيًا، وكأنها قد صارت له كالقدّيسة مريم التي حملته روحيًا كما حملته بالجسد!
لماذا هرب السيّد المسيح إلى مصر؟
أولاً: الهروب إلى مصر يمثّل حلقة من حلقات الألم التي اجتازها القدّيس يوسف بفرحٍ، فإن كان الوحي قد شهد له بالبرّ، فإن حياة البرّ تمتزج بالآلام دون أن يفقد المؤمن سلامة الداخلي. يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الملاك ليوسف، قائلاً: [لم يتعثّر يوسف عند سماعه هذا، ولا قال: هذا أمر صعب، ألم يقل لي إنه يخلّص شعبه، فكيف لا يقدر أن يخلّص نفسه، بل نلتزم بالهروب، ونقطع رحلة طويلة، ونقطن في بلد آخر؟ فإن هذا يناقض ما وعدت به! لم يقل شيئًا من هذا، لأنه رجل إيمان! بل ولا سأل عن موعد رجوعه، إذ لم يحدّده الملاك، بل قال له: "وكن هناك حتى أقول لك". لم يحزن بل كان خاضعًا ومطيعًا يحتمل هذه التجارب بفرح. هكذا يمزج الله الفرح بالتعب، وذلك مع كل الذين يتّقونه... مدبّرًا حياة الأبرار بمزج الواحدة بالأخرى. هذا ما يفعله الله هنا... فقد رأى يوسف العذراء حاملاً، فاضطرب وبدأ يشك... وفي الحال وقف به الملاك وبدّد شكّه ونزع عنه خوفه. وعندما عاين الطفل مولودًا امتلأ فرحًا عظيمًا، وتبع هذا الفرح ضيق شديد إذ اضطربت المدينة، وامتلأ الملك غضبًا يطلب الطفل. وجاء الفرح يتبع الاضطراب بظهور النجم وسجود الملوك. مرّة أخرى يلي هذا الفرح خطر وخوف لأن هيرودس يطلب حياة الطفل، والتزم يوسف أن يهرب إلى مدينة أخرى[97].]
هذه هي صورة الحياة التقويّة الحقيقية، هي مزيج مستمر من الضيقات مع الأفراح، يسمح بها الرب لأجل تزكيتنا ومساندتنا روحيًا، فبالضيق نتزكّى أمام الله، وبالفرح نمتلئ رجاءً في رعاية الله وعنايته المستمرّة.
ثانيًا: هروب السيّد المسيح من الشرّ أكّد حقيقة تجسّده، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لو أنه منذ طفولته المبكّرة أظهر عجائب لما حُسب إنسانًا[98].]
ثالثًا: هروبه كممثّل للبشريّة يقدّم لنا منهجًا روحيًا أساسه عدم مقاومة الشرّ بالشرّ، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن النار لا تطفأ بالنار بل بالماء.
رابعًا: كانت مصر رائدة العالم الأممي، فكانت بفرعونها تُشير في العهد القديم إلى العبوديّة، بخصوبة أرضها تُشير إلى حياة الترف ومحبّة العالم. كان يمكن للسيّد أن يلتجئ إلى مدينة في اليهوديّة أو الجليل، لكنّه أراد تقدّيس أرض مصر، ليقيم في وسط الأرض الأمميّة مذبحًا له. في هذا يقول إشعياء النبي: "هوذا الرب راكب على سحابة خفيفة سريعة، وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه، ويذوب قلب مصر داخلها... في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر، وعمود للرب عند تُخُمها، فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر... فيُعرف الرب في مصر، ويَعرف المصريّون الرب في ذلك اليوم، ويقدّمون ذبيحة وتقدمة، وينذرون للرب نذرًا ويوفون به... مبارك شعبي مصر" (إش 19). اهتم الوحي بهذه الزيارة الفريدة، بها صارت مصر مركز إشعاع إيماني حيّ. وكما خزن يوسف في مصر الحنطة كسندٍ للعالم أثناء المجاعة سبع سنوات، هكذا قدّم السيّد المسيح فيض نعم في مصر لتكون سرّ بركة للعالم كله، ظهر ذلك بوضوح خلال عمل مدرسة الإسكندريّة وظهور الحركات الرهبانيّة والعمل الكرازي. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هلمّوا إلى برّيّة مصر لتروها أفضل من كل فردوس! ربوات من الطغمات الملائكيّة في شكل بشري، وشعوب من الشهداء، وجماعات من البتوليّين... لقد تهدّم طغيان الشيطان، وأشرق ملكوت المسيح ببهائه! مصر هذه أم الشعراء والحكماء والسحرة... حصّنت نفسها بالصليب! السماء بكل خوارس كواكبها ليست في بهاء برّيّة مصر الممتلئة من قلالي النُسّاك... على أيّ الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي بكل خوارس كواكبها حاربت ليست في بهاء برية مصر الممتلئة من قلالي النساك... على أي الأحوال، من يعترف بأن مصر القديمة هي التي حاربت الله في برود فعبدت القطط، وخافت البصل، وكانت ترتعب منه، مثل هذا يدرك قوّة المسيح حسنًا[99].]
يتحدّث أيضًا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذه الزيارة المباركة لمصر لتقديسها، فيقول: [إذ كانت مصر وبابل هما أكثر بلاد العالم ملتهبتين بنار الشرّ، أعلن الرب منذ البداية أنه يرغب في إصلاح المنطقتين لحسابه، ليأتي بهما إلى ما هو أفضل، وفي نفس الوقت تتمثل بهما كل الأرض، فتطلب عطاياه، لهذا أرسل للواحدة المجوس، والأخرى ذهب إليها بنفسه مع أمه.] كما يقول: [تأمّل أمرًا عجيبًا: فلسطين كانت تنتظره، مصر استقبلته وأنقذته من الغدر[100].]
6. قتل أطفال بيت لحم
"حينئذ لما رأى هيرودس أن المجوس سخروا به غضب جدًا،
فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها،
من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحقّقه من المجوس.
حينئذ تمّ ما قيل بإرميا النبي القائل:
صوتٌ سُمع في الرامة، نوح وبكاء وعويل كثير.
راحيل تبكي على أولادها، ولا تريد أن تتعزّى،
لأنهم ليسوا بموجودين" [16-18].
قتل أطفال بيت لحم لم يتم بمحض الصدفة، لكنّه يمثّل جزءً لا يتجزأ من حياة المخلّص، اهتم الوحي بإعلانه في العهدين القديم والجديد. لقد رأى إرميا النبي راحيل زوجة يعقوب المدفونة هناك تبكي على أولادها (أحفادها) من أجل قسوة قلب هيرودس عليهم.
ربّما يتساءل البعض: لماذا سمح ملك السلام أن تحدث هذه الكارثة بسبب ميلاده؟ في الوقت الذي فيه انطلقت الملائكة بالتسبيح تطوّب البشريّة لتمتّعها بالسلام السماوي، وجاء الغرباء يحملون الهدايا إلى طفل المزود، إذا بالأطفال العبرانيّين يُقتلون بلا ذنب. لقد قدّم هؤلاء الأطفال عملاً كرازيًا وشهادة حق أمام العالم كله، فإنهم يمثّلون كنيسة العهد الجديد التي حملت بساطة الروح كالأطفال، التي لا يطيقها هيرودس فيضطهدها، لكنّه لا يقدر أن يكتم صوت شهادتها، إذ انطلق الأطفال كأبكار لينعموا بالوحدة مع الحمل الإلهي أينما وُجد.
عبور أطفال بيت لحم إلى فوق يمثّلون كنيسة الأبكار كموكب روحي مقدّس يتقدّمهم المصلوب البكر، يرتفعون به ومعه خلال البذل الحق ليشاركوا السمائيّين ليتورجيّاتهم وتسابيحهم العلويّة الجديدة.
في اختصار أقول أن هذا الحدث بما فيه من نحيبٍ وعويلٍ مع مرارةٍ قاسيةٍ لا يمكن إنكارها، يحمل كشفًا عن كنيسة العهد الجديد ككنيسة بسيطة بلا تعقيد، تحمل الصليب كعلامة جوهريّة تمسّ طبيعتها، كنيسة أبكار، مرتفعة إلى فوق تمارس حياتها السماويّة خلال ثبوتها في الرأس السماوي المصلوب!
7. العودة إلى الناصرة
أوحي للقدّيس يوسف أن ينصرف إلى ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة يُقال لها "ناصرة"، لكي يتم ما قيل بالأنبياء إنه سيّدعي ناصريًا.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث بقوله: [عاد يوسف إلى الناصرة، لكي يتجنب الخطر من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي يبتهج بالسكنى في موطنه[101].]
ذهابه إلى الناصرة، وهي بلد ليست بذي قيمة أراد به أن يحطّم ما اتسم به اليهود من افتخارهم بنسبهم إلى أسباط معيّنة، أو من بلاد ذات شهرة. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن الموضع كان قليل الأهمّية، بل بالأحرى ليس فقط الموضع وإنما كل منطقة الجليل. لهذا يقول الفرّيسيّون: "فتش وانظر، إنه لم يقم نبي من الجليل" (يو 7: 52). إنه لم يخجل من أن يُدعى أنه من هناك، ليظهر أنه ليس بمحتاج إلى الأمور الخاصة بالبشر، وقد اختار تلاميذه من الجليل... ليتنا لا نستكبر بسبب سموّ مولدنا أو غنانا، بل بالأحرى نزدري بمن يفعل هكذا. ليتنا لا نشمئز من الفقر، بل نطلب غنى الأعمال الصالحة. لنهرب من الفقر الذي يجعل الناس أشرارًا، هذا الذي يجعل من الغِنى فقرًا (لو 16: 24)، إذ يطلب متوسّلاً بلجاجة من أجل قطرة ماء فلا يجد[102].]
كلمة "ناصرة"، منها اشتقّت "نصارى" لقب المسيحيّين؛ وهي بالعبريّة Natzar وتعني غصن، ومنها الكلمة العربيّة "ناضر"، وقد سمّيَ السيّد المسيح في أكثر من نبوّة في العهد القديم بالغصن. فجاء في إشعياء النبي: "ويخرج قضيب من جذع يسّى، وينبت غصن من أصوله، ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب..." (إش 11: 1-2). وجاء في إرميا: "ها أيام تأتي يقول الرب، وأُقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك، وينجح، ويُجري حقًا وعدلاً في الأرض" (راجع إر 33: 15) وفي زكريا: "هأنذا آتي بعبدي الغصن" (زك 3: ، "هوذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت، ويبني هيكل الرب" (زك 6: 12)... هكذا كان اليهود يترقّبون في المسيّا أنه يُدعى "الغصن"... أي "ناصري".
الأصحاح الثالث
حفل التتويج
عِمَاد الملك
قبل أن يبدأ السيّد المسيح عمله بين شعبه كملك روحي كان يلزم إقامة حفل تدشين أو تتويج للملك الحقيقي عند نهر الأردن بعد أن هيّأ له سابق الملك ـ القدّيس يوحنا المعمدان ـ الذي تقدّم كملاك الرب يهيّئ له الطريق:
1. سابق الملك 1-6.
2. تهيئة الطريق 7-12.
3. عماد المسيح 13-17.
1. سابق الملك
كان من عادات الشرق أن يسبق الملك رسول يهيئ له الطريق، والسيّد المسيح كملكٍ روحيٍ أعد لنفسه رسولاً سبق فأنبأ عنه بإشعياء النبي: "صوت صارخ في البرّيّة، اعدّوا طريق الرب، قوِّموا في القفر سبيلاً لإلهنا" (إش 40: 3)، وبملاخي النبي: "هأنذا أُرسل إليكم إيليّا النبي قبل مجيء يوم الرب" (مل 4: 5).
يقول الإنجيلي: "في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهوديّة" [1]. لا يفهم من قوله: "في تلك الأيام" أنه بعد رجوع العائلة المقدّسة من مصر مباشرة، وإنما يقصد بها "في ذلك العصر" أو "في ذلك الزمان" وقد حدّد القدّيس لوقا عماد السيّد بنحو ثلاثين من عمره حسب الجسد (لو 3: 23)، وقد سبقه القدّيس يوحنا بأشهرٍ قليلة حينما بلغ الثلاثين من عمره، السن القانوني للخدمة الكهنوتيّة عند اليهود.
كان القدّيس يوحنا يكرز "في برّيّة اليهوديّة"، ولم تكن برّيّة قاحلة، إنّما كانت تضم ست مدن مع ضياعها (يش 15: 61-62)، لكنها منطقة غير مزدحمة ولا مُحاطة بالحقول والكروم كبقيّة البلاد.
لم يخدم القدّيس يوحنا ككاهنٍ في هيكل سليمان، لكنّه خرج إلى البرّيّة ليفضح ما وصلت إليه الطبيعة البشريّة، التي تخلّت عن عملها المقدّس كهيكل لله فصارت مملوءة جفافًا؛ صارت برّيّة قاحلة وقفرًا محتاجة إلى المسيّا الملك أن ينزل إليها ليرويها بمياه روحه القدّوس، فيجعلها فردوسًا تحمل ثمار الروح. يقول إشعياء النبي على لسان الطبيعة البشريّة المتعطّشة لعمل المسيّا الملك: "يسكب علينا روح من العلاء، فتصير البرّيّة بستانًا" (إش32: 15)، "تفرح البرّيّة والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر إزهارًا، ويبتهج ابتهاجًا ويُرَنِّم" (إش 35: 1-2). هكذا يقدّم القدّيس يوحنا البشريّة كقفرٍ للملك، فيحوّلها فردوسًا أبديًا، بل ويجعلها هيكله المقدّس. لقد حُرم يوحنا المعمدان من خدمة الهيكل الكهنوتية ليهيّئ الطريق لرئيس الكهنة الأعظم ربّنا يسوع، الذي يجعل من برّيتنا هيكلاً جديدًا سماويًا.
لعلّ داود النبي قد رأى بروح النبوّة هذا المنظر، فتهلّلت نفسه فيه، إذ قدّم لنا في ذات البرّيّة مزموره الثالث والستين، فيه يقول: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء... التصقت نفسي بك. يمينك تعضدني" (مز 63: 1، . لقد رأى داود النبي جموع التائبين على يديّ يوحنا المعمدان في هذه البرّيّة، وقد التهبت قلوبهم بالعطش، وعطش جسده لمياه نعمته... فجاء السيّد لتلتصق هذه النفوس به، وتستند بقوّته بكونها يمين الرب.
ويرى القدّيس أمبروسيوس أن البرّيّة التي كرز فيها القدّيس يوحنا المعمدان هي الكنيسة التي قال عنها النبي إشعياء "لأن بنيّ المستوحشة أكثر من بنيّ ذات البعل" (إش 54: 1) فقد جاء كلمة الله حتى تثمر من كانت قبلاً مستوحشة وبرّيّة.
كيف هيّأ القدّيس يوحنا المعمدان الطريق الملوكي؟ بالمناداة بالتوبة، قائلاً: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات" [2]. كان كأسد يزأر في البرّيّة، فخرجت إليه أورشليم وكل اليهوديّة وجميع الكورة المحيطة بالأردن [5]. كانت كلماته أصيلة، ينطق بكلمة الرب كما هي بلا تنميق بشري أو مداهنة أو تدليل، تنبع عن قلب أمين وصادق، يحيا بما ينطق به اللسان، فكان للكلمة فاعليّتها. حقًا إن سرّ جاذبيّة رسالة يوحنا هو اختفاؤه في كلمة الله، وإعلان رسالته خلال حياته العمليّة.
"التوبة" في اليونانيّة "ميتانية" وتعني تغيير الاتّجاه، فيعطي الإنسان لله الوجه لا القفا خلال اتّحاده بالمسيّا وذلك بعدما حوّل القفا لا الوجه نحو الله (إر 2: 27). لقد التقى شاول الطرسوسي بالآب خلال المسيّا القائم من الأموات، فتغيّر قلبه وفكره وكل اشتياقاته.
لقد "اقترب ملكوت السماوات"، فصار على الأبواب، إذ جاء السيّد المسيح ليسكن فينا، ولم يعد بعيدًا عنّا. وكما يقول الرسول بولس: "الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك" (رو 10: . أمّا طريق التمتّع بهذا الملكوت فهو إدراكنا بالحاجة إلى عمل المسيّا فينا؛ فإذ يَدين الإنسان نفسه ينفتح القلب لاستقبال عمل المسيّا فيه. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [جاء يوحنا ليقودهم إلى التوبة لا لكي يُعاقَبوا، وإنما خلال التوبة يدينون أنفسهم مسرعين إلى نوال المغفرة... فإنهم ما لم يدينوا أنفسهم لا يقدرون أن يطلبوا نعمته، وبعدم طلبهم هذا لا يمكنهم نوال المغفرة[103].]
يقول القدّيس أمبروسيوس: [كثيرين يتطلّعون إلى يوحنا كرمز للناموس، بكونه يقدر أن ينتهر الخطيّة، لكنّه لا يقدر أن يغفرها[104].]
لقد وصف إشعياء النبي القدّيس يوحنا المعمدان، قائلاً: "صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرب. اصنعوا سبله مستقيمة" [3]. إنه الصوت الذي يسبق "الكلمة الإلهي"، وكما يقول الآب غريغوريوس الكبير: [من حديثنا تعرفون أن "الصوت" يكون أولاً عندئذ تُسمع "الكلمة"، لهذا يُعلن يوحنا عن نفسه أنه "صوت"، إذ هو يسبق "الكلمة". فبمجيئه أمام الرب دُعى "صوتًا"، وبخدمته سمع الناس "كلمة الرب" إنه يصرخ معلنًا: "اصنعوا سُبله مستقيمة"... إن طريق الرب للقلب يكون مستقيمًا متى استقبل بتواضعٍ كلماته للحق، يكون مستقيمًا إن مارسنا حياتنا في توافق مع وصاياه. لذلك قيل: "إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). أمّا من يرفع قلبه بالكبرياء، ومن يلتهب بحُمّى الطمع، ومن يلوث نفسه بدنّس الشهوة يغلق باب قلبه ضدّ مدخل الحق، ولئلا يقتني الرب المدخل فإنه يحكم الإغلاق بالعادات الشرّيرة[105].]
يكمّل معلّمنا لوقا البشير هذه النبوّة بقوله: "كل وادٍ يمتلئ، وكل جبل وأكمة ينخفض، وتصير المعوجّات مستقيمة، والشعاب طرقًا سهلة، ويبصر كل بشرٍ خلاص الله" (لو 3: 5-6). ما هذه الوديّان التي تمتلئ خلال التوبة إلا وديان الأمم المنسحقة والمعترفة بحاجتها للمخلّص، هذه التي تمتلئ بمياه الروح القدس الواهبة للحياة. وما هذه الجبال والأكَمَة التي تنخفض إلا كبرياء إسرائيل ويهوذا، فقد تشامخ اليهود وظنّوا أنهم أبرار. فقد جاء يوحنا ليحطّم هذا الكبرياء والتشامخ حتى يستقبل المتّواضعون خلاص الله، فيصلح حال النفوس المعوجّة، وتتغيّر طبيعتها التي كانت كالشعاب القاسية لتصير سهلة. بهذا فإن خلاص الله مقدّم لكل البشر، اليهود والأمم!
v ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق[106].
العلاّمة أوريجينوس
كانت صرخات يوحنا لا تخرج من فمه فحسب، وإنما تنطلق من كل حياته، تعلنها حياته الداخليّة ومظهره الخارجي، حتى ملبسه كان أشبه بعظة صامتة وفعّالة، وأيضًا طعامه. يقول الإنجيلي: "كان لباسه من وبَر الإبل وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادًا وعسلاً برّيًا" [4].
يندهش القدّيس يوحنا الذهبي الفم كيف يتحدّث الإنجيلي عن رسالة القدّيس يوحنا المعمدان التي تنبأ عنها إشعياء النبي ليعود فيتحدّث عن ملابسه وطعامه! لقد قدّم هذا المظهر ليتذكّر اليهود إيليّا النبي الغيور، فقد جاء كإيليّا يسبق الرب. بهذا المظهر أيضًا قدّم لنا درسًا في الحياة النسكيّة والبعد عن الحياة المدلّلة، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا ننسى هذا النوع من الحياة المدلّلة والمخنّثة، فإنه لا يمكن أن تقوم الندامة مع الحياة المترفة في وقت واحد. ليعلِّمك يوحنا هذا الأمر بثوبه وطعامه مسكنه[107].]
لم يلبس يوحنا الملابس الطويلة كالفرّيسيّين، ولا الملابس الناعمة كحاشية الملك، وإنما ارتدى الملابس اللائقة بالدعوة للتوبة.
"واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم" [6].
إذ كان يوحنا يكرز بالتوبة كانت الجموع تأتي إليه تطلب العماد على يديه، معترفين بخطاياهم. لقد عرف اليهود أنواعًا من المعموديّات منها معموديّة المتهوّدين الدخلاء[108]. أمّا معموديّة يوحنا فجاءت رمزًا للمعموديّة المسيحيّة، جاء بها القدّيس يوحنا المعمدان ليهيّئ بها الطريق أمام معموديّة العهد الجديد. لم يكن لمعموديّة يوحنا أن تهب البنوّة لله، الأمر الذي انفردت به المعموديّة المسيحيّة لدخول السيّد المسيح "الابن الوحيد" إليها؛ ولم تكن تحمل في ذاتها القدرة على غفران الخطايا والتقدّيس، إنّما ما حملته من قوّة فقد استمدّته كرمز من قوّة المرموز إليه، كما حملت الحيّة النحاسيّة قوّة الشفاء خلال الصليب الذي ترمز إليه.
v كان يوحنا يعمدّ بالماء لا بالروح القدس، فبكونها عاجزة عن غفران الخطايا، تغسل أجساد من يعتمدون بالماء، أمّا نفوسهم فلا تقدر أن تغسلها. إذن لماذا كان يوحنا يعمّد؟... إنه في ميلاده كان سابقًا لمن يولد، وبالتعميد كان سابقًا للرب الذي يعمّد، وبكرازته صار سابقًا للمسيح![109]
الأب غريغوريوس (الكبير)
v لنعالج باختصار الأنواع المختلفة للمعموديّة:
موسى كان يعمدّ لكن في الماء، في السحابة والبحر، لكنّه فعل هذا بطريقة رمزيّة.
يوحنا أيضًا عمّد، حقًا ليس بطقس اليهود، وليس فقط في الماء وإنما لمغفرة الخطايا، لكنها لم تكن بطريقة روحيّة كاملة، إذ لم يضف أنها "في الروح".
يسوع عمّد ولكن في الروح، وهذا هو الكمال!
توجد أيضًا معموديّة رابعة، تتم بالاستشهاد والدم، الذي اعتمد بها المسيح نفسه والتي هي مكرّمة جدًا عن الباقين...
ومع ذلك توجد معموديّة خامسة وهي عاملة بالأكثر، معموديّة الدموع، حيث كان داود يُعوّم كل ليلة سريره ويغسل فراشه بدموعه (مز 6: 6)[110].
القدّيس غريغوريوس النزينزي
2. تهيئة الطريق
كان يوحنا يهيّئ الطريق للرب في القلوب، ليس بجمع الناس حوله ولحسابه، وإنما بالدخول بجماهير الشعب إلى حياة التوبة، معترفين بخطاياهم. وقد جاء الفرّيسيّون والصدّوقيّون إلى معموديّته بأجسادهم دون قلوبهم، لذا صار يوبّخهم هكذا: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي" [7]. لم يكن يوحنا بالقصبة التي تحرّكها الريح فيهتز أمام هؤلاء القادة متملقًا إيّاهم، وإنما بقوّة كان يشتهي خلاصهم، فاضحًا الشرّ الذي فيهم، بدعوتهم "أولاد الأفاعي".
اتفق القادة المتضادّون معًا ضدّ يوحنا كما اتفقوا معًا ضدّ المسيح نفسه، فقد كان الفرّيسيّون يمثّلون السلطة الكنيسة اليهوديّة والتقليد بطريقة حرفيّة قاتلة. وكان الصدّوقيّون يمثّلون الجانب المضاد للسلطة، ضدّ التقليد، ينكرون القيامة ولا يقبلون فكرة وجود الأرواح. كان الفرّيسيّون يتطلّعون إلى يوحنا أنه أكثر خطرًا من الصدّوقيّين في الثورة على السلطة، فقد خرجت الجماهير من كل المدن لترى مثالاً حيًا للحياة التائبة العمليّة، الأمر الذي يفضح الفرّيسيّين وكل رجال السلطة الدينيّة. أمّا الصدّوقيّون فإنهم مع مقاومتهم كانوا يرون في يوحنا من هو أخطر من رجال السلطة الدينيّة، فقد كسب الجماهير لصفّه، مقدّمًا لهم مفاهيم روحيّة تهدم أفكار الصدّوقيّين.
على أي الأحوال، وقف القدّيس يوحنا أمام الفرّيسيّين والصدّوقيّين بكل قوّة يوبّخهم، ملقّبًا إيّاهم: "يا أولاد الأفاعي". وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا دعاهم أولاد الأفاعي، إذ يُقال أن ذلك الحيوان عند ولادته تأكل الصغار بطن أمها وتهلكها فيخرجون إلى النور، هكذا يفعل هذا النوع من الناس، إذ هم قتلة آباء وقتلة أمهات (1 تي 1: 9) يبيدون معلّميهم بأيديهم[111].]
يكمّل القدّيس يوحنا المعمدان حديثه مع الفرّيسيّين والصدّوقيّين، قائلاً: "فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم أن الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" [8-9].
إن كان اليهود عامة، وقادتهم الروحيّين بصفة خاصة، يتّكلون على نسبهم جسديًا لإبراهيم أب الآباء، فقد أوضح القديس يوحنا لهم بطلان هذه الحجّة. فإن كانوا يدعون أنهم "أبناء إبراهيم" ففي الحقيقة هم "أولاد الأفاعي"، لأنهم لا يحملون إيمان إبراهيم الحيّ ولا يسلكون على منواله، وإنما حملوا شرّ الأفاعي فيهم. فالإنسان حسب فكره وتصرفاته يظهر ابن من هو؟ فالسالكون بغير حكمة يدعون "أبناء الحماقة" (أي 30: ، والذين يسلكون في المعصية يحسبون "أبناء المعصية" (كو 3: 6)، ومن لا يبالي بهلاك نفسه يسمى "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، وعلى العكس الذين يختبرون الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح وفيه يعتبرون "أبناء القيامة" (لو 20: 36)، والذين يحبّون النور الإلهي، ويسعون نحوه فيدعون: "أبناء النور" (يو12: 36) و"أبناء النهار" (1 تس 5: 5) الخ.
إن كان هؤلاء القادة قد اعتمدوا على نسبهم لإبراهيم، فيلزمهم تأكيد هذه البنوّة بذات الروح الذي عمل به أبونا إبراهيم، وإلا فإن الله يُقيم له أولادًا من الحجارة، وقد أقام فعلاً. لقد أخرج الله من الأمم التي تحجّرت قلوبهم أبناء لإبراهيم خلال الإيمان بالسيّد المسيح، الذي رأى إبراهيم يومه فتهلّل (يو 8: 56).
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذا التشبيه جاء عن ولادة هذا الشعب خلال اسحق الموهوب لإبراهيم خلال رحم سارّة العقيم كما لو كان متحجّرًا[112]. كان كالحجر في حالة موت غير قادر على الإنجاب، فأقام الله منه أولادًا لإبراهيم خلال قوّة وعده الإلهي وإيمان إبراهيم بالله القادر على الإقامة من الأموات. هذا ما قصده النبي عندما قال: "انظروا إلى الصخر الذي منه قُطعتم، وإلى نقرة الجب التي منها حُفِرتُم. انظروا إلى إبراهيم أبيكم، وإلى سارّة التي ولدتكم" (إش 51: 1-2). ها هو يذكرهم الآن بهذه البنوّة، فقد جعله الله أبًا لهم بطريقة معجزيّة كمن يُقيم من الحجارة أولادًا. الآن أيضًا يمكنه أن يفعل ذلك[113].
ويرى القدّيس أغسطينوس أن الحجارة التي صارت أولادًا لإبراهيم إنّما تُشير إلى الأمم الذين عبدوا الأوثان فصاروا حجارة، وإذ قبلوا الإيمان الذي كان لإبراهيم صاروا من نسله روحيًا. إنه يقول: [يُقصد بالحجارة كل الأمم ليس من أجل قدرتهم على الاحتمال كالحجر الذي رفضه البنّاءون، وإنما من أجل غباوتهم وبلادتهم الباطلة، فصاروا كالأشياء التي اعتادوا أن يعبدوها، إذ عبدوا الصور الجامدة صاروا هم أنفسهم بلا حس؛ "مثلها يكون صانعوها بل كل من يتّكل عليها" (مز 115: . لكنهم إذ بدأوا يعبدون الله، ماذا سمعوا بخصوصهم؟ "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت 5: 45) إذ يصير الإنسان مشابهًا لمن يعبده. إذن ماذا يقصد بالقول: "الله قادر أن يُقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت 3: 9)؟... أي نصير أولادًا لإبراهيم بامتثالنا بإيمانه وليس بميلادنا من جسده[114].] كما يقول: [كنّا في آبائنا حجارة إذ عبدنا الحجارة كآلهة، من هذه الحجارة يخلقنا الله عائلة لإبراهيم[115].]
ويقول القدّيس جيروم: [يستطيع الله أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم؛ يُشير هنا إلى الأمم، إذ هم حجارة بسبب قسوة قلوبهم. لنقرأ: "وأنزع قلب الحجر من لحمكمk وأعطيكم قلب لحم" (حز 36: 26). فالحجر صورة القسوة، واللحم رمز اللطف. لقد أراد أن يظهر قوّة الله القادر أن يخلق من الحجارة الجامدة شعبًا مؤمنًا[116].]
"والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر.
فكل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع، وتُلقى في النار" [10].
ماذا يقصد بالفأس التي يضرب بها الشجر غير المثمر، أو الشجر الذي يحمل ثمارًا غير جيّدة إلا صليب ربّنا يسوع المسيح الذي يضرب أصل طبيعتنا الفاسدة ليهلك الإنسان القديم، مقيمًا الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه الذي يقدّم ثمر الروح القدس المفرح. إنه يدفن الإنسان العتيق في مياه المعموديّة كما في القبر مع السيد، أو يُلقي به كما في النار ليقدّم لنا خبرة الحياة. لهذا فلا عجب إن كمَّل النبي حديثه بخصوص المعموديّة المسيحيّة، بكونها طريق هدم الإنسان القديم وقيامة الإنسان الجديد، إذ يقول: "أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي من هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمّدكم بالروح القدس ونار" [11].
يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي الكور العظيم الممتلئ نارًا، فيها يُسبك الناس ليصيروا غير أموات[117].]
يقول القدّيس كبريانوس: [إنها المعموديّة التي فيها يموت الإنسان القديم، ويولد الإنسان الجديد كما يُعلن الرسول مؤكّدًا أنه خلصنا بغسل التجديد[118].]
يرى القدّيس يوحنا المعمدان أنه غير مستحق أن يحمل حذاء السيّد المسيح، وفي موضع آخر يُعلن أنه غير مستحق أن يحلّ سيور حذائه (يو 1: 27)، ماذا يعني بهذا؟ إن كان كلمة الله غير المُدرَك قد صار كمن يلبس حذاء بتجسّده، إذ صار كواحدٍ منّا ي