موسى
" بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "
(عب 11: 24)
مقدمة
قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!..
من هو موسى؟!!
عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!..
موسى الجميل
لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!..
موسى المتعلم
وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!..
موسى المقتدر
لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير ، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!..
موسى الحالم
كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا".
موسى الحليم
لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!..
موسى صديق الله
لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..
أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!!
موسى والبيت القديم
ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر": ..
هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!.
ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى.
على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!..
موسى والرفض العظيم
وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!..
كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!..
إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!..
موسى ومدرسة مديان الكبرى
كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق.
وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!..
وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!..
موسى والدعوة العليا
كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!..
وقت الدعوة
فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!..
مكان الدعوة
لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!..
مظهر الدعوة
ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!..
هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!..
نداء الدعوة
لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن".
وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!.
هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!
" بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "
(عب 11: 24)
مقدمة
قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!..
من هو موسى؟!!
عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!..
موسى الجميل
لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!..
موسى المتعلم
وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!..
موسى المقتدر
لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير ، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!..
موسى الحالم
كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا".
موسى الحليم
لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!..
موسى صديق الله
لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..
أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!!
موسى والبيت القديم
ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر": ..
هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!.
ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى.
على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!..
موسى والرفض العظيم
وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!..
كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!..
إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!..
موسى ومدرسة مديان الكبرى
كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق.
وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!..
وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!..
موسى والدعوة العليا
كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!..
وقت الدعوة
فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!..
مكان الدعوة
لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!..
مظهر الدعوة
ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!..
هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!..
نداء الدعوة
لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن".
وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!.
هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!