ملاخى
" ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس
البر والشفاء فى أجنحتها "
" ملا 4 : 2 "
مقدمة
لعل من أطرف ما يقال أن بقالا أخذ يكيل المدح لأحد الرعاة ، وكان هذا الراعى قد نصب حديثاً على كنيسة فى المدينة التى يعيش فيها البقال ، وإذ سئل البقال عما إذا كان قد سمع الراعى وهو يعظ !! ؟ فأجاب ، كلا .. ولكنه منذ أن وفد على المدينة وجميع الزبائن الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة يدفعون فواتيرهم … أو فى لغة أخرى أن البقال رأى حياة الأعضاء فى تصرفاتهم وأسلوبهم الجديد فى الحياة !! .. وقد لخص احدهم خدمة ملاخى كتب نبوته فى عام 432 ق. م. فى ذلك الوقت الذى عاد فيه نحميا حين استدعاه الملك أرتحشستا حيث يقول فى سفره : « وفى كل هذا لم أكن فى أورشليم لأنى فى السنة الاثنتين والثلاثين لأرتحشستا ملك بابل دخلت إلى الملك وبعد أيام استأذنت من الملك وأتيت إلى أورشليم وفهمت الشر الذى عمله ألياشيب لأجل طوبيا بعمله له مخدعاً فى ديار بيت الرب » " نح 13 : 6 و 7 " وكان الارتداد رهيباً فى فترة غياب نحميا ، وظهر ملاخى لالينادى بعودة نحميا فجأة ليواجه الفساد والشر الذى عاد إليه الشعب بصورة رهيبة ، بل من هو أعظم من نحميا ، شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته ، … إن آخر كلمة فى العهد القديم كانت كلمة « بلعنٍ » … وأول كلمة فى العهد الجديد تواجه هذه اللعنة : « كتاب ميلاد يسوع المسيح » … والمسيح وحده وفيه تتحول اللعنة إلى بركة ويدخل الأمل الضائع فى العهد القديم ، فى الرجاء الأبدى فى العهد الجديد ، … ولهذا يحسن أن نرى ملاخى من النواحى التالية :
ملاخى ومن هو !! ؟
يعد ملاخى النبى الثانى عشر من الأنبياء الصغار ، وآخر أنبياء العهد القديم - والكلمة - « ملاخى » تعنى « ملاكى » أو « رسولى » . ونحن لانكاد نعرف عن هذا النبى شيئاً خلا اسمه وسفره ، وقد ظن البعض أن اسمه لا يشير إلى شخص بقدر ما يشير إلى رسالة ، ومن قالوا إن الكلمة « ملاخى » ليست اسم علم بل هى صفة لنبى أو رسول ، ولذا قالوا إن عزرا الكاتب هو صاحب سفر ملاخى ، غير أن هذا الرأى مردود لاختلاف أسلوب السفر عن سفر عزرا ، ومن العجيب أن أوريجانوس كان يعتقد أن كاتب السفر ملاك من السماء !! ... غير أن معظم الشراح ودارسى الكتاب يعتقدون أن ملاخى اسم علم لشخص حقيقى ، عاش معاصراً لنحميا وتنبأ فى الشطر الأخير من حياة هذا الحاكم العظيم ، ووهناك تقليد يقول إنه كان عضواً هو وزكريا فى مجمع اليهود العظيم ، وأنه ولد فى بلدة صوفا من سبط زبولون ، وأنه مات ولما يزل فى عنفوان شبابه .
وقد تنبأ هذا النبى بعد الرجوع من السبى وبناء الهيكل ، ومع أن أسلوبه ربما لا يرقى إلى أسلوب أنبياء ما قبل السبى ، لكنه قد يتفوق فى الصراحة والقوة وجمال التشبيه وبراعة الحوار ، ومن الغريب أنه كان معاصراً سقراط ، ودعاه بعضهم «سقراط العبرانى » ، إذ كان كالفيلسوف اليونانى العظيم فى طريق العرض والاعتراض والنقاش واستخلاص النتيجة .
وفى الواقع إن ملاخى تأثر فى أسلوبه وتفكيره بالأحداث العظيمة التى كانت تجرى فى العالم فى أيامه ، الأحداث التى كان لها ولا شك أكبر الأثر فى أمته وشعبه رسالته... ففى النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية تجتاز مرحلة حاسمة فى تاريخها ، فلقد بسط داريوس سلطانه على مصر ، وإن كان قد انهزم أمام اليونان فى موقعة الماراثون . وفى عام 485 اعتلى ابنه زركسيس « أحشويرش » حفيد كورش ، وأراد أن يثأر لمعركة الماراثون ، وجهز أكبر جيش عرف فى التاريخ القديم ، ولكنه خسر معركة سلاميس عام 480 ق . . . كما أن معركة بلاتيه أجهزت على سلطان الفرس الأخير فى أوربا ، وفتحت الباب أمام ظهور اليونان كالدولة التى تحل محلها . وفى غمرة هذا الصراع بين الشرق والغرب ، سرت فى العالم كله موجة من القلق والفوضى والمادية التى استولت على الشعوب ، بما فيها الشعب الإسرائيلى الراجع من السبى ، وفى الواقع أن الشعب قد عاد من السبى، وهو يظن أن كل شئ سيتغير إلى الأفضل ، ولما لم يحدث هذا التغير سريعاً ، انقلب الشعب إلى النقيض وارتد ، وفقد كل حماس وغيرة وروحانية ، فقل عنده الاعتبار الدينى ، وضعفت روح العبادة ، وانطوت نفوس الكهنة على إهمال واحتقار خدمة الهيكل ، وانحطت حياة الشعب إلى الدرك الأسفل ، ووقف ملاخى أمام أمة كانت فى طريقها إلى النقاهة ، ولكن مضاعفات المرض ونكسته قاداها إلى ما هو أسوأ وأقسى وأشر !! ..
ملاخى والحوار بين اللّه وشعبه
قامت نبوة ملاخى على الحوار بين اللّه وشعبه، فإذا كان سقراط فى أثينا يجمع الناس حوله ويناقشهم فى فلسفة الحياة ، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان فى عالم ضرب فيه الفساد فى أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود ، حتى أنهم حكموا على سقوط أن يشرب كأساً من السم ، ولفظوا الرجل الذى كان أحكم إنسان فى وسطهم ، ... لكن أورشليم كانت تواجه حواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان ، بل بين اللّه والإنسان ، ولم يكن وحى ملاخى إلا تسجيلا لهذا الحوار ، والكلمة « وحى » فيها معنى الحمل أو العبء أو الثقل أو المسئولية ، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين ، بل هو فى الحقيقة الحديث الجدى العميق الباهظ الثقل لما فيه من أهمية ومسئولية ، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكب الطريق عنه ، ... وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع ، فأما طرفاه فهما : اللّه ، والإنسان ، أو بتعبير أدق هما : « اللّه » فى وضعه « كأب » و « كسيد » ، والإنسان فى وضعه كإبن وعبد ،... أما من حيث الموضوع فهو اسمى موضوع فى الوجود : « الحب » ، واللّه من جانبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحوار ، إذ أن « اللّه محبة » ، وهو بطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة ، سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد ، ... وهل ننسى ذلك الحوار الذى حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرات : « يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء » ... « يا سمعان بن يونا أتحبنى » ... « يا سمعان بن يونا أتحبنى » ... ورد بطرس مثلثا : « يارب أنت تعلم أنى أحبك » « يارب أنت تعلم أنى أحبك » ... « يارب أنت تعلم كل شئ . أنت تعرف أنى أحبك » " يو 21 : 15 - 17 " .. ، وليس عند اللّه بديل أو نظير للمحبة !! ... أجل !! فهذا حق ، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول : « أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء » ... ولعله ليست هناك مأساة تعادل فقدان الإحساس بالمحبة ، الأمر الذى قاله الشعب فى وجه اللّه بجرأة لا يحسد عليها : « بم أحببتنا » . " مل 1 : 2 " . وفى الحقيقة لا يبقى للإنسان شئ فى الحياة بعد ذلك ، يوم يعجز عن إدراك أن اللّه أحبه وما يزال يحبه !! ... ومع ذلك فقد كان اللّه كريماً إذ دخل فى حوار المحبة !! ..
عاد اللّه بالشعب إلى التاريخ القديم ، والتاريخ فى العادة - لمن يعود إليه - أعظم برهان عملى وواقعى على محبة اللّه الفائقة العظيمة ، تاريخ الأمة أو البيت أو الفرد،... ويكفى أن يعود شعب اللّه إلى تاريخ يعقوب وعيسو ، ومهما نحاول أن نبحث ، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى عمق الاختبار الإلهى ، وقد تحدثنا فيما سبق عند التعرض لقصة عيسو ويعقوب ، عن هذه الحقيقة العجيبة ، ... والأمل أن يرجع من يرغب فى المزيد من التأمل إلى الشخصيتين اللتين درسناهما فيما سبق بين شخصيات الكتاب ، ... ولكننا نلاحظ أن الحب الإلهى تأسس أولا على عدم الاستحقاق ، إذ أن النعمة وحدها هى التى يستطيع يعقوب أن يرد الأمر إليها فى قصة اختياره دون أخيه ، أولا لأن هذا الاختيار حدث قبل أن يفعلا خيراً أو شراً ، فهو اختيار أسبق من كل عمل أو تصرف ، فإذا قسناه بحسب المنصرف الذى جاء فيما بعد ، فإن تصرف يعقوب فى غشه وخداعه وأنانيته وخبثه ، كان فى كثير من الأوضاع أبعد من كل تصرف وصل إليه عيسو الذى هو آدوم .
وكان الحب الإلهى أكثر من ذلك - منحازاً ، إذ أخذ من عيسو ما يبدو أنه حقه باعتباره البكر ، ليعطى ليعقوب ، ... ولم يتعلق الأمر بالاختيار فحسب ، بل بالضمان والحراسة والبركة ، ... ومن المؤكد أن هناك أشياء كثيرة فى عيسو كان يمقتها اللّه ويكرهها ، لأنه مهما يبدو فى الظاهر من فضائل فيه ، قد لا يصل إليها يعقوب ، إلا أنه كان يملك رذيلة الرذائل ومستنقع الأوحال ، إذ كان هو الشخص الذى يمكن أن يطلق عليه القول « بلا إله » وهو على أية حال حيوان حتى ولو بدا كالزرافة أو الحمار الوحشى أو أى حيوان جميل الشكل ، ... ولكنه فى أية صورة هو حيوان ، ولا يمكن أن يقارن بالإنسان !! ... وكان يعقوب ، على العكس ، إنساناً به النقائص التى ظل اللّه يعمل على إخراجها منه ، وتنقيته منها حتى ، أضحى إسرائيل الذى جاهد مع اللّه والناس وغلب ..
هذه المحبة الإلهية ، كانت أكثر من ذلك ، المحبة التى باركت يعقوب وأخربت عيسو ، أو فى لغة أخرى كانت المعطية للواحد والمقاومة للآخر ، فهى تعطى ليعقوب إلى الدرجة التى يقول معها : « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك . فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين » " تك 32 : 10 " ... على العكس من عيسو الذى يقول عنه ملاخى : « وأبغضت عيسو وجعلت جباله خراباً وميراثه لذئاب البرية . لأن أدوم قال قد هدمنا فنعود ونبنى الخرب، هكذا قال رب الجنود هم يبنون وأنا أهدم ويدعونهم تخوم الشر والشعب الذى غضب الرب عليه إلى الأبد » ... " مل 1 : 3 و 4 " وشتان بين إنسان يجد المعونة والقوة من اللّه ، وآخر يجد الهدم ، والتدمير منه كلما فكر فى النهوض للتعمير والبناء ، ... واللّه فى هذا كله ، لابد أن يلتقى حبه بعدالته ، إذ أن الهدم الذى يلحق آدوم إلى الأبد ، مرتبط بإصراره على أن يكون تخوم الشر . ومن هنا نعلم أن الغضب الإلهى له أسباب ومقوماته !!
إنتظر اللّه من شعبه حباً بحب ، وشركة بشركة ، .. ولكن الشعب لم يرد على اللّه صدى هذه المحبة العظيمة ، وخاب انتظار اللّه فيه ، ... وإذا كان للمرء أن يسأل: وماذا ينتظر اللّه جواباً على حبه ؟ إنه ينتظر ما ينتظره كل أب من ابنه ، وهل أقل من أن يفعل ما فعله هنرى هفلوك وهو صبى صغير ، إذ أطاع أباه ، ورفض أن يتزحزح من مكانه فى شوارع لندن المزدحمة ساعات طويلة حتى جاء الليل ، وعاد الأب إلى بيته وكان قد نسى ابنه ، فى زحام عمله ، ولم يتذكر ذلك إلا بعد عودته ، فأسرع إلى المكان ليجد ابنه هناك فى انتظار أبيه !! .. « أن أفعل مشيئتك يا إلهى سررت وشريعتك فى وسط أحشائى » "مز 40 : 8 " « لأجل ذلك حسبت كل وصاياك فى كل شئ مستقيمة كل طريق كذب أبغضت » .. " مز 119 : 128 " وليس الأمر مجرد الطاعة ، بل « نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا ، .. "1 يو 4 : 19 " إننا من هامة الرأس إلى إخمص القدم مدينون له كخالق ، وكمعتن ، وكفار وهو يستحق كل حب وولاء ، أن يكون هو صاحب المركز الأول والأخير فى قلوبنا وحياتنا !! .. ومن حقه علينا أن نغار لمجده وكرامته ، وإذا كان الابن لا يقبل قط أن يهان أبوه الأرضى أمام عينيه بأية صورة من الصور ، فكم بالأولى الآب السماوى المستحق كل إكرام وإجلال ومجد ، ولسنا نصنع فضلا إذ نجند أنفسنا لخدمته ، بل هذه هى رسالتنا الوحيدة فى الأرض أو السماء !!! ..
ملاخى والكهنة فى أيامه
وليست هناك صورة أسوأ من صورة الكهنة فى أيام ملاخى ، وحتى يمكن أن نفهم الصورة على وضعها الصحيح ، كشف لنا اللّه عن رسالة الكاهن العظيمة : « كان عهدى معه للحياة والسلام وأعطيته إياهما للتقوى فاتقانى ومن اسمى ارتاع هو . شريعة الحق كانت فيه واثم لم يوجد فى شفتيه. سلك معى فى السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم . لأن شفتى الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » " مل 2 : 5 - 7 " وأية صورة أجمل وأروع من هذه الصورة لخادم اللّه ، إذ أنه :
أولا : الخادم المدعو من اللّه الذى دخل فى ميثاق مع اللّه : « فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل يكون غار غيرتى فى وسطهم حتى لم أفن بنى إسرائيل بغيرتى . لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقى ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدى لأجل أنه غار للّه وكفر عن بنى « إسرائيل » ... " عد 25 : 11 - 13 " وما أجمل أن يحس الكاهن أو خادم اللّه أنه إذ يدخل الخدمة مدعواً من اللّه ، إنما يدخلها بميثاق وعهد أبدى مع القدير ، ..
ومن ثم تأخذ الخدمة . ثانياً : أعلى مكانة فى ذهنه ، إذ هى خدمة اللّه العلى الجدير بكل إجلال واحترام : « ومن اسمى ارتاع..
ثالثا : الخدمة ، ينبغى أن تحاط بالمهابة والجلال والاحترام والقدسية .. إذ هى للّه العظيم القدوس ، .. ولذا من الواجب أن يكون الممسك بها هو الإنسان الصادق الأمين : « سريعة الحق كانت فيه وإثم لم يجد فى شفتيه » ورجل اللّه لا ينبغى أن تكون هناك شبهـــــة فى صدقه وأمانته وحقه .
والخدمة رابعاً : لا يجوز أن يقوم بها إلا من كان سلوكه العملى واضحاً وثابتاً أمام الجميع ، وهو مع اللّه فى سلام ، ومع نفسه والناس فى استقامة : « سلك معى فى السلام والاستقامة » .
وهو خامساً : الإنسان النافع : « وأرجع كثيرين عن الإثم » ... إذ هذه هى رسالته العظيمة فى الحياة .
وأخيراً هو الإنسان الواسع الإدراك والمعرفة ، الذى يطلبه الحائر والمتعثر عندما تبهم أمامه الأمور وتستغلق : « لأن شفتى الكاهن تتحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » .
هذه هى الصورة الوضيئة للكاهن وخادم اللّه ، ... والتى كان الكهنة فى أيام ملاخى على عكسها تماماً ، ... ولعل أدق الأوصاف للكاهن فى ذلك الوقت أن :
أولا : « الكاهن المحتقر الدنئ » ... وما أكثر صور الدناءة التى كان عليها ، ... ولكن أقساها وأشدها ، هو فى تعامله مع الذبيحة التى تقدم للّه إذ كانت تقدم له الذبيحة السليمة ، فكان يستبدلها بالعمياء أو العرجاء أو السقيمة ، ليحتفظ بفرق الثمن ، وهو أشبه بذلك الرجل الذي جاءت قصته فى الأدب الروسى ، الذى قيل إنه كان فلاحاً ، ومرض ابنه للموت ، فنذر للّه حصانه إن شفى الولد وكان الحصان فى ذلك الوقت يساوى عشرين جنيهاً ، وشفى الابن ، ولكن عز عليه أن يبيع الحصان ويقدم ثمنه كما نذر ، وفكر ثم فكر ، وأخيراً ذهب إلى السوق ومعه حصانه ، وديك أيضاً ، وقرر أن يبيع الاثنين معاً ، وإذ سأله أحدهم عن الثمن قال : الحصان ثمنه عشرون قرشاً ، وإذ هم الرجل أن يدفع الثمن ، قال له : لا .. أنا أبيع الاثنين معاً ، .. فسأله : وما ثمن الديك؟ : قال : عشرون جنيهاً ، واشترى المشترى الاثنين وعاد الرجل ليقدم ثمن الحصان كما باعه بمبلغ عشرين قرشاً ، لأنه باعه فى السوق بهذا الثمن !! ..
وكان الكاهن ثانياً : « الكاهن النفعى » الذى يقبل على الخدمة ويقدرها على قدر ما ينتفع منها ، وهو لا ينظر إليها كعهد سام بينه وبين اللّه ، بل على قدر ما تعطيه من مغنم أو مكســب مادى .
وهو ثالثاً : « الخادم الملول » الذى يتأفف من الخدمة ، وهى ثقيلة عليه ، ويؤديها كرهاً ، ... وليس أقسى على النفس من أن نجد خادماً بهذه الصورة ، فهو يخدم لأنه مضطر للخدمة ، أما بسبب الحاجة أو التقليد ، أو العيب أمام المجتمع إذا تخلى عنها ، وهو يعظ بدون حياة أو روح أو ثقة فى صدق ما نقول !! .. وهى مأساة من أكبر المآسى التى يتردى فيها الخدام فى كل عصور التاريخ !! ..
ملاخى وخطايا الشعب
فإذا كان الكهنة بهذه الصورة ، فكم يكون الشعب إذاً ؟؟ .. كانت خطايا الشعب حقاً قاسية وثقيلة ، ولعل من أظهرها :
أولا : تفشى الطلاق ، والزواج بالأجنبيات ، وهو الأمر الذى يكرهه اللّه من كل قلبه، ويرى فيه غدراً بالزوجة وغدراً بشخصه هو أيضاً !! .. أما الغدر بالزوجة ، فواضح من أن الإنسان يطوح بامرأة شبابه التى ارتبط بها بعهد مقدس أمام اللّه ، ... واللّه يكره الغدر ويستأصل الغادر ، ولكن الأمر هنا أكثر من ذلك ، إذ أن الغدر هو أيضاً باللّه ذاته ، الذى منع إسرائيل من الاختلاط بالشعوب ليحفظ الزرع المقدس ، فلا يأتى أولاد ترتبط أمهاتهم بالوثنية التى - لا شك - ستلحق الأولاد إن آجلا أو عاجلاً : « غدر يهوذا وعمل الرجس فى إسرائيل وفى أورشليم . لأن يهوذا قد نجس قدس الرب الذى أحبه وتزوج بنت إله غريب » ... " مل 2 : 11 "ولا نظن أن هناك كلمات أقسى من هذه الكلمات فى كل الكتاب المقدس ، حتى جاء يسوع المسيح ليقف ضد الطلاق ويرجع الوصية إلى مكانها الأول فى قصد اللّه !! ..
وكانت الخطية الثانية عند الشعب : هى عدم المبالاة فى فعل الشر ، إلى درجة أنهم تصوروا أن اللّه لا يزجر الشر بل يسر بمن يفعله !! .. وأنه لا يوجد إله عادل يفرق بين الخير والشر فى الأرض : « قد أتعبتم الرب بكلامكم ، وقلتم بم أتعبناه ؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب وهو يسر بهم . أو أين إله العدل ؟ » ... " مل 2 : 17 " وهذا كلام متعب حقاً لقلب اللّه ، ... ولكن من الحقيقى أيضاً أنه يتردد على اللسان مرات كثيرة عندما نرى الأوضاع مقلوبة فى الأرض ، ... وقد يأتى سؤال أين إله العدل على لسان الخاطئ الذى ينشد التوبة ، ويجد جوابه فى الصليب الذى استوفى فيه اللّه عدله ، !! .. زار أحد خدام اللّه من الشباب يوحنا نيوتن وهو فى ضجعة الموت ، وكان نيوتن قبل مجيئه للمسيح تاجراً للعبيد ، وغارقاً فى أوحال الإثم والخطية !! .. ولكنه عندما جاء للخدمة أصبح الخادم العظيم ، والشاعر المسيحى ، ... وعندما تأسف الخادم الشاب ، لأنه سيفارق خادماً عظيماً كهذا الخادم ، قال له نيوتن : ياابنى : سأذهب أمامك فى الطريق ، وبعد ذلك ستأتى أنت ، وعندما تصل إلى السماء وتبحث عنى فإنك ستجدنى غالباً هناك عند قدمى المسيح مع اللص التائب حيث هناك مكانى .
فالذين لا يصدقون عدالة اللّه لينظروا إلى الصليب ، .. لأن ديان كل الأرض لابد أن يصنع عدلا !! ..
وكانت الخطية الثالثة : سلب اللّه فى حقه فى العشور والتقدمة - ولعل ما قاله دكتور ج . كامبل فى هذا الصدد ، يوضح لنا الفكرة : « إن طلب اللّه من شعبه يبدو محدداً وهو ، أن يعطى العشور .. ومن واجبهم أن يطيعوه .. لكن لا ينبغى أن تخطئ فالشعب فى العادة يقول إن اللّه يطلب العشور . وهذا يغاير تماماً الوضع الحقيقى ، .. اللّه طلب العشور - كحد أدنى - وهم فى إهمالهم لا يعطون العشور والتقدمة ، فقد سلبوا اللّه بعدم الاستجابة إلى مطلبه وأنا أسأل : ما هو المطلب الإلهى بالنسبة للمسيحى والمسيحية!!؟.. إن اللّه لا يسألك العشور .. البعض يقدم العشور من دخله وقد يكون هذا صحيحاً ، لكن إذا كانت هناك مظاهر الصحة من جانب ، فإن هناك أيضاً مظاهر الشح من الجانب الآخر ، .. بعض الناس لا يهتمون بتقديم العشور ، ولهذا لا يقدمونها .. غير أنه يوجد أيضاً من يسلب اللّه لأنه لا يقدم سوى عشور دخله ، واللّه لا يقبل العشور إذا كنت تقدمها بمعنى آلى دون شعور .. العشر حسن تماماً إذا كنت تقدمه للّه بكل إحساس ... لكن ما أكثر الذين يقدمون وهم ينتظرون الوعد دون أن يحققوا الشروط : أن يفتح كوى السموات ويفيض عليهم بركة ... واللّه إذ يقول هاتوا العشور . كأنما يقول : إن بيدك أنت أن تفتح كوى السموات !! .. ولا تتصور أنك مادمت تعيش بالناموس الروحى ، فأنت لست مرتبطاً بعطايا مادية .. ويلزم أن نعطى العشور !! .. واللّه لا يطلب العشور منك فحسب لكنه يطلب كل شئ .. وهنا لا ينبغى أن ننسى أن العشور والتقدمة مصحوبان بوعد البركة التى لا توسع !! ..
وكانت خطايا الشعب اللاحقة لهذا الخطايا ، « الحياة المستبيحة » ، إذ كان بينهم السحرة والفاسقون ، والحالفون زوراً والسالبون أجرة الأجير ، الأرملة ، واليتيم ، ومن يصد الغريب . والسحر طبعاً يلجأ فيه المرؤ إلى طلب الأرواح الشريرة وغايته ليست إلا غاية فاسدة ، وقد حاربه الكتاب لأنه يفسد ثقة الإنسان فى اللّه والتطلع إليه ، والاعتماد عليه دون الاعتماد على الشيطان !! .. والفسق خطية شنيعة كما نعلم ، تلوث جسد الإنسان ونفسه ، والكذب مع الأصرار الذى يستند إلى الحلف ، دليل على بشاعة الاستهتار والاستهانة باسم اللّه القدوس . والظلم الذي يقع على الأرملة واليتيم والغريب ، هو إهانة للّه نفسه ، كالسيد والحاكم الأدبى الأبدى بين الناس !! .
ملاخى ونبوته عن السيد المسيح
وملاخى - كآخر أنبياء العهد القديم - لا يجد حلا لقضية الإثم والفساد والشر والمرض الذى تسببه الخطية ، سوى فى اللّه نفسه : « ها أنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى ويأتى بغتة إلى هيكله السيد الذى تطلبونه وملاك العهد الذى تسرون به هوذا يأتى قال رب الجنود » .. " مل 3 : 1 " ولا بد من الملاحظة هنا أن رب الجنود هو الذى يتكلم ، وهو يتكلم عن شخصــــــــه المبـــــارك : « فيهيئ الطريق أمامى ، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذى ننتظره ونسر به » ... وقد أوضح السيد المسيح أن هذه النبوة تمت فيه ، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لتهيئة الطريق أمامه ، ... اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بلاده ، وقام بثورة عارمة ضد الفساد الذى استشرى ، لكن نحميا لم يكن إلا صورة ورمزاً إلى السابق الذى جاء ينادى بمجئ المسيح ، ... ومن الملاحظ أيضاً أنه فى هذه النبوة ، كما يقول أغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثانى ليسوع المسيح ، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق للخطية والإثم ، فإن مجيئه الثانى سيفصل بين الحق والباطل ، والشر والخير ، فصلا أبدياً !! .. وقد بين كيف يلجأ السيد إلى التطهير ، إذ يعمد إلى النار والغسل ، فهو بالنار يمحص وبالغسل يجمل وينظف كما يفعل القصار فى الثياب بالاشنان المنظفة المبيضة ، وهو إذ يبدأ بالتطهير ، يبدأ بخدامه مباشرة قبل الجميع !! ..
وقد ذكر النبى أن إيليا سيأتى قبل مجئ يوم المسيح العظيم المخوف الذى يقضى فيه السيد على كل فساد وشر ، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليا مرة ثانية، غير أن أغلب الشراح المسيحيين يتفقون على أن هذه النبوة إشارة إلى المعمدان الذى جاء بروح إيليا كما أشار السيد المسيح ، غير أنه وجد من المفسرين من قال إن إيليا سيأتى مرة أخرى قبل يوم الدينونة ومجئ المسيح الثانى ، وأنه إذا كانت النبوة قد تمت مبدئياً فى المعمدان، فإنها ستتم نهائياً وأخيراً بمجئ إيليا ذاته ، وستكون رسالته رد قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء . والبعض يعتقد أن معنى « على » هنا هو « مع » فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لنداء النبى ، ويوجد من يقول إن الآباء إشارة إلى الآباء الأقديمن ، وإن الأبناء سيرجعون بقلوبهم إلى قلوب آبائهم وإيمانهم .
وأيان يتجه تيار التفسير وهل هو عن المجئ الأول للمسيح بمفرده أو مجيئيه الأول والثانى ، كما يذهب أوغسطينوس ، وهل يوحنا المعمدان ، هو رسول المسيح الذى جاء سابقاً له بروح إيليا ، .. أم أن إيليا سيأتى مرة أخرى الأمر الذى لا نعتقده أو نرجحه .. إلا أن التفسير ، مهما اختلف ، فهو مركز فى شخص المسيح ... وإذا كانت آخر كلمة فى العهد القديم هى كلمة « بلعن » كما سبقت الإشارة ، فإن انتزاع الخطية من الأرض ، والقضاء على اللعنة ، والفصل بين الشر والخير إلى الأبد ، لا يمكن أن تكون إلا فى إسمه المجيد العظيم المبارك ، له المجد ، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين !!
" ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس
البر والشفاء فى أجنحتها "
" ملا 4 : 2 "
مقدمة
لعل من أطرف ما يقال أن بقالا أخذ يكيل المدح لأحد الرعاة ، وكان هذا الراعى قد نصب حديثاً على كنيسة فى المدينة التى يعيش فيها البقال ، وإذ سئل البقال عما إذا كان قد سمع الراعى وهو يعظ !! ؟ فأجاب ، كلا .. ولكنه منذ أن وفد على المدينة وجميع الزبائن الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة يدفعون فواتيرهم … أو فى لغة أخرى أن البقال رأى حياة الأعضاء فى تصرفاتهم وأسلوبهم الجديد فى الحياة !! .. وقد لخص احدهم خدمة ملاخى كتب نبوته فى عام 432 ق. م. فى ذلك الوقت الذى عاد فيه نحميا حين استدعاه الملك أرتحشستا حيث يقول فى سفره : « وفى كل هذا لم أكن فى أورشليم لأنى فى السنة الاثنتين والثلاثين لأرتحشستا ملك بابل دخلت إلى الملك وبعد أيام استأذنت من الملك وأتيت إلى أورشليم وفهمت الشر الذى عمله ألياشيب لأجل طوبيا بعمله له مخدعاً فى ديار بيت الرب » " نح 13 : 6 و 7 " وكان الارتداد رهيباً فى فترة غياب نحميا ، وظهر ملاخى لالينادى بعودة نحميا فجأة ليواجه الفساد والشر الذى عاد إليه الشعب بصورة رهيبة ، بل من هو أعظم من نحميا ، شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته ، … إن آخر كلمة فى العهد القديم كانت كلمة « بلعنٍ » … وأول كلمة فى العهد الجديد تواجه هذه اللعنة : « كتاب ميلاد يسوع المسيح » … والمسيح وحده وفيه تتحول اللعنة إلى بركة ويدخل الأمل الضائع فى العهد القديم ، فى الرجاء الأبدى فى العهد الجديد ، … ولهذا يحسن أن نرى ملاخى من النواحى التالية :
ملاخى ومن هو !! ؟
يعد ملاخى النبى الثانى عشر من الأنبياء الصغار ، وآخر أنبياء العهد القديم - والكلمة - « ملاخى » تعنى « ملاكى » أو « رسولى » . ونحن لانكاد نعرف عن هذا النبى شيئاً خلا اسمه وسفره ، وقد ظن البعض أن اسمه لا يشير إلى شخص بقدر ما يشير إلى رسالة ، ومن قالوا إن الكلمة « ملاخى » ليست اسم علم بل هى صفة لنبى أو رسول ، ولذا قالوا إن عزرا الكاتب هو صاحب سفر ملاخى ، غير أن هذا الرأى مردود لاختلاف أسلوب السفر عن سفر عزرا ، ومن العجيب أن أوريجانوس كان يعتقد أن كاتب السفر ملاك من السماء !! ... غير أن معظم الشراح ودارسى الكتاب يعتقدون أن ملاخى اسم علم لشخص حقيقى ، عاش معاصراً لنحميا وتنبأ فى الشطر الأخير من حياة هذا الحاكم العظيم ، ووهناك تقليد يقول إنه كان عضواً هو وزكريا فى مجمع اليهود العظيم ، وأنه ولد فى بلدة صوفا من سبط زبولون ، وأنه مات ولما يزل فى عنفوان شبابه .
وقد تنبأ هذا النبى بعد الرجوع من السبى وبناء الهيكل ، ومع أن أسلوبه ربما لا يرقى إلى أسلوب أنبياء ما قبل السبى ، لكنه قد يتفوق فى الصراحة والقوة وجمال التشبيه وبراعة الحوار ، ومن الغريب أنه كان معاصراً سقراط ، ودعاه بعضهم «سقراط العبرانى » ، إذ كان كالفيلسوف اليونانى العظيم فى طريق العرض والاعتراض والنقاش واستخلاص النتيجة .
وفى الواقع إن ملاخى تأثر فى أسلوبه وتفكيره بالأحداث العظيمة التى كانت تجرى فى العالم فى أيامه ، الأحداث التى كان لها ولا شك أكبر الأثر فى أمته وشعبه رسالته... ففى النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية تجتاز مرحلة حاسمة فى تاريخها ، فلقد بسط داريوس سلطانه على مصر ، وإن كان قد انهزم أمام اليونان فى موقعة الماراثون . وفى عام 485 اعتلى ابنه زركسيس « أحشويرش » حفيد كورش ، وأراد أن يثأر لمعركة الماراثون ، وجهز أكبر جيش عرف فى التاريخ القديم ، ولكنه خسر معركة سلاميس عام 480 ق . . . كما أن معركة بلاتيه أجهزت على سلطان الفرس الأخير فى أوربا ، وفتحت الباب أمام ظهور اليونان كالدولة التى تحل محلها . وفى غمرة هذا الصراع بين الشرق والغرب ، سرت فى العالم كله موجة من القلق والفوضى والمادية التى استولت على الشعوب ، بما فيها الشعب الإسرائيلى الراجع من السبى ، وفى الواقع أن الشعب قد عاد من السبى، وهو يظن أن كل شئ سيتغير إلى الأفضل ، ولما لم يحدث هذا التغير سريعاً ، انقلب الشعب إلى النقيض وارتد ، وفقد كل حماس وغيرة وروحانية ، فقل عنده الاعتبار الدينى ، وضعفت روح العبادة ، وانطوت نفوس الكهنة على إهمال واحتقار خدمة الهيكل ، وانحطت حياة الشعب إلى الدرك الأسفل ، ووقف ملاخى أمام أمة كانت فى طريقها إلى النقاهة ، ولكن مضاعفات المرض ونكسته قاداها إلى ما هو أسوأ وأقسى وأشر !! ..
ملاخى والحوار بين اللّه وشعبه
قامت نبوة ملاخى على الحوار بين اللّه وشعبه، فإذا كان سقراط فى أثينا يجمع الناس حوله ويناقشهم فى فلسفة الحياة ، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان فى عالم ضرب فيه الفساد فى أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود ، حتى أنهم حكموا على سقوط أن يشرب كأساً من السم ، ولفظوا الرجل الذى كان أحكم إنسان فى وسطهم ، ... لكن أورشليم كانت تواجه حواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان ، بل بين اللّه والإنسان ، ولم يكن وحى ملاخى إلا تسجيلا لهذا الحوار ، والكلمة « وحى » فيها معنى الحمل أو العبء أو الثقل أو المسئولية ، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين ، بل هو فى الحقيقة الحديث الجدى العميق الباهظ الثقل لما فيه من أهمية ومسئولية ، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكب الطريق عنه ، ... وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع ، فأما طرفاه فهما : اللّه ، والإنسان ، أو بتعبير أدق هما : « اللّه » فى وضعه « كأب » و « كسيد » ، والإنسان فى وضعه كإبن وعبد ،... أما من حيث الموضوع فهو اسمى موضوع فى الوجود : « الحب » ، واللّه من جانبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحوار ، إذ أن « اللّه محبة » ، وهو بطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة ، سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد ، ... وهل ننسى ذلك الحوار الذى حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرات : « يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء » ... « يا سمعان بن يونا أتحبنى » ... « يا سمعان بن يونا أتحبنى » ... ورد بطرس مثلثا : « يارب أنت تعلم أنى أحبك » « يارب أنت تعلم أنى أحبك » ... « يارب أنت تعلم كل شئ . أنت تعرف أنى أحبك » " يو 21 : 15 - 17 " .. ، وليس عند اللّه بديل أو نظير للمحبة !! ... أجل !! فهذا حق ، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول : « أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء » ... ولعله ليست هناك مأساة تعادل فقدان الإحساس بالمحبة ، الأمر الذى قاله الشعب فى وجه اللّه بجرأة لا يحسد عليها : « بم أحببتنا » . " مل 1 : 2 " . وفى الحقيقة لا يبقى للإنسان شئ فى الحياة بعد ذلك ، يوم يعجز عن إدراك أن اللّه أحبه وما يزال يحبه !! ... ومع ذلك فقد كان اللّه كريماً إذ دخل فى حوار المحبة !! ..
عاد اللّه بالشعب إلى التاريخ القديم ، والتاريخ فى العادة - لمن يعود إليه - أعظم برهان عملى وواقعى على محبة اللّه الفائقة العظيمة ، تاريخ الأمة أو البيت أو الفرد،... ويكفى أن يعود شعب اللّه إلى تاريخ يعقوب وعيسو ، ومهما نحاول أن نبحث ، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى عمق الاختبار الإلهى ، وقد تحدثنا فيما سبق عند التعرض لقصة عيسو ويعقوب ، عن هذه الحقيقة العجيبة ، ... والأمل أن يرجع من يرغب فى المزيد من التأمل إلى الشخصيتين اللتين درسناهما فيما سبق بين شخصيات الكتاب ، ... ولكننا نلاحظ أن الحب الإلهى تأسس أولا على عدم الاستحقاق ، إذ أن النعمة وحدها هى التى يستطيع يعقوب أن يرد الأمر إليها فى قصة اختياره دون أخيه ، أولا لأن هذا الاختيار حدث قبل أن يفعلا خيراً أو شراً ، فهو اختيار أسبق من كل عمل أو تصرف ، فإذا قسناه بحسب المنصرف الذى جاء فيما بعد ، فإن تصرف يعقوب فى غشه وخداعه وأنانيته وخبثه ، كان فى كثير من الأوضاع أبعد من كل تصرف وصل إليه عيسو الذى هو آدوم .
وكان الحب الإلهى أكثر من ذلك - منحازاً ، إذ أخذ من عيسو ما يبدو أنه حقه باعتباره البكر ، ليعطى ليعقوب ، ... ولم يتعلق الأمر بالاختيار فحسب ، بل بالضمان والحراسة والبركة ، ... ومن المؤكد أن هناك أشياء كثيرة فى عيسو كان يمقتها اللّه ويكرهها ، لأنه مهما يبدو فى الظاهر من فضائل فيه ، قد لا يصل إليها يعقوب ، إلا أنه كان يملك رذيلة الرذائل ومستنقع الأوحال ، إذ كان هو الشخص الذى يمكن أن يطلق عليه القول « بلا إله » وهو على أية حال حيوان حتى ولو بدا كالزرافة أو الحمار الوحشى أو أى حيوان جميل الشكل ، ... ولكنه فى أية صورة هو حيوان ، ولا يمكن أن يقارن بالإنسان !! ... وكان يعقوب ، على العكس ، إنساناً به النقائص التى ظل اللّه يعمل على إخراجها منه ، وتنقيته منها حتى ، أضحى إسرائيل الذى جاهد مع اللّه والناس وغلب ..
هذه المحبة الإلهية ، كانت أكثر من ذلك ، المحبة التى باركت يعقوب وأخربت عيسو ، أو فى لغة أخرى كانت المعطية للواحد والمقاومة للآخر ، فهى تعطى ليعقوب إلى الدرجة التى يقول معها : « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك . فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين » " تك 32 : 10 " ... على العكس من عيسو الذى يقول عنه ملاخى : « وأبغضت عيسو وجعلت جباله خراباً وميراثه لذئاب البرية . لأن أدوم قال قد هدمنا فنعود ونبنى الخرب، هكذا قال رب الجنود هم يبنون وأنا أهدم ويدعونهم تخوم الشر والشعب الذى غضب الرب عليه إلى الأبد » ... " مل 1 : 3 و 4 " وشتان بين إنسان يجد المعونة والقوة من اللّه ، وآخر يجد الهدم ، والتدمير منه كلما فكر فى النهوض للتعمير والبناء ، ... واللّه فى هذا كله ، لابد أن يلتقى حبه بعدالته ، إذ أن الهدم الذى يلحق آدوم إلى الأبد ، مرتبط بإصراره على أن يكون تخوم الشر . ومن هنا نعلم أن الغضب الإلهى له أسباب ومقوماته !!
إنتظر اللّه من شعبه حباً بحب ، وشركة بشركة ، .. ولكن الشعب لم يرد على اللّه صدى هذه المحبة العظيمة ، وخاب انتظار اللّه فيه ، ... وإذا كان للمرء أن يسأل: وماذا ينتظر اللّه جواباً على حبه ؟ إنه ينتظر ما ينتظره كل أب من ابنه ، وهل أقل من أن يفعل ما فعله هنرى هفلوك وهو صبى صغير ، إذ أطاع أباه ، ورفض أن يتزحزح من مكانه فى شوارع لندن المزدحمة ساعات طويلة حتى جاء الليل ، وعاد الأب إلى بيته وكان قد نسى ابنه ، فى زحام عمله ، ولم يتذكر ذلك إلا بعد عودته ، فأسرع إلى المكان ليجد ابنه هناك فى انتظار أبيه !! .. « أن أفعل مشيئتك يا إلهى سررت وشريعتك فى وسط أحشائى » "مز 40 : 8 " « لأجل ذلك حسبت كل وصاياك فى كل شئ مستقيمة كل طريق كذب أبغضت » .. " مز 119 : 128 " وليس الأمر مجرد الطاعة ، بل « نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا ، .. "1 يو 4 : 19 " إننا من هامة الرأس إلى إخمص القدم مدينون له كخالق ، وكمعتن ، وكفار وهو يستحق كل حب وولاء ، أن يكون هو صاحب المركز الأول والأخير فى قلوبنا وحياتنا !! .. ومن حقه علينا أن نغار لمجده وكرامته ، وإذا كان الابن لا يقبل قط أن يهان أبوه الأرضى أمام عينيه بأية صورة من الصور ، فكم بالأولى الآب السماوى المستحق كل إكرام وإجلال ومجد ، ولسنا نصنع فضلا إذ نجند أنفسنا لخدمته ، بل هذه هى رسالتنا الوحيدة فى الأرض أو السماء !!! ..
ملاخى والكهنة فى أيامه
وليست هناك صورة أسوأ من صورة الكهنة فى أيام ملاخى ، وحتى يمكن أن نفهم الصورة على وضعها الصحيح ، كشف لنا اللّه عن رسالة الكاهن العظيمة : « كان عهدى معه للحياة والسلام وأعطيته إياهما للتقوى فاتقانى ومن اسمى ارتاع هو . شريعة الحق كانت فيه واثم لم يوجد فى شفتيه. سلك معى فى السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم . لأن شفتى الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » " مل 2 : 5 - 7 " وأية صورة أجمل وأروع من هذه الصورة لخادم اللّه ، إذ أنه :
أولا : الخادم المدعو من اللّه الذى دخل فى ميثاق مع اللّه : « فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل يكون غار غيرتى فى وسطهم حتى لم أفن بنى إسرائيل بغيرتى . لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقى ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدى لأجل أنه غار للّه وكفر عن بنى « إسرائيل » ... " عد 25 : 11 - 13 " وما أجمل أن يحس الكاهن أو خادم اللّه أنه إذ يدخل الخدمة مدعواً من اللّه ، إنما يدخلها بميثاق وعهد أبدى مع القدير ، ..
ومن ثم تأخذ الخدمة . ثانياً : أعلى مكانة فى ذهنه ، إذ هى خدمة اللّه العلى الجدير بكل إجلال واحترام : « ومن اسمى ارتاع..
ثالثا : الخدمة ، ينبغى أن تحاط بالمهابة والجلال والاحترام والقدسية .. إذ هى للّه العظيم القدوس ، .. ولذا من الواجب أن يكون الممسك بها هو الإنسان الصادق الأمين : « سريعة الحق كانت فيه وإثم لم يجد فى شفتيه » ورجل اللّه لا ينبغى أن تكون هناك شبهـــــة فى صدقه وأمانته وحقه .
والخدمة رابعاً : لا يجوز أن يقوم بها إلا من كان سلوكه العملى واضحاً وثابتاً أمام الجميع ، وهو مع اللّه فى سلام ، ومع نفسه والناس فى استقامة : « سلك معى فى السلام والاستقامة » .
وهو خامساً : الإنسان النافع : « وأرجع كثيرين عن الإثم » ... إذ هذه هى رسالته العظيمة فى الحياة .
وأخيراً هو الإنسان الواسع الإدراك والمعرفة ، الذى يطلبه الحائر والمتعثر عندما تبهم أمامه الأمور وتستغلق : « لأن شفتى الكاهن تتحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » .
هذه هى الصورة الوضيئة للكاهن وخادم اللّه ، ... والتى كان الكهنة فى أيام ملاخى على عكسها تماماً ، ... ولعل أدق الأوصاف للكاهن فى ذلك الوقت أن :
أولا : « الكاهن المحتقر الدنئ » ... وما أكثر صور الدناءة التى كان عليها ، ... ولكن أقساها وأشدها ، هو فى تعامله مع الذبيحة التى تقدم للّه إذ كانت تقدم له الذبيحة السليمة ، فكان يستبدلها بالعمياء أو العرجاء أو السقيمة ، ليحتفظ بفرق الثمن ، وهو أشبه بذلك الرجل الذي جاءت قصته فى الأدب الروسى ، الذى قيل إنه كان فلاحاً ، ومرض ابنه للموت ، فنذر للّه حصانه إن شفى الولد وكان الحصان فى ذلك الوقت يساوى عشرين جنيهاً ، وشفى الابن ، ولكن عز عليه أن يبيع الحصان ويقدم ثمنه كما نذر ، وفكر ثم فكر ، وأخيراً ذهب إلى السوق ومعه حصانه ، وديك أيضاً ، وقرر أن يبيع الاثنين معاً ، وإذ سأله أحدهم عن الثمن قال : الحصان ثمنه عشرون قرشاً ، وإذ هم الرجل أن يدفع الثمن ، قال له : لا .. أنا أبيع الاثنين معاً ، .. فسأله : وما ثمن الديك؟ : قال : عشرون جنيهاً ، واشترى المشترى الاثنين وعاد الرجل ليقدم ثمن الحصان كما باعه بمبلغ عشرين قرشاً ، لأنه باعه فى السوق بهذا الثمن !! ..
وكان الكاهن ثانياً : « الكاهن النفعى » الذى يقبل على الخدمة ويقدرها على قدر ما ينتفع منها ، وهو لا ينظر إليها كعهد سام بينه وبين اللّه ، بل على قدر ما تعطيه من مغنم أو مكســب مادى .
وهو ثالثاً : « الخادم الملول » الذى يتأفف من الخدمة ، وهى ثقيلة عليه ، ويؤديها كرهاً ، ... وليس أقسى على النفس من أن نجد خادماً بهذه الصورة ، فهو يخدم لأنه مضطر للخدمة ، أما بسبب الحاجة أو التقليد ، أو العيب أمام المجتمع إذا تخلى عنها ، وهو يعظ بدون حياة أو روح أو ثقة فى صدق ما نقول !! .. وهى مأساة من أكبر المآسى التى يتردى فيها الخدام فى كل عصور التاريخ !! ..
ملاخى وخطايا الشعب
فإذا كان الكهنة بهذه الصورة ، فكم يكون الشعب إذاً ؟؟ .. كانت خطايا الشعب حقاً قاسية وثقيلة ، ولعل من أظهرها :
أولا : تفشى الطلاق ، والزواج بالأجنبيات ، وهو الأمر الذى يكرهه اللّه من كل قلبه، ويرى فيه غدراً بالزوجة وغدراً بشخصه هو أيضاً !! .. أما الغدر بالزوجة ، فواضح من أن الإنسان يطوح بامرأة شبابه التى ارتبط بها بعهد مقدس أمام اللّه ، ... واللّه يكره الغدر ويستأصل الغادر ، ولكن الأمر هنا أكثر من ذلك ، إذ أن الغدر هو أيضاً باللّه ذاته ، الذى منع إسرائيل من الاختلاط بالشعوب ليحفظ الزرع المقدس ، فلا يأتى أولاد ترتبط أمهاتهم بالوثنية التى - لا شك - ستلحق الأولاد إن آجلا أو عاجلاً : « غدر يهوذا وعمل الرجس فى إسرائيل وفى أورشليم . لأن يهوذا قد نجس قدس الرب الذى أحبه وتزوج بنت إله غريب » ... " مل 2 : 11 "ولا نظن أن هناك كلمات أقسى من هذه الكلمات فى كل الكتاب المقدس ، حتى جاء يسوع المسيح ليقف ضد الطلاق ويرجع الوصية إلى مكانها الأول فى قصد اللّه !! ..
وكانت الخطية الثانية عند الشعب : هى عدم المبالاة فى فعل الشر ، إلى درجة أنهم تصوروا أن اللّه لا يزجر الشر بل يسر بمن يفعله !! .. وأنه لا يوجد إله عادل يفرق بين الخير والشر فى الأرض : « قد أتعبتم الرب بكلامكم ، وقلتم بم أتعبناه ؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب وهو يسر بهم . أو أين إله العدل ؟ » ... " مل 2 : 17 " وهذا كلام متعب حقاً لقلب اللّه ، ... ولكن من الحقيقى أيضاً أنه يتردد على اللسان مرات كثيرة عندما نرى الأوضاع مقلوبة فى الأرض ، ... وقد يأتى سؤال أين إله العدل على لسان الخاطئ الذى ينشد التوبة ، ويجد جوابه فى الصليب الذى استوفى فيه اللّه عدله ، !! .. زار أحد خدام اللّه من الشباب يوحنا نيوتن وهو فى ضجعة الموت ، وكان نيوتن قبل مجيئه للمسيح تاجراً للعبيد ، وغارقاً فى أوحال الإثم والخطية !! .. ولكنه عندما جاء للخدمة أصبح الخادم العظيم ، والشاعر المسيحى ، ... وعندما تأسف الخادم الشاب ، لأنه سيفارق خادماً عظيماً كهذا الخادم ، قال له نيوتن : ياابنى : سأذهب أمامك فى الطريق ، وبعد ذلك ستأتى أنت ، وعندما تصل إلى السماء وتبحث عنى فإنك ستجدنى غالباً هناك عند قدمى المسيح مع اللص التائب حيث هناك مكانى .
فالذين لا يصدقون عدالة اللّه لينظروا إلى الصليب ، .. لأن ديان كل الأرض لابد أن يصنع عدلا !! ..
وكانت الخطية الثالثة : سلب اللّه فى حقه فى العشور والتقدمة - ولعل ما قاله دكتور ج . كامبل فى هذا الصدد ، يوضح لنا الفكرة : « إن طلب اللّه من شعبه يبدو محدداً وهو ، أن يعطى العشور .. ومن واجبهم أن يطيعوه .. لكن لا ينبغى أن تخطئ فالشعب فى العادة يقول إن اللّه يطلب العشور . وهذا يغاير تماماً الوضع الحقيقى ، .. اللّه طلب العشور - كحد أدنى - وهم فى إهمالهم لا يعطون العشور والتقدمة ، فقد سلبوا اللّه بعدم الاستجابة إلى مطلبه وأنا أسأل : ما هو المطلب الإلهى بالنسبة للمسيحى والمسيحية!!؟.. إن اللّه لا يسألك العشور .. البعض يقدم العشور من دخله وقد يكون هذا صحيحاً ، لكن إذا كانت هناك مظاهر الصحة من جانب ، فإن هناك أيضاً مظاهر الشح من الجانب الآخر ، .. بعض الناس لا يهتمون بتقديم العشور ، ولهذا لا يقدمونها .. غير أنه يوجد أيضاً من يسلب اللّه لأنه لا يقدم سوى عشور دخله ، واللّه لا يقبل العشور إذا كنت تقدمها بمعنى آلى دون شعور .. العشر حسن تماماً إذا كنت تقدمه للّه بكل إحساس ... لكن ما أكثر الذين يقدمون وهم ينتظرون الوعد دون أن يحققوا الشروط : أن يفتح كوى السموات ويفيض عليهم بركة ... واللّه إذ يقول هاتوا العشور . كأنما يقول : إن بيدك أنت أن تفتح كوى السموات !! .. ولا تتصور أنك مادمت تعيش بالناموس الروحى ، فأنت لست مرتبطاً بعطايا مادية .. ويلزم أن نعطى العشور !! .. واللّه لا يطلب العشور منك فحسب لكنه يطلب كل شئ .. وهنا لا ينبغى أن ننسى أن العشور والتقدمة مصحوبان بوعد البركة التى لا توسع !! ..
وكانت خطايا الشعب اللاحقة لهذا الخطايا ، « الحياة المستبيحة » ، إذ كان بينهم السحرة والفاسقون ، والحالفون زوراً والسالبون أجرة الأجير ، الأرملة ، واليتيم ، ومن يصد الغريب . والسحر طبعاً يلجأ فيه المرؤ إلى طلب الأرواح الشريرة وغايته ليست إلا غاية فاسدة ، وقد حاربه الكتاب لأنه يفسد ثقة الإنسان فى اللّه والتطلع إليه ، والاعتماد عليه دون الاعتماد على الشيطان !! .. والفسق خطية شنيعة كما نعلم ، تلوث جسد الإنسان ونفسه ، والكذب مع الأصرار الذى يستند إلى الحلف ، دليل على بشاعة الاستهتار والاستهانة باسم اللّه القدوس . والظلم الذي يقع على الأرملة واليتيم والغريب ، هو إهانة للّه نفسه ، كالسيد والحاكم الأدبى الأبدى بين الناس !! .
ملاخى ونبوته عن السيد المسيح
وملاخى - كآخر أنبياء العهد القديم - لا يجد حلا لقضية الإثم والفساد والشر والمرض الذى تسببه الخطية ، سوى فى اللّه نفسه : « ها أنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى ويأتى بغتة إلى هيكله السيد الذى تطلبونه وملاك العهد الذى تسرون به هوذا يأتى قال رب الجنود » .. " مل 3 : 1 " ولا بد من الملاحظة هنا أن رب الجنود هو الذى يتكلم ، وهو يتكلم عن شخصــــــــه المبـــــارك : « فيهيئ الطريق أمامى ، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذى ننتظره ونسر به » ... وقد أوضح السيد المسيح أن هذه النبوة تمت فيه ، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لتهيئة الطريق أمامه ، ... اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بلاده ، وقام بثورة عارمة ضد الفساد الذى استشرى ، لكن نحميا لم يكن إلا صورة ورمزاً إلى السابق الذى جاء ينادى بمجئ المسيح ، ... ومن الملاحظ أيضاً أنه فى هذه النبوة ، كما يقول أغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثانى ليسوع المسيح ، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق للخطية والإثم ، فإن مجيئه الثانى سيفصل بين الحق والباطل ، والشر والخير ، فصلا أبدياً !! .. وقد بين كيف يلجأ السيد إلى التطهير ، إذ يعمد إلى النار والغسل ، فهو بالنار يمحص وبالغسل يجمل وينظف كما يفعل القصار فى الثياب بالاشنان المنظفة المبيضة ، وهو إذ يبدأ بالتطهير ، يبدأ بخدامه مباشرة قبل الجميع !! ..
وقد ذكر النبى أن إيليا سيأتى قبل مجئ يوم المسيح العظيم المخوف الذى يقضى فيه السيد على كل فساد وشر ، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليا مرة ثانية، غير أن أغلب الشراح المسيحيين يتفقون على أن هذه النبوة إشارة إلى المعمدان الذى جاء بروح إيليا كما أشار السيد المسيح ، غير أنه وجد من المفسرين من قال إن إيليا سيأتى مرة أخرى قبل يوم الدينونة ومجئ المسيح الثانى ، وأنه إذا كانت النبوة قد تمت مبدئياً فى المعمدان، فإنها ستتم نهائياً وأخيراً بمجئ إيليا ذاته ، وستكون رسالته رد قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء . والبعض يعتقد أن معنى « على » هنا هو « مع » فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لنداء النبى ، ويوجد من يقول إن الآباء إشارة إلى الآباء الأقديمن ، وإن الأبناء سيرجعون بقلوبهم إلى قلوب آبائهم وإيمانهم .
وأيان يتجه تيار التفسير وهل هو عن المجئ الأول للمسيح بمفرده أو مجيئيه الأول والثانى ، كما يذهب أوغسطينوس ، وهل يوحنا المعمدان ، هو رسول المسيح الذى جاء سابقاً له بروح إيليا ، .. أم أن إيليا سيأتى مرة أخرى الأمر الذى لا نعتقده أو نرجحه .. إلا أن التفسير ، مهما اختلف ، فهو مركز فى شخص المسيح ... وإذا كانت آخر كلمة فى العهد القديم هى كلمة « بلعن » كما سبقت الإشارة ، فإن انتزاع الخطية من الأرض ، والقضاء على اللعنة ، والفصل بين الشر والخير إلى الأبد ، لا يمكن أن تكون إلا فى إسمه المجيد العظيم المبارك ، له المجد ، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين !!