حيــاة ملشيصادق
كـاهن الـلــــه الــعلى
مقدمة : تباينت الأقوال والآراء حول شخصية ملشيصادق المبهمة العجيبة .
فمن
قائل أنه شخص حقيقى ، وانسان عادى ، كان ملكا على ساليم وكاهنا لله العلى
. ومن قائل أنه أحد ظهورات السيد المسيح التى حدثت قبل التجسد المعجزى من
العذراء مريم ، مثل ظهور السيد المسيح – الله الأبن – مع ملاكيه لإبراهيم
عند بلوطات ممرا ( تك 18 ) ، ومثل ظهوره ليعقوب عند مخاضة يبوق ومباركته
له ( تك 32 ) . ونحاول هنا ، بقدر الإمكان ، أن نلقى بعض الضوء على هذه الشخصية العجيبة والعظيمة فى نفس الوقت .
ملشيصادق :
اسم سامى معناه ” ملك الصدق أو ملك البر ” وله قصة شيقة ، نأتى بها من أولها :
لما دنا موت يارد بن مهللئيل السادس من نسل آدم ، دعا ولده أخنوخ ، ومتوشالح بن أخنوخ ، ولامك بن متوشالح ، ونوح بن لامك ، وقال لهم : “
أنا أعلم أن الله لا يترككم فى هذا الجبل ، فمن خرج منكم من هذا الجبل
فليأخذ معه جسد أبينا آدم ، وهذه القرابين الثلاثة ، الذهب واللبان والمر “
وقال للامك : “
أوص ابنك أن يجعل جسد آدم من بعد موتك إلى منطقة وسط الأرض ، ويكرس رجلا
من أولاده ليخدم هناك ، ويكون ناسكا كل أيام حياته ، لا يتزوج ، ولا يهرق
دما ، ولا يقرب قربانا من طير أو حيوان ، بل خبزا وخمرا ، لأن من هناك
يكون خلاص آدم ، ويكون لباسه من جلود السباع ، ولا يحلق شعره ، ويكون
كاهنا لله العلى ”
· تلكنبوة وإشارة إلى صلب رب المجد يسوع على جبل الجلجثة لخلاص آدم وبنيه ،ويقول التقليد أنه عند صلب السيد المسيح على جبل الجلجثة ، نزلت الدماء منجراحاته على الأرض ، فشققت الصخور ، ونزلت حتى وصلت إلى جسد آدم المدفونوطهرته ، وقول العائدون من القدس أنه ما زالت هذه الشقوق موجودة فى صخورجبل الجلجثة ، كما توجد فى الجبل كنيسة صغيرة تسمى ” كنيسة آدم ” وبهاهيكل على أسم يوحنا المعمدان ، ويقول التقليد إن ملشيصادق أتى بجمجمة آدمووضعها هنا تحت الجلجثة .
وبعد ذلك أراد الله أن يفنى العالم بالطوفان بسبب خطايا الناس
التى تكاثرت ، وشرورهم التى تزايدت ، فأمر نوح الصديق أن يصنع فلكا يدخله
هو ومن يؤمن بدعوته لينجو من الطوفان ، ولما أتم نوح الفلك ، تذكر وصية
جده يارد ، فدخل هو وبنوه ، سام وحام ويافث ، إلى مغارة الكنوز ( سميت بمغارة الكنوز لوجود عظام القديسين بها ) .. وتباركوا من أجساد الآباء آدم وشيث وأنوش وقينان ومهللئيل ويارد ومتوشالح ولامك ، ثم حمل نوح جسد آدم ، وحمل أولاده القرابين ، فحمل سام الذهب،وحمل حام المر،وحمل يافث اللبان ،
وخرجوا من مغارة الكنوز ، ووضعوها على الجبل المقدس ، وبدأوا يصلون ويبكون
على مفارقة الفردوس وطرد جدهم آدم منه ، بعد ذلك ، حملوها إلى داخل
السفينة بالطابق العلوى منها ، ووضع نوح جسد آدم على منبر من الخشب فى وسط
الطابق العلوى وبجانبه القرابين ، وكان نوح يقف أمام الله مقابل الجسد كل
يوم ، وكانت امرأته وأولاده ونساؤهم يقفون فى السفينة من ناحية الغرب ،
ويقولن : ” آمين يارب .. ” وكانوا بعد الصلاة يجلسون فترة من الزمن يتأملون جسد آدم ، ويتذكرون الفردوس المفقود .
وبعد انتهاء الطوفان ، ورسو السفينة على جبل أراراط ( شمال
ايران حاليا ) .. خرج منها نوح وجميع من معه ، وتركوا فيها جسد آدم داخل
مقصورته ليكون محفوظا .
ولما قربت وفاة نوح البار ، استدعى أبنه سام سرا ، وقال له : ”
أخرج جسد آدم من السفينة ، وأيضا الثلاثة قرابين الذهب واللبان والمر ،
ولا تدع أحدا يعلم ما أنت فاعله ، وخذ معك أيضا ملشيصادق ، وأمضيا به ،
وأدفناه فى وسط الأرض “
، وأوصى ملشيصادق بأن لا يتخذ له إمرأة ، وليكن ناسكا لله كل أيام حياته ،
لأن الله اختاره ليخدم قدامه ، ولا يبنى له بيتا على الأرض ، ولا يهرق دما
من السباع ولا طائر ولا حيوان ، ولا بحلق شعره ، ويكون وحده كاهنا للـــه
العلى
وبعد نياحة نوح البار بأربعين يوما ، قال سام لأخوته : ” أبى أوصانى عند موته أن أمشى فى الأرض ، حتى أبلغ البحر وأبصر الأودية والأنهار ، ثم أرجع إليكم ” .. وقال لفالج بن عابر : ”
أعطنى ابنك ملشيصادق ليكون لى عونا فى الطريق ،،،، ثم أخذ سام
جسد آدم سرا وأخذ معه حفيده ملشيصادق وخرجا ، فظهر لهما ملاك الرب
ليهديهما إلى المكان المعين لدفن جسد آدم ، ولم يزل يتقدمهما حتى انتهى
بهما إلى وسط الأرض وأراهما المكان ، فلما جعلا جسد آدم عليه ، انفتح ذلك
المكان من ذاته ، فوضعا الجسد فيه ودفناه ، واسم المكان الجلجلة ، وهو
أيضا الأقرانيون ، وقال سام لملشيصادق : ” أمكث
أنت ههنا ، وكن كاهنا لله العلى ، فإنه قد أختارك لتخدمه ، وهوذا ملاك
الرب ينزل إليك كل حين ” … وبعد أن زوده بالنصائح والوصايا اللازمة ، تركه
ورجع إلى إخوته .
· فالج اسم عبرى معناه ” قسمة أو أنقسام ” وهو أحد أبنى عابر (
يقطان وفالج ) ، وقد سمى كذلك لأن فى أيامه قسمت الأرض وتفرق بنو نوح .
ومن البنين الذين أنجبهم فالج بعد رعو ، ملشيصادق الذى نتكلم عنه ،
فملشيصادق هو أبن فالج وشقيق رعو . وقد ذكر معلمنا لوقا الأنجيلى أسم فالج
وعابر فى سلسلة أنساب السيد المسيح ( لو 3 : 35 ) .
· أما عابر : فهو أسم عبرى معناه ” عبر أو يعبر ” وهو أبن شالح
بن أرفكشاد بن سام ، وإليه ينتسب العبرانيون ، كما أنه جد العرب ، ويسمونه
” يعرب ” .
فملشيصادق هو حفيد من حفدة سام ، فهو ملشيصادق بن فالج بن عابر ….. الخ و ” سام هو أبو كل بنى عابر ” ( تك 10 : 21 ) .
……
بعد أن أقام ملشيصادق فترة متعبدا فى الغابات المجاورة لجبل الجلجثة ، حيث
دفن جسد جده الأول آدم ، سمع به ملوك تلك المناطق وأهلها ، فجاءوا إليه
بهدايا وتقدمات كرجل الله ، ولما لم يقبلها ، بنوا بها هيكلا فوق قبر آدم
، ثم بنوا مدينة سموها شاليم ، أى ” السلام ” وجعلوه ملكا عليا ، بجانب أنه كاهن الله العلى ، وقد تحرف أسمها بعد ذلك إلى ” أورشليم ” أى ” نور السلام ” ويؤيد ذلك المؤرخ اليهودى ” يوسيفوس ” .
وملشيصادق هذا هو الذى بارك ابراهيم خليل الله عند رجوعه من كسرة كدرلعومر والملوك الذين معه .. ”
… وملكيصادق ملك شاليم أخرج خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى ، وباركه (
أى ابراهيم ) ، وقال : مبارك ابرآم من الله العلى ملك السموات والأرض ،
ومبارك الله العلى الذى أسلم أعداءك فى يديك ، فأعطاه ( ابراهيم ) عشرا من
كل شىء ( تك 14 : 18 – 20 ) .
وهو كان أكبر من ابراهيم حسب قول الرسول :
” ولكن الذى له نسب منهم ( من اللاويين ) قد عشر إبراهيم وبارك الذى له المواعيد ، وبدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر “ ( عب 7 : 6 ، 7 ) .
تفسير بعض الآيات التى وردت عنه فى الرسالة إلى العبرانيين :
+ الآية : ” بلا أب بلا أمبلا نسب ” …. ( عب 7 : 3 )
والمعنى الحقيقى الذى قصده الرسول من هذه الآية ، هو أن كهنوت ملشيصادق لم
يصل إليه من أبيه وسلفائه ، كما كان الأمر فى الكهنوت اللاوى الذى كان
محصورا فى نسل لاوى ، أحد الأسباط ، وفى ذرية هارون بالذات الذى أقامه
أخوه موسى هو وذريته لخدمة الكهنوت فى إسرائيل ، ومما يؤيد ذلك ، قول
الرسول : ” بلا نسب ” أى بلا سلف كهنوتى خلفه ملشيصادق فى تلك الوظيفة
السامية ، بل أتته من الله رأسا .
+ الآية الأخرى : ” بلا بداءة أيام له ولانهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله ، هذا يبقى كاهنا إلى الأبد ” ( عب 7 : 3 )
والتفسير الصحيح لهذه الآية هو أن ملشيصادق لا بداءة أيام له ، ولا نهاية
حياة فى الخدمة الكهنوتية ، كما كان الحال بالنسبة للكهنة اللاويين ،
فإنهم كانوا يبدأون خدمتهم الكهنوتية فى سن الثلاثين وينتهون منها فى
الخمسين ” ( عد 4 : 3 ، 23 ، 43 ، 47 ) .
أما ملشيصادق ، فلم يكن كهنوته محدودا بهذا السن لبداية ونهاية الوظيفة ، بل هو مشبه بأبن الله الذى قيل عنه فى المزمور :
” أقسم الرب ولن يندم أنت هو الكاهن إلى الأبد ( مز 110 : 4 ) .
أما أن كهنوت ملشيصادق – بوصفه إنسانا – يبقى إلى الأبد ، فهذا يعنى أنه
يبقى كاهنا إلى يوم وفاته ، لا يعزل ولا يجرد من كهنوته أثناء حياته بسبب
تقدمه فى السن ، كما كان الحال مع الكهنة اللاويين .
وكثيرا ما وردت كلمة ” إلى الأبد ” فى الكتاب المقدس بمعنى ” حتى نهاية الحياة ” ونورد أمثلة لذلك :
· عندما أرادت حنة أم صموئيل ، أن تقدم ابنها – ابن الموعد – إلى الهيكل ، قالت لزوجها : ” متى فطم الصبى ، آتى به ليتراءى أمام الرب ، ويقيم هناك إلى الأبد “ ( 1 صم 1 : 22 ) ، أى ليقيم هناك إلى نهاية حياته .
· عندما رأى يوناثان بن شاول الملك أن أباه يضطهد داود ويريد قتله ، وكان يوناثان يحب داود كنفسه ، لذلك قطع معه عهد صداقة قائلا : ” وأما الكلام الذى تكلمنا به أنا وأنت ، فهوذا الرب بينى وبينك إلى الأبد ” ( 1 صم 20 : 23 ) . أى إلى نهاية حياتنا
· لما لجأ داود إلى أخيش ، ملك جت ، هربا من شاول الملك ، وطلب من أخيش أن يسكنه عنده لأنه أصبح عدوا لشاول ، يقول الكتاب : ” فصدق أخيش داود ، قائلا : قد صار مكروها لدى شعبه إسرائيل ، فيكون لى عبدا إلى الأبد ” ( 1 صم 27 : 12 ) .
آراء بعض الآباء وعلماء الكتاب المقدس فى شخصية ملكى صادق :
+ سئل قداسة البابا شنودة الثالث هذا السؤال : من هو ملكيصادق
؟ وما معنى قولنا فى المزمور : ” أنت هو الكاهن إلى الأبد على طقس
ملكيصادق ” ( مز 110 : 4 ) ، ما هو طقس ملكيصادق هذا ؟
( كتاب سنوات مع أسئلة الناس – ج 1 – لقداسة البابا ، ص 46 ) .
أجاب قداسته
: ” أول مرة ورد فيها أسم ملكيصادق كانت فى استقباله لإبراهيم عند رجوعه
من كسرة كدرلعومر والملوك الذين معه ( تك 14 : 18 – 20 ) ، وفى هذه
المقابلة ، قيل عن ملكيصادق ما يأتى :
( 1 ) أنه ملك شاليم ( ولعلها أورشليم ) .
( 2 ) أنه كاهن الله العلى ، وقد قدم خبزا وخمرا .
( 3 ) أنه بارك أبانا إبراهيم ، وأبونا ابراهيم قدم له العشور .
ويقرر معلمنا بولس الرسول أن ملكيصادق أعظم من ابراهيم ، على اعتبار أن
الصغير يبارك من الكبير ، ( عب 7 : 7 ) ، وعلى اعتبار أنه دفع له العشور ،
وبالتالى يكون كهنوت ملكيصادق أعظم من كهنوت هارون الذى كان فى صلب
إبراهيم لما باركه ملكيصادق .
وكهنوت المسيح والكهنوت المسيحى على طقس ملكيصادق ، وذلك من حيث النقط الآتية :
( 1 ) إنه كهنوت يقدم خبزا وخمرا ، وليس ذبائح حيوانية – التى
أبطلها المسيح بذبيحته ، وأعطانا الرب إصعاد جسده ودمه من خبز وخمر حسب
تقدمة ملكيصادق .
( 2 ) إنه كهنوت ليس عن طريق الوراثة ، فقد كان المسيح من سبط يهوذا وليس من سبط لاوى الذى منه الكهنوت .
( 3 ) كهنوت ملكيصادق أعلى فى الدرجة من الكهنوت الهارونى ؛ وقد شرح معلمنا بولس الرسول هذا الأمر فى ( عب 7 ) .
وقد قيل عن ملكيصادق أنه مشبه بإبن الله … من جهة هذه الأمور التى ذكرناها
، وأيضا يقول عنه الرسول : ” بلا أب بلا أم ، بلا نسب ، لا بداءة أيام له
ولا نهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله ” ( عب 7 : 3 ) .
ولا نأخذ هذه الكلمات بحرفيتها ، وإلا كان ملكيصادق هو الله ، .. بل حتى
من جهة الحرف ، لا نستطيع أن نقول إنه مشبه بأبن الله فى أنه بلا أم ، لأن
المسيح كانت له أم هى العذراء مريم ، ولا نستطيع أن نقول إنه بلا أب ،
فالمسيح له أب هو الآب السماوى .
ويقول الدكتور موريس تاوضروس ، أستاذ العهد الجديد بالكلية
الإكليريكية ، فى تفسيره للآية : ” بلا أب ، بلا أم ، بلا نسب ، لا بداءة
أيام له ولا نهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله ، هذا يبقى كاهنا إلى
الأبد …… يقول :
” …… مما لا شك فيه أن ملكيصادق كان له أب ، وكانت له أم ، وكانت له بداءة أيام ونهاية حياة .
ولا يشار بهذه العبارة ( عبارة معلمنا بولس ) إلى ملكيصادق من حيث تكوينه
الطبيعى ، بل يقصد أن الكتاب المقدس لم يتحدث عن أصل ونسب ملكيصادق لكى
يكون رمزا صادقا للمسيح