الأصحاح التاسع
أعماله الملوكيّة 2
يستعرض معلّمنا متّى الإنجيلي جانبًا من أعماله الملوكيّة:
1. شفاء المفلوج 1-8.
2. دعوة متّى 9-13.
3. مفهوم الصوم 14-17.
4. إقامة الصبيّة 18-26.
5. شفاء أعميين 27-31.
6. شفاء مجنون 32-34.
7. الكرازة في المدن والقرى 35-38.
1. شفاء المفلوج
"فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته" [ع 1].
ما هي مدينته؟
أولاً: من الجانب الروحي يمكن أن نفهم مدينته أي مدينة الله على أنها السماوات، فإن السيّد المسيح بعدما شفى المجنونين أي قدّم الخلاص لليهود والأمم، وإن كان قد رفضه أهل الكورة، أي أهل العالم المحبّين للعالم والمستعبدين للزمنيّات، ركب السفينة التي هي كنيسته المقدّسة ليبحر بها خلال مياه هذا العالم إلى مدينته الإلهيّة، التي هي السماوات، لتستريح هناك في الحضن الإلهي.
ثانيًا: ما هي مدينة الله إلا كنيسته التي يسكن في وسطها، ويُعلن ملكوته الأبدي في داخلها. فعودة السيّد إلى مدينته بعد رفضه في كورة الجرجسيّين إنّما يُشير إلى دخوله في حياة مؤمنيه بعدما رفضه اليهود. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [بطريقة سرّيّة إذ رفضته اليهوديّة عاد إلى مدينته، مدينة الله هي الشعب المؤمن، إذ دخل إليهم بواسطة السفينة، أي خلال الكنيسة[428].]
خلال هذا المفهوم يمكننا أن ندرك سرّ استخدامه السفينة في العبور إليها، فإنه كان قادرًا أن يسير على المياه دون أن يغرق. لكنّه إذ يدرك حاجة السفينة إليه، يتظاهر بحاجته إليها، لكي تقبله فيها، فيستلم قيادتها ويعبر بها إلى الميناء الأبدي بسلام. لقد نزل إلينا يحمل جسدنا لا ليسير على المياه، وإنما ليدخل السفينة كواحدٍ منّا فيقودنا، أمّا سيره على المياه إنّما يستخدمه عند الضرورة ولتأكيد غلبته على العالم الشرّير. لو سار السيّد في كل مرّة على المياه لما تأكّدنا من ناسوته، ولظن البعض خيالاً لا يحمل طبيعتنا، فنُحرم من دخوله إلى السفينة، وتحرم السفينة من قدرتها على الإبحار.
ثالثًا: من الناحية الجغرافيّة فإن مدينته هي كفرناحوم كما يظهر من إنجيل مار مرقس (2: 1)، فقد كانت هذه المدينة هي مركز خدماته وتنقّلاته في تلك المرحلة من خدمته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [مدينته هنا تعني كفرناحوم. لقد استقبلته مدينة في ميلاده هي بيت لحم، ثم أخرى فيما بعد هي الناصرة، فثالثة استقبلته كمواطن فيها هي كفرناحوم[429].] لقد قبل في ميلاده بيت لحم أي بيت الخبز كموضع ميلاده، مقدّمًا نفسه خبزًا لكل جائع، يأتي إليه فيها البسطاء كالرعاة، والحكماء المتواضعين كالمجوس، اليهود كما الأمم. وبعد عودته من مصر يتقبّل الناصرة، أي الغصن أو المحتقر كموطن له، حتى يلتقي به كل من يقبل الاتّحاد معه كغصن في الكرمة (يو 15: 2)، وأخيرًا يقبل كفرناحوم موطنًا له، أي كفر التعزية، أو النياح, الموضع الذي فيه تجد كل نفس تعزيتها وراحتها بروحه القدّوس المعزّي.
العجيب أن الابن الكلمة الذي به كان كل شيء، إذ قبل إنسانيّتنا اشترك معنا في كل شيء ما عدا الخطيّة، فقبِل أن تكون له مدينته أو وطنه، مقدّسًا بهذا حق "المواطنة"، فيلتزم كل مسيحي بالأمانة نحو وطنه، مقدّمًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كأن اتّساع قلبه لكل البشريّة إنّما يكمّله التزامه بواجباته الوطنية.
ماذا يفعل السيّد في مدينته؟
"وإذا مفلوج يقدّمونه إليه مطروحًا على فراش.
فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج:
ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2].
دخل السيّد إلى مدينته، أي إلى شعبهن لكي يشفي فالج نفوسهم الداخلي، واهبًا الصحّة لنفوسهم التي فقدت كل حيويّتها، وعندئذ يشفى أجسادهم من الفالج الظاهري. هذا ما صنعه السيّد ويصنعه في كل جيل، فخلال قيامته وهب نفوسنا – بالإيمان - الحياة الجديدة، فتخرج من مياه المعموديّة مقامة معه تنعم بالميلاد الروحي الجديد، خلال هذه القيامة الداخليّة نسلك في رجاء ننتظر فداء أجسادنا، كقول الرسول: "نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا، نئن في أنفسنا، متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا، لأننا بالرجاء خلصنا" (رو 8: 23-24). نلنا فيه قيامة النفس لندخل ملكوته الألفي الذي نحياه الآن، منتظرين قيامة أجسادنا في يوم الرب العظيم إلى سماواته، فنراه وجهًا لوجه ونحيا معه بلا تغرّب.
يُعلّق القدّيس جيروم على اهتمام السيّد بالنفس قائلاً: [في هذا نجد مثالاً للنفس المريضة الراقدة في جسدها وقد خارت قواها، وها هي تُقدّم للرب الطبيب الكامل واهبًا إيّاها الشفاء[430].]
ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه في هذه المعجزة صورة حيّة لعمل السيّد المسيح داخل الكنيسة إذ يغفر الخطايا واهبًا النفس الشفاء متمتّعة بالبنوّة لله، إذ يدعوه "يا بنيّ"، الأمر الذي عجز عنه الناموس، كما يقول القدّيس: [في المفلوج أُحضر إليه كل الأمم لينالوا الشفاء... لقد دعاه "يا بنيّ" لأنه عمل الله. لقد غفر له خطاياه، الأمر الذي لم يستطع أن يفعله الناموس، إذ بالإيمان وحده (لا الناموس) يتبرّر. إنه يُعلن قوّة القيامة بحمله السرّير ليعلِّم بأن في السماء ستكون الأجساد بلا ضعفات[431].]
لقد لفت أنظار آباء الكنيسة في هذه المعجزة اهتمام الإنجيليّين بالكشف عن فاعلية حياة الشركة الروحيّة، فيستند المؤمن على إخوته في المسيح يسوع ربّنا، كما يسند هو الآخرين، ويعيش الكل كبناء واحد متكامل يرتكز على "المسيح يسوع" حجر الزاوية.
لقد حمل المؤمنون المفلوج، وشفاه الرب من أجل إيمانهم، إذ يقول الإنجيلي: "فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2]. ما أحوجنا أن نُحمل بإيمان الآخرين، ونحمل نحن الآخرين بإيماننا!
v ليتنا أول كل شيء نردّد ما سبق فقلناه، إنه إن كان أحد مريضًا فليطلب صلوات الآخرين حتى يردُّوه إلى الصحّة (مت 9: 2)، فخلال شفاعتهم يُردْ هيئة جسدنا الواهن، أي خطوات أعمالنا المتردّدة إلى الصحّة، بعلاج الكلمة السماوي. ليتهم يسندوا النفس حتى تقوم، هذه الملقاة بلا حراك في ضعف الجسد الخارجي، فإنه خلال معونتهم يحمل الإنسان كلّه ويدُلى في حضرة يسوع، فيتأهّل لأن يكون موضع رؤية يسوع.
v هل فقدت الثقة بسبب خطاياك الخطيرة؟ أطلب صلوات الآخرين! استدع الكنيسة فتصلّي عنك، فإن الرب يتطلّع إليها ويهبك ما يرفضه بالنسبة لك.
القدّيس أمبروسيوس[432]
إن قارنّا بين شفاء هذا المفلوج وشفاء مفلوج بيت حسدا (يو 5)، نجد أن السيّد المسيح هنا ينتظر في البيت، لا لكي يدخل به أحباؤه، وإنما لكي ينقبوا أيضًا السقف ويدلّوه، أمّا الآخر فذهب السيّد نفسه إليه يسأله إن كان يريد أن يبرأ. هذا المفلوج شُفيت نفسه أولاً من الخطيّة، وعندئذ حمل سريره ومشى، أمّا الآخر فشُفى جسده أولاً، وبعد ذلك التقى به ليطالبه ألا يخطئ بعد. فهل لدى الله محاباة، يعامل إنسانًا بطريقة، والآخر بطريقة أخرى؟ إنه بلا شك الأب محب البشر الذي يعرف أن يقدّم لكل ابن ما هو لبنيانه، فهو لا يميّز بين البشر، إنّما يميّز في الوسيلة بما يناسب كل أحد. فالمفلوج هنا له أصدقاؤه الذين يحبّوه ويقدرون أن يحملوه بعدما أخبروه عن أعمال المسيّا التي انتشرت. لهذا انتظرهم السيّد ليحملوا فيهم الروح الكنسيّة الجماعيّة، وينالوا إكليل الحب الجماعي. وبدأ بشفاء نفسه، لأن المريض يدرك الكثير عن المسيح وأعماله، فأراد أن يوجّهه إلى شفاء الفالج الداخلي. أمّا مفلوج بيت حسدا فله ثمانية وثلاثون عامًا في المرض، ليس له من يسنده ولا من يعينه، تحطّمت نفسه. فهو محتاج إلى مجيء السيّد بنفسه إليه، وشفاء جسده أولاً عندئذ يوجّهه إلى حياته الداخليّة[433].
مقاومة الكتبة
إن كان المؤمنون يحملون بعضهم البعض، ويسندون بعضهم البعض لكي ينعم الكل بالحضرة الإلهيّة، ويتمتّع المريض بشفاء النفس والجسد، كما فعل حاملو المفلوج، فإنه يوجد أيضًا من هم بالكبرياء يحطّمون غيرهم. كان يلزم للكتبة أن يحملوا المفلوج للسيّد، لأنهم مؤتمنون على الشريعة التي غايتها الدخول بالنفوس المصابة بالفالج إلى المسيّا المخلّص، لكنهم عِوض أن يكرزوا لاخوتهم ويشهدوا للمسيح فينالوا الشفاء، صاروا ناقدين يشوّهون الحق ويقاومون العمل الإلهي. صاروا يجدّفون على السيّد في أفكارهم، لكن السيّد لم يتركهم في شرّهم، ولا تجاهل خلاصهم، إنّما في رقة وبّخهم، لا ليفحمهم، وإنما بالأحرى لكي ينقذ أفكارهم من التجديف المهلك، قائلاً لهم: "لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم. أيّهما أيسر: أن يقال لك مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وأمش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك" [4-6]. لقد أكّد لهم أنه الله العالم بالأفكار، فكشف لهم ما بداخلهم، وأكّد لهم أنه غافر الخطايا بطريقة ملموسة تناسب فكرهم المادي بشفائه المفلوج فورًا. لقد غفر للمفلوج خطاياه، وهاهو يفتح الباب لهم كي ينعموا هم بما ناله.
حمل السرير
بلا شك لحمل السرّير ذكريات مرّة عند المفلوج، فقد نام عليه سنوات طويلة يئن من المرض والحرمان؛ كان يمثّل القيد الذي ارتبط به زمانًا طويلاً أفقده بهجة الحياة وحيويّتها. حمْل السرّير إنّما يُشير إلى تذكُّر الخطايا الماضية فيقدّم الإنسان شكره الدائم لله واهب الحياة. حمْل السرّير يسند النفس فلا تسقط في الكبرياء، إذ تذكر سنوات العبوديّة المرة للمرض.
يرى القدّيس أمبروسيوس في حمْل هذا السرّير صورة رمزيّة لقيامة الجسد، فبعدما كانت النفس تحمل الجسد كسرير ألم مرّ، يصير في القيامة سرّ بهجة دائمًا لا يتعرّض بعد لتجربة أو ألم، إذ يقول: [ماذا يعني هذا السرّير الذي طُلب منه أن يحمله، إلا أن يقدّم جسده البشري؟ هذا هو السرّير الذي كان داود يغسله كل ليلة كما نقرأ: "أغسل سريري، أغسل فراشي بدموعي" (مز 6: 7). هذا هو سرير الألم الذي تضطجع فيه نفسنا المريضة بعذاب الضمير الخطير. لكن إن حمَل أحد هذا السرّير بوصايا المسيح لا يعود بعد سريرًا للألم بل للراحة. فما كان قبلاً موتًا بدأ الآن يصير للراحة، وذلك بفعل مراحم الرب التي غيرّت نوم موتنا إلى نعمة بهجة الرب[434].]
العودة إلى بيته
أمَره السيّد: "اذهب إلى بيتك" [6]، يؤكّد الإنجيلي أنه مضى إلى بيته، فما هو هذا البيت الذي حُرم منه المفلوج طوال هذا الزمان من مرضه؟
لقد حرمت الخطيّة الإنسان من بيته الأول، أي الفردوس، فخرج منه يحمل أثقال المرارة، ويدب فيه الموت الأبدي، وقد بقيَ في الناموس الطبيعي فالموسوي كمن هو متغرّب في الشوارع، عاجز عن العودة إلى حياته الفردوسية الأولى، والراحة في البيت الذي أقامه له الرب نفسه. نستطيع أيضًا أن نقول بأنه بيته الحقيقي هو "الله" نفسه، ففيه وحده يستريح الإنسان كمن في حضن أبيه، وإذ صار بالخطيّة في عداوة مع أبيه جاء الابن الوحيد إلينا، وحملنا فيه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه أولادا لله. هذه هي العودة إلى بيتنا الأول!
v لم يأمره فقط أن يحمل سريره، وإنما أن يعود أيضًا إلى بيته، أي أخبره أن يعود إلى الفردوس، فإن هذا هو بيت الإنسان الحقيقي، الذي استقبله أولاً، هذا الذي فقده ليس خلال الناموس وإنما خلال الضلال. حقًا لقد أُعيد إلى بيته، إذ جاء من هو بالحق يحطم الضلال ويعيد الحق[435].
القدّيس أمبروسيوس
v خُلق الإنسان لكي يتطلّع إلى خالقه، ويسكن في جماله، ويحيا في فرح محبّته، لكن بالعصيان فقد مسكنه وصار يتجوّل في الطرق المظلمة، وذهب بعيدًا عن مسكن النور الحقيقي.
v الخالق نفسه هو موضع الإنسان، لكن ليس كمكان، فقد جبله ليسكن فيه. وإذ أعطى الإنسان أُذنه للمجرِّب هجر مسكنه، هجر حب الخالق. لكي يخلّصنا القدير ظهر لنا جسديًا، وإن أمكنني القول، أنه اقتفى أثر الإنسان الذي هرب منه وجاء به إليه كموضع يُحفظ فيه الإنسان المفقود.
الأب غريغوريوس (الكبير)[436]
2. دعوة متّى
يروي لنا الإنجيلي متّى قصة دعوته لتبعيّة المسيح في كلمات مختصرة: "وفيما يسوع مجتاز من هناك، رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متّى، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه" [9].
كان متّى (لاوي) جالسًا عند مكان الجباية وكان قلبه وكل أحاسيسه وأفكاره قد اِمتُصِّت بالكامل في أمور هذه الحياة وغناها. وكان الأمر يحتاج إلى كلمة من السيّد المسيح: "اتبعني"، قادرة أن تفك رباطاته وتسحب قلبه إلى السماويات، دون تردّد، وبغير حاجة إلى مشورة عائلته أو أصدقائه.
لحق الإنجيلي دعوته باجتماع السيّد بالعشّارين والخطاة، أو كما يقول الإنجيلي لوقا: "صنع له ضيافة كبيرة في بيته، والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشّارين وآخرين" (لو 5: 29).
حقًا إذ يتقبّل الإنسان نعمة الله الغنيّة يتبرّر القلب من مكان الجباية حيث دفاتر الحسابات والخزائن المكدّسة بالمال، لا ليعيش في عوزٍ، وإنما ليتقبّل السيّد المسيح نفسه سرّ شبعه وغناه. يقول الرسول بولس: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه" (1 كو 1: 5). يتحوّل القلب الذي كان مسرحًا للهم والقلق إلى ضيافة عظيمة ووليمة يقيمها السيّد المسيح نفسه، ليكون على رأس المتّكئين، يهبهم ذاته سرّ غناهم. وعِوض البرّيّة التي كانت سِمة القلب الخاطيء، يصير فينا فردوس الله المملوء من ثمر الروح القدس. يفرح السيّد نفسه بهذه الوليمة فيترنّم قائلاً: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
في الظاهر صنع متّى الوليمة، لكن بالحق هي وليمة السيّد الذي يفرح بجنّته المثمرة في قلوب طالبيه، فيدعوا الخطاة والعشّارين ليذوقوا هذا الثمر المفرح، ويقتدوا بمن نال هذه النعم!
لقد أعلن السيّد أننا لا نصوم مادام العريس حال في وسطنا، وكأنه يسألنا إذ نحمله فينا أن نفتح قلوبنا بالحب ليأكل من ثمره المقدّس فينا وندعو الآخرين يأكلون معه، قائلين: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!"... إننا ندعوهم لينعموا بالوليمة الداخليّة التي أقامها الرب بروحه القدّوس فينا، هذه التي تسبّب تذمُّرًا بين الكتبة والفرّيسيّين، قائلين: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ فيجيبهم: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" [12].
يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على صنع الوليمة، قائلاً:
[عندما ترك مكان الجباية تبع المسيح بقلبٍ ملتهبٍ، ثم صنع له وليمة عظيمة. فمن يقبل المسيح في قلبه يمتلئ بالأطاييب الكثيرة والسعادة الفائقة، ويود الرب نفسه أن يدخل في قلب المؤمن ويستريح!...
كل من يقبل جمال الفضيلة، ويقبل المسيح في بيته، يصنع له وليمة عظيمة أي وليمة سماويّة من الأعمال الصالحة، هذه التي يحرم منها جماعة الأغنياء ويشبع منها الفقير[437].]
هذه الوليمة يدخلها الخطاة والعشّارون الذين يشعرون بالحاجة إلى المخلّص لكي يبرّرهم، بينما يقف الفرّيسيّون خارجًا ينتقدون السيّد على محبّته المتّسعة لهم، لذلك أكّد لهم السيّد: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى... لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة".
يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي، قائلاً: [لو لم يحب الله الخطاة ما كان قد نزل من السماء إلى الأرض[438].]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [إنه لا يدعو من يدعون أنفسهم أبرارًا، فإنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يُثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله (رو 10: 3). من يدعون أنفسهم أبرارًا لا تقترب إليهم النعمة. فإن كانت التوبة هي بداية النعمة فمن الواضح أن احتقار التوبة هو تخلي عن النعمة[439].]
نختم حديثنا عن دعوة متّى الإنجيلي بالمناجاة التي ينطق بها القدّيس أمبروسيوس على لسانه بعد تركه موضع الجباية وتبعيّته للسيّد المسيح:
[لست بعد عشّارًا، فقد تبررت من أن أكون لاويًا!
لقد خلعت عنّي لاوي، ولبست المسيح!
كرهت أسْري، وهربت من حياتي الأولى!
إني لا أتبع آخر سواك أيها الرب يسوع! يا من تشفي جراحاتي!
من سيفصلني عن محبّة الله التي فيك؟ أشدة أم ضيق أم جوع؟ (رو 8: 35).
تُسمّرني فيك بمسامير الإيمان، وتربطني بك قيود الحب الصالحة!
وصاياك هي أداة الكيّ التي سأحتفظ بها على جرحي، إنها الوصيّة التي تحرق الموت الذي في الجسد، حتى لا تنتقل العدوى إلى الأعضاء الحيّة، إنه دواء مؤلم يحمي من عفونة الجرح!
أيها الرب يسوع، اقطع بسيفك القوي عفونة خطاياي، وقيّدني برباطات الحب، نازعًا كل فساد فيّ!
أسرع وتعال لتفضح الشهوات الخفيّة والمتنوّعة!
اكشف الجرح فلا تزداد عفونته!
طهّر كل فساد بحميم الميلاد الجديد[440].]
3. مفهوم الصوم
"حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين:
لماذا نصوم نحن والفرّيسيّون كثيرًا،
وأما تلاميذك فلا يصومون؟" [14].
جاءت إجابة السيّد تكشف عن مفهوم الصوم بمنظار جديد، إذ قال:
أولاً: "هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" [15].
كأن الصوم ليس مجرّد واجب يلتزم به المؤمنون، إنّما هو عمل خاص ببني العرس الذين يصومون كمعين لهم في حياة الندامة (النوح) والتوبة، أي ليس كغاية في ذاته، وإنما من أجل الدخول إلى العريس والتمتّع بالعرس خلال التوبة. فإن كان العريس نفسه حاضرًا في وسطهم فما الحاجة إلى الصوم؟ إنه سيرتفع عنهم جسديًا فتمارس، الكنيسة صومها لتتهيّأ لمجيئه الأخير فتلتقي معه في العرس الأبدي. مادام العريس مرفوعًا لا نراه حسب الجسد، وجهًا لوجه، فيلزمنا أن نصوم لا عن الطعام فحسب، وإنما عن كل لذّة وترف من أجل طعام أفضل سماوي ولذّة روحيّة أبديّة وأمجاد علويّة هي في جوهرها تمتّع بالعريس نفسه.
ثانيًا: "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا" [16-17].
ماذا يعني السيّد بهذا القول؟ وما هو ارتباطه بالصوم؟
إنه يؤكّد أنه بحلوله وسط البشريّة إنّما أراد تقديم حياة جديدة يعيشها المؤمنون به، لها سماتها الجديدة وطبيعتها الجديدة وإمكانيّاتها الجديدة، فلا تُمارس العبادة بالمفهوم القديم الذي ارتبط بذهن الكثيرين. فالسيّد لا يقبل فكرة الإصلاح عن طريق "الترقيع" بين ما هو قديم وما هو جديد، وإنما بهدم الحرفيّة القاتلة القديمة لبناء الفكر الروحي الجديد. بهذا يصير الصوم سرّ انطلاق للنفس بالروح القدس لتمارس الحياة العرسيّة المفرحة.
ما أحوجنا أن نلبس الثوب الجديد عِوض وضع رقعة جديدة في ثوب قديم، وأن يكون لنا الزقاق الجديد إنّما هو ثوب المعموديّة الأبيض، الطبيعة الجديدة التي توهب لنا خلال تمتّعنا بالقيامة مع مسيحنا بروحه القدّوس، والزقاق الجديد هو إنساننا الجديد الذي يتقبّل خمر الروح القدس المجدّد لحياتنا على الدوام.
v لنحتفظ بالثوب (الجديد) الذي ألبسنا إيّاه الرب في المعموديّة. ولكن ما أسهل تمزيق هذا الثوب إن كانت أعمالنا لا تتّفق مع نقاوته، سرعان ما يفسده سوس الجسد وينجّسه ضلال الإنسان العتيق. لهذا يمنعنا الرب من الخلط بين الجديد والقديم، يحرم الرسول ارتداء الثوب الجديد فوق العتيق، إنّما نخلع العتيق ونلبس الجديد فلا نوجد عراة (كو 5: 2-4 )؛ فإنّنا نكون هكذا عراة إن سلب مكر إبليس رداءنا[441].
القدّيس أمبروسيوس
4. إقامة الصبيّة
جاءت قصة إقامة ابنة يايرس مرتبطة بشفاء نازفة الدم بأكثر تفصيل في إنجيل معلّمنا لوقا البشير (8: 41-56). لقد تقدّم يايرس رئيس المجمع إلى السيّد، ووقع عند قدميه، يسأله أن يدخل بيته، لأن ابنته كانت في حالة موت.
حقًا لقد أظهر يايرس رئيس المجمع اليهودي إيمانا بالسيّد، لكن قائد المائة الأممي غلبة في إيمانه (مت 8: 5-13)، إذ لم يسأله أن يحضر إلى بيته ولا أن يمد يده على غلامه ليشفيه، وإنما قال: "قل كلمة"، أمّا رئيس المجمع اليهودي فقال: "تعال وضع يدك عليها، فتحيا". حقًا إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب بإيمان أعظم ممّا لبني الملكوت!
في الطريق قبل أن يسمع أن ابنته ماتت (لو 8: 49). سمح الرب بشفاء نازفة الدم ليرى بعينيّه ويلمس عمله الإلهي فلا يشك.
إن عُدنا إلى الكتاب المقدّس نجده يروي لنا ثلاث معجزات خاصة بإقامة السيّد المسيح للموتى، تمثل عمله الإلهي في إقامتنا من موت الخطيّة... هذه المعجزات هي:
أولاً: إقامة ابنة يايرس وهي بعد صبيّة صغيرة، لم تُرفع بعد عن سرير الموت في بيت أبيها، تُشير إلى النفس التي ماتت بالخطيّة خلال الفكر الخفي في الداخل، وهي تحتاج أن يدخل السيّد إلى بيتها "قلبها"، ويلمس يدها فتقوم.
ثانيًا: إقامة الشاب ابن الأرملة، وكان قد حُمل في النعش إلى الطريق، يمثّل النفس التي عاشت في الخطيّة ليس خلال الفكر فقط، وإنما ظهرت أيضًا خلال العمل، فخرجت من البيت إلى الطريق كما في نعش، تحتاج إلى أن يوقِف الله حاملي النعش، ويأمر الشاب أن يقوم ثم يدفعه إلى أمه. إنها تحتاج إلى تدخّل الله للتوقّف عن التحرّك نحو قبر الخطايا، فلا يكمّل الشرّير طريق شرّه، حتى لا تتحوّل الخطيّة فيه إلى عادة، إنّما يسمع الصوت الإلهي يناديه ليهبه روح القيامة ويدفعه إلى الكنيسة أمه.
ثالثًا: إقامة لعازر بعدما دفن في القبر أربعة أيام وحدث تعفُّن للجسد، إشارة إلى من تحوّلت الخطيّة في حياته إلى عادة، ارتبطت به وهو ارتبط بها، فصار كأنه والخطيّة أمر واحد. لقد انزعج السيّد وبكى وأمر برفع الحجر، ثم نادى لعازر أن يخرج، وطلب ممّن حوله أن يحلّوه من الرباطات! مثل هذه النفوس يبكيها السيّد نفسه، ويذهب إلى قبرها، ويأمر برفع حجر القسوة، وبكلمة فمه يقيمها ويخرجها من قبر الخطيّة، طالبًا من الكهنة أن يحلّوها من رباطاتها.
إن عدنا إلى إقامة الصبيّة نجد السيّد يقول: "تنحّوا، فإن الصبيّة لم تمت لكنها نائمة" [24]، وكأنه كان يشجّع تلاميذه على قبول الموت بلا انزعاج كمن يدخل إلى النوم ليستريح.
v حقًا عندما جاء المسيح صار الموت نومًا!
v إن كنت تحب الراحل يلزمك أن تفرح وتسر أنه قد خلُص من الموت الحاضر.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم[442]
أما بخصوص شفاء نازفة الدم بلمسها هدب ثوب السيّد خفية، فقد أعلن السيّد أمرها، ويقدّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم التعليلات التالية لتصرُّف السيّد:
أولاً: ليضع نهاية لمخاوف المرأة، لئلا تتألّم إذ ينخسها ضميرها أنها نالت العطيّة خلسة.
ثانيًا: أنه حسبها على حق أن تخفي فكرها.
ثالثًا: أعلن إيمانها للكل، ليحثّ البقيّة على الاقتداء بها، فإن وقفِه لينبوع دمها ليس بعلامة أعظم ممّا أظهره أنه يعرف كل الأمور (يعرف فكرها وإيمانها وتلامسها الخفي معه).
علاوة على هذا كان رئيس المجمع في طريقه إلى الدخول إلى عدم الإيمان وهلاكه تمامًا، فجاءت هذه المرأة لتصلح من شأنه. لقد جاءوا إليه قائلين: "قد ماتت ابنتك، لا تُتعب المعلّم" (لو 8: 49)، والذين كانوا في البيت ضحكوا عليه ساخرين به عندما قال أنها نائمة، وكان يمكن أن يكون للأب نفس هذه المشاعر، لهذا قدّم له هذه المرأة البسيطة ليُصحّح من ضعفه مقدّمًا[443].
بين كنيسة الأمم وكنيسة اليهود
ارتباط شفاء نازفة الدم بإقامة ابنة يايرس رئيس المجمع اليهودي إنّما يُشير إلى التقاء الأمم كما اليهود بالسيّد المسيح كطبيب النفوس وواهب الحياة؛ ويلاحظ في هاتين المعجزتين:
أولاً: كان عمر الصبية التي ماتت وقد استدعى والدها السيّد المسيح لإقامتها اثني عشر سنة إشارة إلى جماعة اليهود الذين ينتسبون إلى اثني عشر سبطًا، وقد سقطوا تحت الموت، فانطلق الناموس كقائد لهم يُعلن الحاجة إلى مجيء المسيّا ليقيمهم. وقد جاء السيّد إلى بيتها، لأن المسيّا وُلد بين اليهود كواحد منهم. أمّا نازفة الدم فقد عاشت اثنتي عشرة عامًا في حالة نزف دم إشارة إلى قضاء كل زمانها السابق في نجاسة الخطيّة التي استنزفت حياتها. إنها اِلتقت بالسيّد في الطريق ولم يدخل السيّد بيتها، فإن السيّد لم يأتِ بالجسد من الأمم، ولا حلّ جسديًا في وسطهم، إنّما اِلتقى بهم كما في الطريق.
v يُفهِّم هذا الرئيس بكونه الناموس الذي يسأل الرب أن يهب حياة للشعب الميّت، هذا الناموس الذي بشَّر بالتطلّع إلى مجيء الرب[444].
v يذهب الرب إلى بيت الرئيس كما إلى المجمع، الذي منه تخرج الأصوات كما من نحيب من ترنيمات الناموس.
الأب هيلاري أسقف بواتييه
v نقول بأن المرأة (نازفة الدم) تمثل الكنيسة الخارجة من الأمم. إذ كان الرب في طريقه لإقامة ابنة رئيس المجمع، هذه التي تمثل الشعب اليهودي، إذ جاء الرب من أجل اليهود وحدهم، قائلاً: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). إذن كما جاء إلى ابنة رئيس المجمع، فجأة لا أعرف من أين جاءت هذه المرأة ولمست بإيمان الرب، قائلة: "إن مسست هُدب ثوبه فقط شُفيت"، وقد لمست وشفيت.
إذن عانت هذه المرأة من نزف الدم... وأنفقت كل معيشتها على الأطباء (لو 8: 43). إنها تشبه كنيسة (جماعة) الأمم البائسة التي طلبت السعادة، وسألت عن مصدر القوّة، بكل وسائل الشفاء. أي شيء عندها لم تنفقه على الأطباء الباطلين من الفلكيّين والمنجّمين ومفسدي الهياكل؟! لقد وعدها هؤلاء جميعًا بالشفاء لكنهم لم يقدروا، إذ لا يملكونه. لقد أنفقت كل ما عندها ولم تشفى. لذلك قالت: "إن مسست هدب ثوبه فقط شفيت". لقد لمست وشفيت.
لنسأل ما هو هدب ثوبه؟... لنفهم أن الرسل هم ثوب الرب الملاصقون له. اسأل من هو الرسول الذي أُرسل للأمم؛ تجده بولس الرسول، إذ كانت أعظم أعماله الرسوليّة بين الأمم... إنه هدب ثوب الرب، إذ كان آخر الرسل. هل يوجد أحد يُحسب كآخر هذا الثوب والأقل؟ يقول الرسول أنه كان هكذا: "آخر الكل، لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 8-9).
لنلمسه نحن أيضًا، أي لنؤمن فنشفَى!
v أي شيء تمثله هذه المرأة؟ كنيسة الأمم التي نالت الشفاء التي لم تشاهد المسيح بالجسد، والتي أشار إليها المزمور: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي، من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 43-44). لقد سمع العالم كلّه عنه وآمن به، أمّا اليهوديّة فرأته وصلبته أولاً، وبعد ذلك سيأتون إليه. سيؤمن اليهود به في نهاية العالم.
القدّيس أغسطينوس
5. شفاء أعميين
"وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان:
ارحمنا يا ابن داود.
ولما جاء إلى البيت تقدّم إليه الأعميان،
فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟
قالا له: نعم يا سيّد.
حينئذ لمس أعينهما، قائلاً: بحسب إيمانكم ليكن لكما.
فانفتحت أعينهما" [27-30].
كان العالم في ذلك الحين وقد انقسم إلى يهود وأمم قد أُصيب كلّه بالعَمي الروحي، فقدَ اليهود بصيرتهم الداخليّة بسبب كبرياء قلبهم وحرفيّة إدراكهم للناموس وانجذابهم إلى الرجاسات الوثنيّة، وفقد الأمم أيضًا بصيرتهم بسبب العبادة الوثنيّة. وكأن هذين الأعميين اللذين كانا يصرخان: ارحمنا يا ابن داود يمثّلان العالم كله، يهودًا وأممًا، يُعلن عوزه إلى المسيّا المخلّص ابن داود لكي يعيد إليه بصيرته الروحيّة. وقد جاء السيّد إلى "البيت"، أي إلى مسكننا؛ جاء إلينا في الجسد حتى نستطيع أن نتقدّم إليه، ويمكننا أن نتقبّل لمسات يده الإلهيّة على أعيننا الداخليّة. فالبيت هنا إنّما يُشير إلى التجسّد الذي بدونه ما كان يمكننا التلامس مع ابن الله، والتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، ليهب لأعيننا نوره، فتعاين النور.
جاءنا ابن الله متجسّدًا، معلنًا مبادرته بالحب. لكنّه يسأل: أتؤمنان إني أقدر أن أفعل هذا؟ بالإيمان يحلّ في قلوبنا (أف 3: 17)، فتنفتح بصيرتنا من يوم إلى يوم لمعاينة الأسرار خلال تمتّعنا بها فيه.
إن كنّا بسبب الخطيّة انطمست أعيننا من معاينة النور، فانحرفنا عن الطريق، وصرنا نتخبّط في الظلمة، فقد صرخت البشريّة على لسان المرتّل: "أرسل نورك وحقّك، هما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك وإلى مساكنك" (مز 43: 3). وقد جاءنا من هو "نور العالم" (يو 8: 12) معلنًا: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة"، "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). جاءنا الملتحف بالنور كثوب (مز 104: 2)، الذي ليس فيه ظلمة البتة (1 يو 1: 5)، يشرق في الظلمة بنوره (إش 58: 10)، نلبسه فنصير أبناء نور وأبناء نهار (1 تس 5:5)، بل نصير به نورًا للعالم (مت 5: 14).
يصرخ القدّيس أغسطينوس في مناجاة نفسه مع الله قائلاً:
[إلهي... أنت نوري. افتح عينيّ فتعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثّر في فخاخ العدوّ!
حقًا، كيف يمكنني أن أتجنّب فخاخه ما لم أراها؟
وكيف أقدر أن أراها إن لم أستنر بنورك؟
ففي وسط الظلمة يخفي "أب كل ظلمة" هذه الفخاخ، حتى يصطاد كل من يعيش في الظلمة. هذا العدوّ الذي يودّ أن يكون أبناؤه محرومين من نورك ومن سلامك الكامل...
ما هو النور إلا أنت يا إلهي!
أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيء لأولادك حتى لا يتعثّروا...
يا نور نفسي، لا تتوقّف قط عن إنارة خطواتي![445]]
القدّيس أغسطينوس
v أيها النور الحقيقي الذي تمتّع به طوبيا عند تعليمه ابنه، مع أنه كان أعمى! أيها النور الذي جعل اسحق - فاقد البصر - يُعلن بالروح لابنه عن مستقبله!...
أنت هو النور الذي أنار عقل يعقوب، فكشف لأولاده عن الأمور المختلفة!...
أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور، فكان نور". قل هذه العبارة الآن أيضًا، حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميّزه عن غيره من النور. فبدونك كيف أقدر أن أميّز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!
نعم... خارج ضيائك، تهرب الحقيقة منّي، ويقترب الخطأ إليّ، ويملأني الزهو... ويصير فيّ الارتباك عِوض التمييز، يصير لي الجهل عِوض المعرفة، والعَمى عِوض البصيرة![446]
القدّيس أغسطينوس
وفي دراستنا للمعموديّة رأيناها "سرّ الاستنارة"، حيث نخلع الإنسان القديم بظلمته لنلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا، فنحمل فينا مسيحنا سرّ استنارتنا، ويكون روحه القدّوس واهبًا لنا إمكانيّة التقديس التي بدونها لا نقدر أن نُعاين الله[447].
يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها[448].]
نعود إلى الأعميين اللذين شفاهما السيّد، إذ يقول الإنجيلي: "انتهرهما يسوع قائلاً: انظرا لا يُعلما أحد، ولكنّهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" [31]. لقد قدّم لنا السيّد درسًا في التواضع، فمن أجل محبّته لهما شفاهما حتى يبعث فينا روح الحب الخفي وعدم طلب المجد الباطل.
لم يخالف الأعميان أمرًا إلهيًّا حين أشاعا الخبر، فإن قوله: "أنظرا لا يُعلما أحد" لم يكن وصيّة يلزمهما بها، وإنما هو حديث حبّي فيه يُعلن عدم طَلبه مجد العالم مقابل محبّته، أمّا هما فردّا الحب بالحب خلال الشهادة له. لقد استنارت أعينهما فاشتهيا أن يتمجّد الطبيب السماوي بتفتيح أعين الكل، ليعاينوا ما يعايناه هما!
من يرى النور لا يقدر أن ينظر إخوته سالكين في الظلمة بل يدعوهم إلى النور الذي ينعم به، كما فعلت المرأة السامريّة حيث تركت جرّتها وخرجت إلى مدينتها تقول للناس: "هلمّوا، انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟" (يو4: 29). وفي حديث للقدّيس يوحنا الذهبي الفم مع المواظبين على اجتماعات الكنيسة والمشتركين فيها يقول: [علِّموا الذين هم من خارج أنكم في صحبة طغمة السيرافيم، محسوبين مع السمائيّين، معدِّين في صفوف الملائكة، حيث تتحدّثون مع الرب، وتكونون في صحبة السيّد المسيح[449].]
6. شفاء مجنون
قُدّم للسيّد المسيح إنسان أخرس مجنون، "فلما أخرج الشيطان تكلّم الأخرس، فتعجّب الجموع قائلين: لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل. أمّا الفرّيسيّون فقالوا برئيس الشيّاطين يخرج الشيّاطين" [33-34].
لا يمكن للبشريّة الصامتة زمانًا هذا مقداره أن تتحدّث مع خاِلقها، ولا أن تسبّحه داخليًا وتشكره، حتى وإن سبَّحته بالفم واللسان، فقد صمت اللسان الداخلي عن الحديث السرّي الخفي مع الخالق، بسبب العداوة التي نشأت كثمرة طبيعيّة للخطيّة، فصارت كمن يسكنها شيطان أخرس. لهذا جاء السيّد المسيح طاردًا روح الشرّ والخطيّة، فينطق لسانها الداخلي بالحمد والتسبيح، وتصير طبيعتها شاكرة عِوض الجحود القديم.
لقد أدركت الجموع البسيطة عمل السيّد المسيح كمخلّص بينما تعثّر أصحاب المعرفة النظريّة، الفرّيسيّون، بسبب كبرياء قلبهم وتعبُّدهم لذواتهم فرأوا فيه كرئيس للشيّاطين لا كمخلّص من الشيّاطين!
بينما جاء السيّد المسيح يفتح أعين العميان لكي تبصر بالإيمان ملكوت السماوات في القلب انفضح عمى القيادات الدينيّة المتعجرفة، انكشف الفرّيسيّون العارفون بالكتب المقدّسة كجهلاء يرفضون المخلّص ويتّهمونه برئيس الشيّاطين. أمّا سرّ عَمى بصيرتهم فهو تركهم للعمل الرعوي الحق ليرعوا كرامتهم وبطونهم وخزائنهم عِوض رعايتّهم لشعب الله، فحلّت "الأنا" عِوض "الله نفسه"، هؤلاء يقول عنهم الرسول: "يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح" (في 2: 21)، ويعاتبهم الله في مرارة، قائلاً: "ألا يرعى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم وتلبسون الصوف، وتذبحون السمين، ولا ترعون الغنم! المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لا تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلّطتم عليه... أيها الرعاة غنمي صار غنيمة!" (حز 34: 2-.
مثل هؤلاء الرعاة العميان يقودون العميان فيسقط الكل في حفرة (مت 15: 14)، وبدلاً من أن يصير قلبهم سماءً مقدّسة، ومسكنًا لله، يرتفعون بالشعب من مجدٍ إلى مجدٍ، إذ بقلبهم يلتصق بالتراب وينحدرون بالشعب من هوانٍ إلى هوانٍ حتى يبلغون بهم إلى أعماق الهاوية.
7. الكرازة في المدن والقرى
إذ فسد الرعاة الروحيّون يلتزم الله نفسه من أجل محبّته للنفس البشريّة أن يفتقد شعبه، يقول الإنجيلي: "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، إذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها" [36]. وفي سفر حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (حز 34: 11)، فإنه ليس شيء أثمن لدى الله من النفس البشريّة التي أوجدها على صورته ومثاله. جاء إلينا بنفسه بكونه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11).
الأصحاح العاشر
سفراء الملك
اختار السيّد المسيح تلاميذه ورسله كسفراء عنه، يعملون بروحه القدّوس، ليحقّقوا ملكوته فينا.
1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا 1-4.
2. حدود الكرازة 5-6.
3. موضوع الكرازة 7.
4. إمكانيّات الكرازة 8-10.
5. سلوكهم أثناء الكرازة 11-15.
6. رفض العالم لهم 16-23.
7. عدم الخوف 24-33.
8. الحروب الداخليّة 34-42.
1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا
"ثم دعا تلاميذه الإثنى عشر،
وأعطاهم سلطانًا على أرواح نجسة حتى يخرجوها،
ويشفوا كل مرض وكل ضعف" [1].
دعا السيّد هؤلاء الإثني عشر ليتتلمذوا على يديه، يسمعوه ويرافقوه في أعماله المعجزيّة وصلواته وحتى أثناء طعامه، لكي يتفهّموا بالروح القدس أسراره ويعيشوا بفكره. هذا الفكر هو ما نسميه بالفكر الإنجيلي أو الفكر الرسولي، عاشه الرسل إنجيلاً حيًا وتلمذوا آخرين عليه. وهكذا صار التقليد الكنسي في جوهره هو استلام هذا الفكر بطريقة حيّة عمليّة وتسليمه من جيلٍ إلى جيلٍ.
وقد ذكر الإنجيلي أسماء الإثني عشر رسولاً بعد أن أعلن السلطان الذي وُهب لهم من قبل الرب على الأرواح النجسة لإخراجها وعلى المرض وكل ضعفٍ، ويلاحظ في هذا الاختيار أمران:
أولاً: أن التلاميذ ليسوا أصحاب مواهب خارقة، أو من الشخصيّات البارزة في المجتمع، وإنما هم أناس عاديّون، بل وغالبيتّهم من طبقات فقيرة ليؤكّد أن فضل القوّة لله لا منهم.
ثانيًا: جاء الاختيار خليطًا عجيبًا من الشخصيّات، فمنهم متّى العشّار الذي يعتبره الكثيرون قد باع نفسه للرومان من أجل الربح المادي، وعلى نقيضه سمعان الغيور أو القانوني. فالغيورون هم جماعة من اليهود متعصّبون لقوميّتهم إلى أبعد الحدود يطالبون بالتحرّر من نير الحكم الروماني مهما كلّفهم الثمن. يرفضون قيام أي "ملك" غير الله نفسه، مستعدون للأسف أن يقوموا بأعمال تخريبيّة لأجل تحرير وطنهم من الرومان. ومن بينهم أيضًا سمعان بطرس المقدام، وأخوه أندراوس الذي يميل إلى الصمت، ويوحنا بن زبدي المملوء بعاطفة الحب، وتوما الكثير الشك. ففي المسيح يسوع اجتمع هؤلاء جميعًا ليتقدّسوا معًا كأعضاء بعضهم لبعض يعملون بروحٍ واحدٍ للكرازة بالإنجيل الواحد.
أما رقم 12 فكما سبق فأشرنا في أكثر من موضع يرمز إلى مملكة الله على الأرض، حيث يملك الثالوث (3) في كل جهات المسكونة الشرّق الغرب والشمال والجنوب (4).
2. حدود الكرازة
"هؤلاء الإثنا عشر أرسله يسوع وأوصاهم قائلاً:
إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريّين لا تدخلوا.
بل اذهبوا بالأحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [5-6].
في بدء كرازتهم حدّد لهم منطقة الكرازة "بالأمة اليهوديّة" دون أن يتجاوزوها إلى مدينة للسامريّين أو طريق للأم، على أنه قبيل صعوده أعلن لهم حدود الكرازة بقوله في نفس الإنجيل: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم" (28: 19). فإنه لم يسمح لهم بالكرازة بين الأمم إلا بعد أن يُعلن اليهود رفضهم للمسيّا. لم يكن هذا تحيزًا لليهود على حساب الأمم، وإنما لكي لا يتشكّك اليهود في رسالته المسيحانيّة، فإذا ما رفضوه ينفتح الباب للأمم، وإن كان السيّد المسيح نفسه لم يحرم السامرة من خدمته وبعض الأمميّين من التمتّع ببركات نعمه.
ويلاحظ أن الكلمة "أوصاهم" جاءت في اليونانيّة Paragellein وهي تستخدم في ظروف معيّنة، منها:
أولاً: في القيادات العسكرية في الجيوش، وكأن السيّد يمثّل القائد الأعلى في معركة دائمة ضدّ إبليس وكل أعماله. على تلاميذه أن يتهيّأوا للخدمة، لا كطريق للكرامة، بل للجهاد الروحي المستمر والقتال ضدّ عدوّ الخير نفسه. ليس ضدّ بشر، وإنما ضدّ الشيطان والقوات الروحيّة الشرّيرة (أف 6: 10-12).
ثانيًا: تستخدم من الصديق حينما يدعو أصدقاءه للمساندة، هنا يظهر السيّد المسيح في علاقته بتلاميذه على مستوى علاقة الصداقة فوق الرسميّات والبروتوكولات.
ثالثًا: يستخدمها المعلّم أو الفيلسوف مع تلاميذه ومريديه، وكأن السيّد المسيح يتحدّث مع تلاميذه كمريديه الذي يتتلمذون على يديه ليحملوا فكره.
رابعًا: تستخدم أيضًا في الأوامر الإمبراطورية، وكأنما السيّد المسيح هو الملك الذي يرسل سفراءه، يحملون سماته شهادة حق له، ويعلنون دستوره الروحي في حياتهم كما في كرازتهم.
ويرى القدّيس كبريانوس أن هذه الوصيّة لا تزال حيّة وتلتزم بها الكنيسة، فمدينة السامريّين تعني جماعة المنشقّين، وطريق الأمم يعني طريق الهراطقة[450]. فالكنيسة مع اتّساع قلبها للعالم كلّه المؤمن وغير المؤمن لتغسل أقدام الجميع، لا تقبل في شركتها جماعة المنشقّين أو تعاليم الهراطقة، بل تحذر أولادها وتحفظهم منهم.
3. موضوع الكرازة
"وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين:
أنه قد اقترب ملكوت السماوات" [7].
لقد حدّد موضوع الكرازة ألا وهو "التوبة"، بكونها طريق الملكوت السماوي. وقد سبق فعرّفنا التوبة أنها ليست جانبًا سلبيًا، أي مجرد تخلِّي عن الشرّ ورفض كل خطيّة، وإنما هي عمل إيجابي فعّالاً في حياة المؤمن، وهو قبول عمل الروح القدس فينا الذي يهب ويعطي ويشبع! التوبة هي تغيير لاِتّجاه القلب الداخلي والفكر وكل طاقات الإنسان، فبعدما كانت متّجهة نحو الأرضيّات تصير في المسيح يسوع ربّنا بالروح القدس متّجهة نحو ملكوت السماوات. بمعنى آخر فيما يرفض الإنسان الخطيّة وكل ما هو غريب عن الله إذ به ينعم بالله السماوي نفسه وكل ما له من نعمٍ وهباتٍ مشبعةٍ. وكأن التوبة هي تفريغ وامتلاء بغير انقطاع، ترك وأخذ، جوع وشبع في نفس الوقت.
لا يريدنا الله أن نسلك في حالة حرمان وكبت، وإنما بالعكس خلال التوبة يريدنا أن نعيش في حالة شبع وفرح وتهليل وتمتّع بالأمور الفائقة، فيسلك الإنسان على الأرض بفكر سماوي!
بهذا نستطيع أن نميّز بين التوبة العاملة فينا بالروح القدس والتوبة التي هي من صنع أنفسنا. الأولى تدخل بنا إلى ملكوت السماوات، فنعيش مع الآب في ابنه بالروح القدس، أمّا الثانية فهي حرمان ممّا هو أرضي، دون تمتّعٍ بما هو سماوي، الأولى توَلِّد فرح الروح ومحبّته وسلامه الخ. والثانية توََلِّد حزنًا قاتلاً وضيقًا في القلب وقلقًا ومرارة. الأولى تنطلق بالنفس من مجدٍ إلى مجدٍ لتبلغ إلى ذروة السماويّات، والثانية تنحدر بالإنسان من هوانٍ إلى هوانٍ، فيعيش في قنوطٍ مستمرٍ يدفع به إلى الهاوية!
4. إمكانيّات الكرازة
"اشفوا مرضى، طهِّروا بُرصًا، أقيموا موتى، اخرجوا شيّاطين،
مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا.
لا تقتنوا ذهبًا ولا فضّة ولا نحاسًا في مناطقكم.
ولا مذودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا،
لأن الفاعل مستحق طعامه" [8-10].
قبل أن يسألهم عدم اقتناء ذهب أو فضّة أو نحاس، قدّم لهم إمكانيّات جبّارة تسندهم في الخدمة من شفاء للمرضى وتطهير للبرص وإقامة الموتى وإخراج الشيّاطين. وكأن السيّد لم يحرمهم من الأمور الزمنيّة إلا بعد أن قدّم لهم كنوز محبّته العميقة.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ أراد أن يدرّبهم على كل الكمال طلب منهم ألا يفكّروا فيما يخص الغد... فإن كان يرسلهم كمعلّمين للعالم كله، هذا جعلهم وهم بشر ملائكة، مبرّرا إيّاهم من كل اهتمام أرضي حتى لا ينشغلوا إلا باهتمام واحد وهو التعليم، بل بالأحرى أراد أن يحرّرهم حتى من هذا الأمر بقوله: "لا تهتمّوا كيف أو بما تتكلّمون" [19][451].]
يلتزم التلميذ ألا يقتني شيئًا، فإن السيّد المسيح هو ذهبه وفضّته ونحاسه وطعامه وثوبه وطريقه وعصاه.
السيّد المسيح هو ذهبنا، فإن كان الذهب في الكتاب المقدّس يُشير إلى الحياة السماويّة، فإن المسيح هو سرّ الدخول بنا إلى الحياة السماويّة، أو هو كنزنا السماوي الذي يسحب قلبنا إليه. السيّد المسيح هو فضّتنا، فإن كانت الفضّة ترمز لكلمة الله (مز 12: 6)، فإنه بالحق حكمة الله الحيّ الذي يعمل فينا وبنا لكي يدخلنا إلى حضن أبيه. وهو نحاسنا، نلبسه فنصير به أقوياء ندك الطريق فلا تقدر العثرات أن تعوقنا عن الملكوت. وهو الطعام الذي به نقتات فنعيش في حالة شبع دائم، فلا نشتهي الزمنيّات ولا نطلب ملذّاتها. وهو الثوب الذي به نلتحف فيسترنا في عينيّ الآب، ونُحسب كأبرار في دمه الطاهر. إنه طريقنا الذي به ننطلق إلى أبيه لنحيا معه في أحضانه، شركاء في المجد الأبدي. إنه العصا التي حطّمت الشيطان خلال الصليب، فصار لنا الغلبة والنصرة. إذن لم يحرم السيّد المسيح تلاميذه من شيء، مقدّمًا نفسه سرّ شبع لكل احتياجاتهم.
أما بخصوص الأحذية، فإنها إذ تُصنع من جلد الحيوانات الميّتة ترمز إلى الأعمال الشرّيرة المهلكة[452]، لهذا يقول القدّيس جيروم: [لأنه عندما ألقى الجند القرعة على ثياب السيّد لم يكن معها أحذية ينزعونها عنه[453]. لأنه وإن مات السيّد بالجسد لكن لم يوجد فيه أعمال ميّتة.]
يمكننا أن نقول بأن الإمكانيّات التي قدّمها السيّد لتلاميذه هي إمكانيّات التوبة في أعلى صورها، فإنهم إذ يقتنون السيّد المسيح نفسه عِوض الذهب والفضّة والنحاس والمذود والثياب والعصا، فيكون هو كل شيء بالنسبة لهم، يستطيعون أن يطالبوا العالم بالتوبة، أي قبول المخلّص كمصدر شبع لهم عِوض الخطيّة التي قدّمت لهم الضيّق والعوز والمرارة.
لا يستطيع الكارز بالسيّد المسيح أن يقدّم للآخرين السيّد المسيح كسِر غِنى النفس وشفائها، بينما يرتبط هو بأمور العالم ويستعبد نفسه لها!
يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على هذه الوصيّة الإلهيّة للتلاميذ الكارزين بقوله: [إنه يَقطع كما بمنجل محبّة المال التي تنمو دائمًا في القلوب البشريّة[454].] لكنّه وهو يقطع وهبهم البديل الذي به يستطيع الرسول بطرس أن يقول: "ليس لي فضّة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإيّاه أعطيك؛ باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش" (أع 3: 6). لم يعطه مالاً لكنّه أعطاه باسم السيّد صحّة التي هي أفضل من المال.
كما يُعلّق أيضًا ذات القدّيس بقوله: [للكنيسة ذهب لا لكي تخزنه، وإنما لتوزِّعه وتنفقه على المحتاجين[455].]
5. سلوكهم أثناء الكرازة
"وأيّة مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق،
وأقيموا هناك حتى تخرجوا.
وحين تدخلون البيت سلّموا عليه.
فإن كان البيت مستحقًا فليأتِ سلامكم عليه،
ولكن إن لم يكن مستحقًا فليرجع سلامكم إليكم" [11-13].
عندما يدخلون مدينة أو قرية يبحثوا عن بيت له سمعته الطيّبة ويقيموا فيه، ولا ينتقلوا من بيت إلى آخر حتى لا تتحوّل خدمة الكلمة إلى خدمة المجاملات، وإنما يركِّزون فكرهم وجهدهم في العمل الكرازي وحده.
هذا ومن جانب آخر أراد السيّد لهم أن يعيشوا بلا همّ، ليس فقط لا يقتنون ذهبًا أو فضّة أو نحاسًا، وإنما أيضًا لا يضطربون من جهة الخدمة نفسها؛ عليهم أن يقدّموا الكلمة كما هي ولا يضطربوا إن رفضها
أعماله الملوكيّة 2
يستعرض معلّمنا متّى الإنجيلي جانبًا من أعماله الملوكيّة:
1. شفاء المفلوج 1-8.
2. دعوة متّى 9-13.
3. مفهوم الصوم 14-17.
4. إقامة الصبيّة 18-26.
5. شفاء أعميين 27-31.
6. شفاء مجنون 32-34.
7. الكرازة في المدن والقرى 35-38.
1. شفاء المفلوج
"فدخل السفينة واجتاز وجاء إلى مدينته" [ع 1].
ما هي مدينته؟
أولاً: من الجانب الروحي يمكن أن نفهم مدينته أي مدينة الله على أنها السماوات، فإن السيّد المسيح بعدما شفى المجنونين أي قدّم الخلاص لليهود والأمم، وإن كان قد رفضه أهل الكورة، أي أهل العالم المحبّين للعالم والمستعبدين للزمنيّات، ركب السفينة التي هي كنيسته المقدّسة ليبحر بها خلال مياه هذا العالم إلى مدينته الإلهيّة، التي هي السماوات، لتستريح هناك في الحضن الإلهي.
ثانيًا: ما هي مدينة الله إلا كنيسته التي يسكن في وسطها، ويُعلن ملكوته الأبدي في داخلها. فعودة السيّد إلى مدينته بعد رفضه في كورة الجرجسيّين إنّما يُشير إلى دخوله في حياة مؤمنيه بعدما رفضه اليهود. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [بطريقة سرّيّة إذ رفضته اليهوديّة عاد إلى مدينته، مدينة الله هي الشعب المؤمن، إذ دخل إليهم بواسطة السفينة، أي خلال الكنيسة[428].]
خلال هذا المفهوم يمكننا أن ندرك سرّ استخدامه السفينة في العبور إليها، فإنه كان قادرًا أن يسير على المياه دون أن يغرق. لكنّه إذ يدرك حاجة السفينة إليه، يتظاهر بحاجته إليها، لكي تقبله فيها، فيستلم قيادتها ويعبر بها إلى الميناء الأبدي بسلام. لقد نزل إلينا يحمل جسدنا لا ليسير على المياه، وإنما ليدخل السفينة كواحدٍ منّا فيقودنا، أمّا سيره على المياه إنّما يستخدمه عند الضرورة ولتأكيد غلبته على العالم الشرّير. لو سار السيّد في كل مرّة على المياه لما تأكّدنا من ناسوته، ولظن البعض خيالاً لا يحمل طبيعتنا، فنُحرم من دخوله إلى السفينة، وتحرم السفينة من قدرتها على الإبحار.
ثالثًا: من الناحية الجغرافيّة فإن مدينته هي كفرناحوم كما يظهر من إنجيل مار مرقس (2: 1)، فقد كانت هذه المدينة هي مركز خدماته وتنقّلاته في تلك المرحلة من خدمته. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [مدينته هنا تعني كفرناحوم. لقد استقبلته مدينة في ميلاده هي بيت لحم، ثم أخرى فيما بعد هي الناصرة، فثالثة استقبلته كمواطن فيها هي كفرناحوم[429].] لقد قبل في ميلاده بيت لحم أي بيت الخبز كموضع ميلاده، مقدّمًا نفسه خبزًا لكل جائع، يأتي إليه فيها البسطاء كالرعاة، والحكماء المتواضعين كالمجوس، اليهود كما الأمم. وبعد عودته من مصر يتقبّل الناصرة، أي الغصن أو المحتقر كموطن له، حتى يلتقي به كل من يقبل الاتّحاد معه كغصن في الكرمة (يو 15: 2)، وأخيرًا يقبل كفرناحوم موطنًا له، أي كفر التعزية، أو النياح, الموضع الذي فيه تجد كل نفس تعزيتها وراحتها بروحه القدّوس المعزّي.
العجيب أن الابن الكلمة الذي به كان كل شيء، إذ قبل إنسانيّتنا اشترك معنا في كل شيء ما عدا الخطيّة، فقبِل أن تكون له مدينته أو وطنه، مقدّسًا بهذا حق "المواطنة"، فيلتزم كل مسيحي بالأمانة نحو وطنه، مقدّمًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كأن اتّساع قلبه لكل البشريّة إنّما يكمّله التزامه بواجباته الوطنية.
ماذا يفعل السيّد في مدينته؟
"وإذا مفلوج يقدّمونه إليه مطروحًا على فراش.
فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج:
ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2].
دخل السيّد إلى مدينته، أي إلى شعبهن لكي يشفي فالج نفوسهم الداخلي، واهبًا الصحّة لنفوسهم التي فقدت كل حيويّتها، وعندئذ يشفى أجسادهم من الفالج الظاهري. هذا ما صنعه السيّد ويصنعه في كل جيل، فخلال قيامته وهب نفوسنا – بالإيمان - الحياة الجديدة، فتخرج من مياه المعموديّة مقامة معه تنعم بالميلاد الروحي الجديد، خلال هذه القيامة الداخليّة نسلك في رجاء ننتظر فداء أجسادنا، كقول الرسول: "نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا، نئن في أنفسنا، متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا، لأننا بالرجاء خلصنا" (رو 8: 23-24). نلنا فيه قيامة النفس لندخل ملكوته الألفي الذي نحياه الآن، منتظرين قيامة أجسادنا في يوم الرب العظيم إلى سماواته، فنراه وجهًا لوجه ونحيا معه بلا تغرّب.
يُعلّق القدّيس جيروم على اهتمام السيّد بالنفس قائلاً: [في هذا نجد مثالاً للنفس المريضة الراقدة في جسدها وقد خارت قواها، وها هي تُقدّم للرب الطبيب الكامل واهبًا إيّاها الشفاء[430].]
ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه في هذه المعجزة صورة حيّة لعمل السيّد المسيح داخل الكنيسة إذ يغفر الخطايا واهبًا النفس الشفاء متمتّعة بالبنوّة لله، إذ يدعوه "يا بنيّ"، الأمر الذي عجز عنه الناموس، كما يقول القدّيس: [في المفلوج أُحضر إليه كل الأمم لينالوا الشفاء... لقد دعاه "يا بنيّ" لأنه عمل الله. لقد غفر له خطاياه، الأمر الذي لم يستطع أن يفعله الناموس، إذ بالإيمان وحده (لا الناموس) يتبرّر. إنه يُعلن قوّة القيامة بحمله السرّير ليعلِّم بأن في السماء ستكون الأجساد بلا ضعفات[431].]
لقد لفت أنظار آباء الكنيسة في هذه المعجزة اهتمام الإنجيليّين بالكشف عن فاعلية حياة الشركة الروحيّة، فيستند المؤمن على إخوته في المسيح يسوع ربّنا، كما يسند هو الآخرين، ويعيش الكل كبناء واحد متكامل يرتكز على "المسيح يسوع" حجر الزاوية.
لقد حمل المؤمنون المفلوج، وشفاه الرب من أجل إيمانهم، إذ يقول الإنجيلي: "فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بنيّ مغفورة لك خطاياك" [2]. ما أحوجنا أن نُحمل بإيمان الآخرين، ونحمل نحن الآخرين بإيماننا!
v ليتنا أول كل شيء نردّد ما سبق فقلناه، إنه إن كان أحد مريضًا فليطلب صلوات الآخرين حتى يردُّوه إلى الصحّة (مت 9: 2)، فخلال شفاعتهم يُردْ هيئة جسدنا الواهن، أي خطوات أعمالنا المتردّدة إلى الصحّة، بعلاج الكلمة السماوي. ليتهم يسندوا النفس حتى تقوم، هذه الملقاة بلا حراك في ضعف الجسد الخارجي، فإنه خلال معونتهم يحمل الإنسان كلّه ويدُلى في حضرة يسوع، فيتأهّل لأن يكون موضع رؤية يسوع.
v هل فقدت الثقة بسبب خطاياك الخطيرة؟ أطلب صلوات الآخرين! استدع الكنيسة فتصلّي عنك، فإن الرب يتطلّع إليها ويهبك ما يرفضه بالنسبة لك.
القدّيس أمبروسيوس[432]
إن قارنّا بين شفاء هذا المفلوج وشفاء مفلوج بيت حسدا (يو 5)، نجد أن السيّد المسيح هنا ينتظر في البيت، لا لكي يدخل به أحباؤه، وإنما لكي ينقبوا أيضًا السقف ويدلّوه، أمّا الآخر فذهب السيّد نفسه إليه يسأله إن كان يريد أن يبرأ. هذا المفلوج شُفيت نفسه أولاً من الخطيّة، وعندئذ حمل سريره ومشى، أمّا الآخر فشُفى جسده أولاً، وبعد ذلك التقى به ليطالبه ألا يخطئ بعد. فهل لدى الله محاباة، يعامل إنسانًا بطريقة، والآخر بطريقة أخرى؟ إنه بلا شك الأب محب البشر الذي يعرف أن يقدّم لكل ابن ما هو لبنيانه، فهو لا يميّز بين البشر، إنّما يميّز في الوسيلة بما يناسب كل أحد. فالمفلوج هنا له أصدقاؤه الذين يحبّوه ويقدرون أن يحملوه بعدما أخبروه عن أعمال المسيّا التي انتشرت. لهذا انتظرهم السيّد ليحملوا فيهم الروح الكنسيّة الجماعيّة، وينالوا إكليل الحب الجماعي. وبدأ بشفاء نفسه، لأن المريض يدرك الكثير عن المسيح وأعماله، فأراد أن يوجّهه إلى شفاء الفالج الداخلي. أمّا مفلوج بيت حسدا فله ثمانية وثلاثون عامًا في المرض، ليس له من يسنده ولا من يعينه، تحطّمت نفسه. فهو محتاج إلى مجيء السيّد بنفسه إليه، وشفاء جسده أولاً عندئذ يوجّهه إلى حياته الداخليّة[433].
مقاومة الكتبة
إن كان المؤمنون يحملون بعضهم البعض، ويسندون بعضهم البعض لكي ينعم الكل بالحضرة الإلهيّة، ويتمتّع المريض بشفاء النفس والجسد، كما فعل حاملو المفلوج، فإنه يوجد أيضًا من هم بالكبرياء يحطّمون غيرهم. كان يلزم للكتبة أن يحملوا المفلوج للسيّد، لأنهم مؤتمنون على الشريعة التي غايتها الدخول بالنفوس المصابة بالفالج إلى المسيّا المخلّص، لكنهم عِوض أن يكرزوا لاخوتهم ويشهدوا للمسيح فينالوا الشفاء، صاروا ناقدين يشوّهون الحق ويقاومون العمل الإلهي. صاروا يجدّفون على السيّد في أفكارهم، لكن السيّد لم يتركهم في شرّهم، ولا تجاهل خلاصهم، إنّما في رقة وبّخهم، لا ليفحمهم، وإنما بالأحرى لكي ينقذ أفكارهم من التجديف المهلك، قائلاً لهم: "لماذا تفكّرون بالشرّ في قلوبكم. أيّهما أيسر: أن يقال لك مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم وأمش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك" [4-6]. لقد أكّد لهم أنه الله العالم بالأفكار، فكشف لهم ما بداخلهم، وأكّد لهم أنه غافر الخطايا بطريقة ملموسة تناسب فكرهم المادي بشفائه المفلوج فورًا. لقد غفر للمفلوج خطاياه، وهاهو يفتح الباب لهم كي ينعموا هم بما ناله.
حمل السرير
بلا شك لحمل السرّير ذكريات مرّة عند المفلوج، فقد نام عليه سنوات طويلة يئن من المرض والحرمان؛ كان يمثّل القيد الذي ارتبط به زمانًا طويلاً أفقده بهجة الحياة وحيويّتها. حمْل السرّير إنّما يُشير إلى تذكُّر الخطايا الماضية فيقدّم الإنسان شكره الدائم لله واهب الحياة. حمْل السرّير يسند النفس فلا تسقط في الكبرياء، إذ تذكر سنوات العبوديّة المرة للمرض.
يرى القدّيس أمبروسيوس في حمْل هذا السرّير صورة رمزيّة لقيامة الجسد، فبعدما كانت النفس تحمل الجسد كسرير ألم مرّ، يصير في القيامة سرّ بهجة دائمًا لا يتعرّض بعد لتجربة أو ألم، إذ يقول: [ماذا يعني هذا السرّير الذي طُلب منه أن يحمله، إلا أن يقدّم جسده البشري؟ هذا هو السرّير الذي كان داود يغسله كل ليلة كما نقرأ: "أغسل سريري، أغسل فراشي بدموعي" (مز 6: 7). هذا هو سرير الألم الذي تضطجع فيه نفسنا المريضة بعذاب الضمير الخطير. لكن إن حمَل أحد هذا السرّير بوصايا المسيح لا يعود بعد سريرًا للألم بل للراحة. فما كان قبلاً موتًا بدأ الآن يصير للراحة، وذلك بفعل مراحم الرب التي غيرّت نوم موتنا إلى نعمة بهجة الرب[434].]
العودة إلى بيته
أمَره السيّد: "اذهب إلى بيتك" [6]، يؤكّد الإنجيلي أنه مضى إلى بيته، فما هو هذا البيت الذي حُرم منه المفلوج طوال هذا الزمان من مرضه؟
لقد حرمت الخطيّة الإنسان من بيته الأول، أي الفردوس، فخرج منه يحمل أثقال المرارة، ويدب فيه الموت الأبدي، وقد بقيَ في الناموس الطبيعي فالموسوي كمن هو متغرّب في الشوارع، عاجز عن العودة إلى حياته الفردوسية الأولى، والراحة في البيت الذي أقامه له الرب نفسه. نستطيع أيضًا أن نقول بأنه بيته الحقيقي هو "الله" نفسه، ففيه وحده يستريح الإنسان كمن في حضن أبيه، وإذ صار بالخطيّة في عداوة مع أبيه جاء الابن الوحيد إلينا، وحملنا فيه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه أولادا لله. هذه هي العودة إلى بيتنا الأول!
v لم يأمره فقط أن يحمل سريره، وإنما أن يعود أيضًا إلى بيته، أي أخبره أن يعود إلى الفردوس، فإن هذا هو بيت الإنسان الحقيقي، الذي استقبله أولاً، هذا الذي فقده ليس خلال الناموس وإنما خلال الضلال. حقًا لقد أُعيد إلى بيته، إذ جاء من هو بالحق يحطم الضلال ويعيد الحق[435].
القدّيس أمبروسيوس
v خُلق الإنسان لكي يتطلّع إلى خالقه، ويسكن في جماله، ويحيا في فرح محبّته، لكن بالعصيان فقد مسكنه وصار يتجوّل في الطرق المظلمة، وذهب بعيدًا عن مسكن النور الحقيقي.
v الخالق نفسه هو موضع الإنسان، لكن ليس كمكان، فقد جبله ليسكن فيه. وإذ أعطى الإنسان أُذنه للمجرِّب هجر مسكنه، هجر حب الخالق. لكي يخلّصنا القدير ظهر لنا جسديًا، وإن أمكنني القول، أنه اقتفى أثر الإنسان الذي هرب منه وجاء به إليه كموضع يُحفظ فيه الإنسان المفقود.
الأب غريغوريوس (الكبير)[436]
2. دعوة متّى
يروي لنا الإنجيلي متّى قصة دعوته لتبعيّة المسيح في كلمات مختصرة: "وفيما يسوع مجتاز من هناك، رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه متّى، فقال له: اتبعني، فقام وتبعه" [9].
كان متّى (لاوي) جالسًا عند مكان الجباية وكان قلبه وكل أحاسيسه وأفكاره قد اِمتُصِّت بالكامل في أمور هذه الحياة وغناها. وكان الأمر يحتاج إلى كلمة من السيّد المسيح: "اتبعني"، قادرة أن تفك رباطاته وتسحب قلبه إلى السماويات، دون تردّد، وبغير حاجة إلى مشورة عائلته أو أصدقائه.
لحق الإنجيلي دعوته باجتماع السيّد بالعشّارين والخطاة، أو كما يقول الإنجيلي لوقا: "صنع له ضيافة كبيرة في بيته، والذين كانوا متكئين معهم كانوا جمعًا كثيرًا من عشّارين وآخرين" (لو 5: 29).
حقًا إذ يتقبّل الإنسان نعمة الله الغنيّة يتبرّر القلب من مكان الجباية حيث دفاتر الحسابات والخزائن المكدّسة بالمال، لا ليعيش في عوزٍ، وإنما ليتقبّل السيّد المسيح نفسه سرّ شبعه وغناه. يقول الرسول بولس: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه" (1 كو 1: 5). يتحوّل القلب الذي كان مسرحًا للهم والقلق إلى ضيافة عظيمة ووليمة يقيمها السيّد المسيح نفسه، ليكون على رأس المتّكئين، يهبهم ذاته سرّ غناهم. وعِوض البرّيّة التي كانت سِمة القلب الخاطيء، يصير فينا فردوس الله المملوء من ثمر الروح القدس. يفرح السيّد نفسه بهذه الوليمة فيترنّم قائلاً: "قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء" (نش 5: 1).
في الظاهر صنع متّى الوليمة، لكن بالحق هي وليمة السيّد الذي يفرح بجنّته المثمرة في قلوب طالبيه، فيدعوا الخطاة والعشّارين ليذوقوا هذا الثمر المفرح، ويقتدوا بمن نال هذه النعم!
لقد أعلن السيّد أننا لا نصوم مادام العريس حال في وسطنا، وكأنه يسألنا إذ نحمله فينا أن نفتح قلوبنا بالحب ليأكل من ثمره المقدّس فينا وندعو الآخرين يأكلون معه، قائلين: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب!"... إننا ندعوهم لينعموا بالوليمة الداخليّة التي أقامها الرب بروحه القدّوس فينا، هذه التي تسبّب تذمُّرًا بين الكتبة والفرّيسيّين، قائلين: لماذا يأكل معلّمكم مع العشّارين والخطاة؟ فيجيبهم: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" [12].
يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على صنع الوليمة، قائلاً:
[عندما ترك مكان الجباية تبع المسيح بقلبٍ ملتهبٍ، ثم صنع له وليمة عظيمة. فمن يقبل المسيح في قلبه يمتلئ بالأطاييب الكثيرة والسعادة الفائقة، ويود الرب نفسه أن يدخل في قلب المؤمن ويستريح!...
كل من يقبل جمال الفضيلة، ويقبل المسيح في بيته، يصنع له وليمة عظيمة أي وليمة سماويّة من الأعمال الصالحة، هذه التي يحرم منها جماعة الأغنياء ويشبع منها الفقير[437].]
هذه الوليمة يدخلها الخطاة والعشّارون الذين يشعرون بالحاجة إلى المخلّص لكي يبرّرهم، بينما يقف الفرّيسيّون خارجًا ينتقدون السيّد على محبّته المتّسعة لهم، لذلك أكّد لهم السيّد: "لا يحتاج الأصحّاء إلى طبيب بل المرضى... لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة".
يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي، قائلاً: [لو لم يحب الله الخطاة ما كان قد نزل من السماء إلى الأرض[438].]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [إنه لا يدعو من يدعون أنفسهم أبرارًا، فإنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يُثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله (رو 10: 3). من يدعون أنفسهم أبرارًا لا تقترب إليهم النعمة. فإن كانت التوبة هي بداية النعمة فمن الواضح أن احتقار التوبة هو تخلي عن النعمة[439].]
نختم حديثنا عن دعوة متّى الإنجيلي بالمناجاة التي ينطق بها القدّيس أمبروسيوس على لسانه بعد تركه موضع الجباية وتبعيّته للسيّد المسيح:
[لست بعد عشّارًا، فقد تبررت من أن أكون لاويًا!
لقد خلعت عنّي لاوي، ولبست المسيح!
كرهت أسْري، وهربت من حياتي الأولى!
إني لا أتبع آخر سواك أيها الرب يسوع! يا من تشفي جراحاتي!
من سيفصلني عن محبّة الله التي فيك؟ أشدة أم ضيق أم جوع؟ (رو 8: 35).
تُسمّرني فيك بمسامير الإيمان، وتربطني بك قيود الحب الصالحة!
وصاياك هي أداة الكيّ التي سأحتفظ بها على جرحي، إنها الوصيّة التي تحرق الموت الذي في الجسد، حتى لا تنتقل العدوى إلى الأعضاء الحيّة، إنه دواء مؤلم يحمي من عفونة الجرح!
أيها الرب يسوع، اقطع بسيفك القوي عفونة خطاياي، وقيّدني برباطات الحب، نازعًا كل فساد فيّ!
أسرع وتعال لتفضح الشهوات الخفيّة والمتنوّعة!
اكشف الجرح فلا تزداد عفونته!
طهّر كل فساد بحميم الميلاد الجديد[440].]
3. مفهوم الصوم
"حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين:
لماذا نصوم نحن والفرّيسيّون كثيرًا،
وأما تلاميذك فلا يصومون؟" [14].
جاءت إجابة السيّد تكشف عن مفهوم الصوم بمنظار جديد، إذ قال:
أولاً: "هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا مادام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون" [15].
كأن الصوم ليس مجرّد واجب يلتزم به المؤمنون، إنّما هو عمل خاص ببني العرس الذين يصومون كمعين لهم في حياة الندامة (النوح) والتوبة، أي ليس كغاية في ذاته، وإنما من أجل الدخول إلى العريس والتمتّع بالعرس خلال التوبة. فإن كان العريس نفسه حاضرًا في وسطهم فما الحاجة إلى الصوم؟ إنه سيرتفع عنهم جسديًا فتمارس، الكنيسة صومها لتتهيّأ لمجيئه الأخير فتلتقي معه في العرس الأبدي. مادام العريس مرفوعًا لا نراه حسب الجسد، وجهًا لوجه، فيلزمنا أن نصوم لا عن الطعام فحسب، وإنما عن كل لذّة وترف من أجل طعام أفضل سماوي ولذّة روحيّة أبديّة وأمجاد علويّة هي في جوهرها تمتّع بالعريس نفسه.
ثانيًا: "ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تنشق الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف، بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعًا" [16-17].
ماذا يعني السيّد بهذا القول؟ وما هو ارتباطه بالصوم؟
إنه يؤكّد أنه بحلوله وسط البشريّة إنّما أراد تقديم حياة جديدة يعيشها المؤمنون به، لها سماتها الجديدة وطبيعتها الجديدة وإمكانيّاتها الجديدة، فلا تُمارس العبادة بالمفهوم القديم الذي ارتبط بذهن الكثيرين. فالسيّد لا يقبل فكرة الإصلاح عن طريق "الترقيع" بين ما هو قديم وما هو جديد، وإنما بهدم الحرفيّة القاتلة القديمة لبناء الفكر الروحي الجديد. بهذا يصير الصوم سرّ انطلاق للنفس بالروح القدس لتمارس الحياة العرسيّة المفرحة.
ما أحوجنا أن نلبس الثوب الجديد عِوض وضع رقعة جديدة في ثوب قديم، وأن يكون لنا الزقاق الجديد إنّما هو ثوب المعموديّة الأبيض، الطبيعة الجديدة التي توهب لنا خلال تمتّعنا بالقيامة مع مسيحنا بروحه القدّوس، والزقاق الجديد هو إنساننا الجديد الذي يتقبّل خمر الروح القدس المجدّد لحياتنا على الدوام.
v لنحتفظ بالثوب (الجديد) الذي ألبسنا إيّاه الرب في المعموديّة. ولكن ما أسهل تمزيق هذا الثوب إن كانت أعمالنا لا تتّفق مع نقاوته، سرعان ما يفسده سوس الجسد وينجّسه ضلال الإنسان العتيق. لهذا يمنعنا الرب من الخلط بين الجديد والقديم، يحرم الرسول ارتداء الثوب الجديد فوق العتيق، إنّما نخلع العتيق ونلبس الجديد فلا نوجد عراة (كو 5: 2-4 )؛ فإنّنا نكون هكذا عراة إن سلب مكر إبليس رداءنا[441].
القدّيس أمبروسيوس
4. إقامة الصبيّة
جاءت قصة إقامة ابنة يايرس مرتبطة بشفاء نازفة الدم بأكثر تفصيل في إنجيل معلّمنا لوقا البشير (8: 41-56). لقد تقدّم يايرس رئيس المجمع إلى السيّد، ووقع عند قدميه، يسأله أن يدخل بيته، لأن ابنته كانت في حالة موت.
حقًا لقد أظهر يايرس رئيس المجمع اليهودي إيمانا بالسيّد، لكن قائد المائة الأممي غلبة في إيمانه (مت 8: 5-13)، إذ لم يسأله أن يحضر إلى بيته ولا أن يمد يده على غلامه ليشفيه، وإنما قال: "قل كلمة"، أمّا رئيس المجمع اليهودي فقال: "تعال وضع يدك عليها، فتحيا". حقًا إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب بإيمان أعظم ممّا لبني الملكوت!
في الطريق قبل أن يسمع أن ابنته ماتت (لو 8: 49). سمح الرب بشفاء نازفة الدم ليرى بعينيّه ويلمس عمله الإلهي فلا يشك.
إن عُدنا إلى الكتاب المقدّس نجده يروي لنا ثلاث معجزات خاصة بإقامة السيّد المسيح للموتى، تمثل عمله الإلهي في إقامتنا من موت الخطيّة... هذه المعجزات هي:
أولاً: إقامة ابنة يايرس وهي بعد صبيّة صغيرة، لم تُرفع بعد عن سرير الموت في بيت أبيها، تُشير إلى النفس التي ماتت بالخطيّة خلال الفكر الخفي في الداخل، وهي تحتاج أن يدخل السيّد إلى بيتها "قلبها"، ويلمس يدها فتقوم.
ثانيًا: إقامة الشاب ابن الأرملة، وكان قد حُمل في النعش إلى الطريق، يمثّل النفس التي عاشت في الخطيّة ليس خلال الفكر فقط، وإنما ظهرت أيضًا خلال العمل، فخرجت من البيت إلى الطريق كما في نعش، تحتاج إلى أن يوقِف الله حاملي النعش، ويأمر الشاب أن يقوم ثم يدفعه إلى أمه. إنها تحتاج إلى تدخّل الله للتوقّف عن التحرّك نحو قبر الخطايا، فلا يكمّل الشرّير طريق شرّه، حتى لا تتحوّل الخطيّة فيه إلى عادة، إنّما يسمع الصوت الإلهي يناديه ليهبه روح القيامة ويدفعه إلى الكنيسة أمه.
ثالثًا: إقامة لعازر بعدما دفن في القبر أربعة أيام وحدث تعفُّن للجسد، إشارة إلى من تحوّلت الخطيّة في حياته إلى عادة، ارتبطت به وهو ارتبط بها، فصار كأنه والخطيّة أمر واحد. لقد انزعج السيّد وبكى وأمر برفع الحجر، ثم نادى لعازر أن يخرج، وطلب ممّن حوله أن يحلّوه من الرباطات! مثل هذه النفوس يبكيها السيّد نفسه، ويذهب إلى قبرها، ويأمر برفع حجر القسوة، وبكلمة فمه يقيمها ويخرجها من قبر الخطيّة، طالبًا من الكهنة أن يحلّوها من رباطاتها.
إن عدنا إلى إقامة الصبيّة نجد السيّد يقول: "تنحّوا، فإن الصبيّة لم تمت لكنها نائمة" [24]، وكأنه كان يشجّع تلاميذه على قبول الموت بلا انزعاج كمن يدخل إلى النوم ليستريح.
v حقًا عندما جاء المسيح صار الموت نومًا!
v إن كنت تحب الراحل يلزمك أن تفرح وتسر أنه قد خلُص من الموت الحاضر.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم[442]
أما بخصوص شفاء نازفة الدم بلمسها هدب ثوب السيّد خفية، فقد أعلن السيّد أمرها، ويقدّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم التعليلات التالية لتصرُّف السيّد:
أولاً: ليضع نهاية لمخاوف المرأة، لئلا تتألّم إذ ينخسها ضميرها أنها نالت العطيّة خلسة.
ثانيًا: أنه حسبها على حق أن تخفي فكرها.
ثالثًا: أعلن إيمانها للكل، ليحثّ البقيّة على الاقتداء بها، فإن وقفِه لينبوع دمها ليس بعلامة أعظم ممّا أظهره أنه يعرف كل الأمور (يعرف فكرها وإيمانها وتلامسها الخفي معه).
علاوة على هذا كان رئيس المجمع في طريقه إلى الدخول إلى عدم الإيمان وهلاكه تمامًا، فجاءت هذه المرأة لتصلح من شأنه. لقد جاءوا إليه قائلين: "قد ماتت ابنتك، لا تُتعب المعلّم" (لو 8: 49)، والذين كانوا في البيت ضحكوا عليه ساخرين به عندما قال أنها نائمة، وكان يمكن أن يكون للأب نفس هذه المشاعر، لهذا قدّم له هذه المرأة البسيطة ليُصحّح من ضعفه مقدّمًا[443].
بين كنيسة الأمم وكنيسة اليهود
ارتباط شفاء نازفة الدم بإقامة ابنة يايرس رئيس المجمع اليهودي إنّما يُشير إلى التقاء الأمم كما اليهود بالسيّد المسيح كطبيب النفوس وواهب الحياة؛ ويلاحظ في هاتين المعجزتين:
أولاً: كان عمر الصبية التي ماتت وقد استدعى والدها السيّد المسيح لإقامتها اثني عشر سنة إشارة إلى جماعة اليهود الذين ينتسبون إلى اثني عشر سبطًا، وقد سقطوا تحت الموت، فانطلق الناموس كقائد لهم يُعلن الحاجة إلى مجيء المسيّا ليقيمهم. وقد جاء السيّد إلى بيتها، لأن المسيّا وُلد بين اليهود كواحد منهم. أمّا نازفة الدم فقد عاشت اثنتي عشرة عامًا في حالة نزف دم إشارة إلى قضاء كل زمانها السابق في نجاسة الخطيّة التي استنزفت حياتها. إنها اِلتقت بالسيّد في الطريق ولم يدخل السيّد بيتها، فإن السيّد لم يأتِ بالجسد من الأمم، ولا حلّ جسديًا في وسطهم، إنّما اِلتقى بهم كما في الطريق.
v يُفهِّم هذا الرئيس بكونه الناموس الذي يسأل الرب أن يهب حياة للشعب الميّت، هذا الناموس الذي بشَّر بالتطلّع إلى مجيء الرب[444].
v يذهب الرب إلى بيت الرئيس كما إلى المجمع، الذي منه تخرج الأصوات كما من نحيب من ترنيمات الناموس.
الأب هيلاري أسقف بواتييه
v نقول بأن المرأة (نازفة الدم) تمثل الكنيسة الخارجة من الأمم. إذ كان الرب في طريقه لإقامة ابنة رئيس المجمع، هذه التي تمثل الشعب اليهودي، إذ جاء الرب من أجل اليهود وحدهم، قائلاً: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 15: 24). إذن كما جاء إلى ابنة رئيس المجمع، فجأة لا أعرف من أين جاءت هذه المرأة ولمست بإيمان الرب، قائلة: "إن مسست هُدب ثوبه فقط شُفيت"، وقد لمست وشفيت.
إذن عانت هذه المرأة من نزف الدم... وأنفقت كل معيشتها على الأطباء (لو 8: 43). إنها تشبه كنيسة (جماعة) الأمم البائسة التي طلبت السعادة، وسألت عن مصدر القوّة، بكل وسائل الشفاء. أي شيء عندها لم تنفقه على الأطباء الباطلين من الفلكيّين والمنجّمين ومفسدي الهياكل؟! لقد وعدها هؤلاء جميعًا بالشفاء لكنهم لم يقدروا، إذ لا يملكونه. لقد أنفقت كل ما عندها ولم تشفى. لذلك قالت: "إن مسست هدب ثوبه فقط شفيت". لقد لمست وشفيت.
لنسأل ما هو هدب ثوبه؟... لنفهم أن الرسل هم ثوب الرب الملاصقون له. اسأل من هو الرسول الذي أُرسل للأمم؛ تجده بولس الرسول، إذ كانت أعظم أعماله الرسوليّة بين الأمم... إنه هدب ثوب الرب، إذ كان آخر الرسل. هل يوجد أحد يُحسب كآخر هذا الثوب والأقل؟ يقول الرسول أنه كان هكذا: "آخر الكل، لأني أصغر الرسل" (1 كو 15: 8-9).
لنلمسه نحن أيضًا، أي لنؤمن فنشفَى!
v أي شيء تمثله هذه المرأة؟ كنيسة الأمم التي نالت الشفاء التي لم تشاهد المسيح بالجسد، والتي أشار إليها المزمور: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي، من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 43-44). لقد سمع العالم كلّه عنه وآمن به، أمّا اليهوديّة فرأته وصلبته أولاً، وبعد ذلك سيأتون إليه. سيؤمن اليهود به في نهاية العالم.
القدّيس أغسطينوس
5. شفاء أعميين
"وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان:
ارحمنا يا ابن داود.
ولما جاء إلى البيت تقدّم إليه الأعميان،
فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟
قالا له: نعم يا سيّد.
حينئذ لمس أعينهما، قائلاً: بحسب إيمانكم ليكن لكما.
فانفتحت أعينهما" [27-30].
كان العالم في ذلك الحين وقد انقسم إلى يهود وأمم قد أُصيب كلّه بالعَمي الروحي، فقدَ اليهود بصيرتهم الداخليّة بسبب كبرياء قلبهم وحرفيّة إدراكهم للناموس وانجذابهم إلى الرجاسات الوثنيّة، وفقد الأمم أيضًا بصيرتهم بسبب العبادة الوثنيّة. وكأن هذين الأعميين اللذين كانا يصرخان: ارحمنا يا ابن داود يمثّلان العالم كله، يهودًا وأممًا، يُعلن عوزه إلى المسيّا المخلّص ابن داود لكي يعيد إليه بصيرته الروحيّة. وقد جاء السيّد إلى "البيت"، أي إلى مسكننا؛ جاء إلينا في الجسد حتى نستطيع أن نتقدّم إليه، ويمكننا أن نتقبّل لمسات يده الإلهيّة على أعيننا الداخليّة. فالبيت هنا إنّما يُشير إلى التجسّد الذي بدونه ما كان يمكننا التلامس مع ابن الله، والتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، ليهب لأعيننا نوره، فتعاين النور.
جاءنا ابن الله متجسّدًا، معلنًا مبادرته بالحب. لكنّه يسأل: أتؤمنان إني أقدر أن أفعل هذا؟ بالإيمان يحلّ في قلوبنا (أف 3: 17)، فتنفتح بصيرتنا من يوم إلى يوم لمعاينة الأسرار خلال تمتّعنا بها فيه.
إن كنّا بسبب الخطيّة انطمست أعيننا من معاينة النور، فانحرفنا عن الطريق، وصرنا نتخبّط في الظلمة، فقد صرخت البشريّة على لسان المرتّل: "أرسل نورك وحقّك، هما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك وإلى مساكنك" (مز 43: 3). وقد جاءنا من هو "نور العالم" (يو 8: 12) معلنًا: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظلمة"، "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). جاءنا الملتحف بالنور كثوب (مز 104: 2)، الذي ليس فيه ظلمة البتة (1 يو 1: 5)، يشرق في الظلمة بنوره (إش 58: 10)، نلبسه فنصير أبناء نور وأبناء نهار (1 تس 5:5)، بل نصير به نورًا للعالم (مت 5: 14).
يصرخ القدّيس أغسطينوس في مناجاة نفسه مع الله قائلاً:
[إلهي... أنت نوري. افتح عينيّ فتعاينا بهاءك الإلهي، لأستطيع أن أسير في طريقي بغير تعثّر في فخاخ العدوّ!
حقًا، كيف يمكنني أن أتجنّب فخاخه ما لم أراها؟
وكيف أقدر أن أراها إن لم أستنر بنورك؟
ففي وسط الظلمة يخفي "أب كل ظلمة" هذه الفخاخ، حتى يصطاد كل من يعيش في الظلمة. هذا العدوّ الذي يودّ أن يكون أبناؤه محرومين من نورك ومن سلامك الكامل...
ما هو النور إلا أنت يا إلهي!
أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضيء لأولادك حتى لا يتعثّروا...
يا نور نفسي، لا تتوقّف قط عن إنارة خطواتي![445]]
القدّيس أغسطينوس
v أيها النور الحقيقي الذي تمتّع به طوبيا عند تعليمه ابنه، مع أنه كان أعمى! أيها النور الذي جعل اسحق - فاقد البصر - يُعلن بالروح لابنه عن مستقبله!...
أنت هو النور الذي أنار عقل يعقوب، فكشف لأولاده عن الأمور المختلفة!...
أنت هو الكلمة القائل: "ليكن نور، فكان نور". قل هذه العبارة الآن أيضًا، حتى تستنير عيناي بالنور الحقيقي، وأميّزه عن غيره من النور. فبدونك كيف أقدر أن أميّز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟!
نعم... خارج ضيائك، تهرب الحقيقة منّي، ويقترب الخطأ إليّ، ويملأني الزهو... ويصير فيّ الارتباك عِوض التمييز، يصير لي الجهل عِوض المعرفة، والعَمى عِوض البصيرة![446]
القدّيس أغسطينوس
وفي دراستنا للمعموديّة رأيناها "سرّ الاستنارة"، حيث نخلع الإنسان القديم بظلمته لنلبس الإنسان الجديد الذي على صورة خالقنا، فنحمل فينا مسيحنا سرّ استنارتنا، ويكون روحه القدّوس واهبًا لنا إمكانيّة التقديس التي بدونها لا نقدر أن نُعاين الله[447].
يقول القدّيس مار يعقوب السروجي: [المعموديّة هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها[448].]
نعود إلى الأعميين اللذين شفاهما السيّد، إذ يقول الإنجيلي: "انتهرهما يسوع قائلاً: انظرا لا يُعلما أحد، ولكنّهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها" [31]. لقد قدّم لنا السيّد درسًا في التواضع، فمن أجل محبّته لهما شفاهما حتى يبعث فينا روح الحب الخفي وعدم طلب المجد الباطل.
لم يخالف الأعميان أمرًا إلهيًّا حين أشاعا الخبر، فإن قوله: "أنظرا لا يُعلما أحد" لم يكن وصيّة يلزمهما بها، وإنما هو حديث حبّي فيه يُعلن عدم طَلبه مجد العالم مقابل محبّته، أمّا هما فردّا الحب بالحب خلال الشهادة له. لقد استنارت أعينهما فاشتهيا أن يتمجّد الطبيب السماوي بتفتيح أعين الكل، ليعاينوا ما يعايناه هما!
من يرى النور لا يقدر أن ينظر إخوته سالكين في الظلمة بل يدعوهم إلى النور الذي ينعم به، كما فعلت المرأة السامريّة حيث تركت جرّتها وخرجت إلى مدينتها تقول للناس: "هلمّوا، انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟" (يو4: 29). وفي حديث للقدّيس يوحنا الذهبي الفم مع المواظبين على اجتماعات الكنيسة والمشتركين فيها يقول: [علِّموا الذين هم من خارج أنكم في صحبة طغمة السيرافيم، محسوبين مع السمائيّين، معدِّين في صفوف الملائكة، حيث تتحدّثون مع الرب، وتكونون في صحبة السيّد المسيح[449].]
6. شفاء مجنون
قُدّم للسيّد المسيح إنسان أخرس مجنون، "فلما أخرج الشيطان تكلّم الأخرس، فتعجّب الجموع قائلين: لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل. أمّا الفرّيسيّون فقالوا برئيس الشيّاطين يخرج الشيّاطين" [33-34].
لا يمكن للبشريّة الصامتة زمانًا هذا مقداره أن تتحدّث مع خاِلقها، ولا أن تسبّحه داخليًا وتشكره، حتى وإن سبَّحته بالفم واللسان، فقد صمت اللسان الداخلي عن الحديث السرّي الخفي مع الخالق، بسبب العداوة التي نشأت كثمرة طبيعيّة للخطيّة، فصارت كمن يسكنها شيطان أخرس. لهذا جاء السيّد المسيح طاردًا روح الشرّ والخطيّة، فينطق لسانها الداخلي بالحمد والتسبيح، وتصير طبيعتها شاكرة عِوض الجحود القديم.
لقد أدركت الجموع البسيطة عمل السيّد المسيح كمخلّص بينما تعثّر أصحاب المعرفة النظريّة، الفرّيسيّون، بسبب كبرياء قلبهم وتعبُّدهم لذواتهم فرأوا فيه كرئيس للشيّاطين لا كمخلّص من الشيّاطين!
بينما جاء السيّد المسيح يفتح أعين العميان لكي تبصر بالإيمان ملكوت السماوات في القلب انفضح عمى القيادات الدينيّة المتعجرفة، انكشف الفرّيسيّون العارفون بالكتب المقدّسة كجهلاء يرفضون المخلّص ويتّهمونه برئيس الشيّاطين. أمّا سرّ عَمى بصيرتهم فهو تركهم للعمل الرعوي الحق ليرعوا كرامتهم وبطونهم وخزائنهم عِوض رعايتّهم لشعب الله، فحلّت "الأنا" عِوض "الله نفسه"، هؤلاء يقول عنهم الرسول: "يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح" (في 2: 21)، ويعاتبهم الله في مرارة، قائلاً: "ألا يرعى الرعاة الغنم؟ تأكلون الشحم وتلبسون الصوف، وتذبحون السمين، ولا ترعون الغنم! المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لا تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وعنف تسلّطتم عليه... أيها الرعاة غنمي صار غنيمة!" (حز 34: 2-.
مثل هؤلاء الرعاة العميان يقودون العميان فيسقط الكل في حفرة (مت 15: 14)، وبدلاً من أن يصير قلبهم سماءً مقدّسة، ومسكنًا لله، يرتفعون بالشعب من مجدٍ إلى مجدٍ، إذ بقلبهم يلتصق بالتراب وينحدرون بالشعب من هوانٍ إلى هوانٍ حتى يبلغون بهم إلى أعماق الهاوية.
7. الكرازة في المدن والقرى
إذ فسد الرعاة الروحيّون يلتزم الله نفسه من أجل محبّته للنفس البشريّة أن يفتقد شعبه، يقول الإنجيلي: "ولما رأى الجموع تحنّن عليهم، إذ كانوا منزعجين ومنطرحين كغنم لا راعي لها" [36]. وفي سفر حزقيال يقول الرب: "هاأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها" (حز 34: 11)، فإنه ليس شيء أثمن لدى الله من النفس البشريّة التي أوجدها على صورته ومثاله. جاء إلينا بنفسه بكونه الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10: 11).
الأصحاح العاشر
سفراء الملك
اختار السيّد المسيح تلاميذه ورسله كسفراء عنه، يعملون بروحه القدّوس، ليحقّقوا ملكوته فينا.
1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا 1-4.
2. حدود الكرازة 5-6.
3. موضوع الكرازة 7.
4. إمكانيّات الكرازة 8-10.
5. سلوكهم أثناء الكرازة 11-15.
6. رفض العالم لهم 16-23.
7. عدم الخوف 24-33.
8. الحروب الداخليّة 34-42.
1. دعوة الإثنى عشر تلميذًا
"ثم دعا تلاميذه الإثنى عشر،
وأعطاهم سلطانًا على أرواح نجسة حتى يخرجوها،
ويشفوا كل مرض وكل ضعف" [1].
دعا السيّد هؤلاء الإثني عشر ليتتلمذوا على يديه، يسمعوه ويرافقوه في أعماله المعجزيّة وصلواته وحتى أثناء طعامه، لكي يتفهّموا بالروح القدس أسراره ويعيشوا بفكره. هذا الفكر هو ما نسميه بالفكر الإنجيلي أو الفكر الرسولي، عاشه الرسل إنجيلاً حيًا وتلمذوا آخرين عليه. وهكذا صار التقليد الكنسي في جوهره هو استلام هذا الفكر بطريقة حيّة عمليّة وتسليمه من جيلٍ إلى جيلٍ.
وقد ذكر الإنجيلي أسماء الإثني عشر رسولاً بعد أن أعلن السلطان الذي وُهب لهم من قبل الرب على الأرواح النجسة لإخراجها وعلى المرض وكل ضعفٍ، ويلاحظ في هذا الاختيار أمران:
أولاً: أن التلاميذ ليسوا أصحاب مواهب خارقة، أو من الشخصيّات البارزة في المجتمع، وإنما هم أناس عاديّون، بل وغالبيتّهم من طبقات فقيرة ليؤكّد أن فضل القوّة لله لا منهم.
ثانيًا: جاء الاختيار خليطًا عجيبًا من الشخصيّات، فمنهم متّى العشّار الذي يعتبره الكثيرون قد باع نفسه للرومان من أجل الربح المادي، وعلى نقيضه سمعان الغيور أو القانوني. فالغيورون هم جماعة من اليهود متعصّبون لقوميّتهم إلى أبعد الحدود يطالبون بالتحرّر من نير الحكم الروماني مهما كلّفهم الثمن. يرفضون قيام أي "ملك" غير الله نفسه، مستعدون للأسف أن يقوموا بأعمال تخريبيّة لأجل تحرير وطنهم من الرومان. ومن بينهم أيضًا سمعان بطرس المقدام، وأخوه أندراوس الذي يميل إلى الصمت، ويوحنا بن زبدي المملوء بعاطفة الحب، وتوما الكثير الشك. ففي المسيح يسوع اجتمع هؤلاء جميعًا ليتقدّسوا معًا كأعضاء بعضهم لبعض يعملون بروحٍ واحدٍ للكرازة بالإنجيل الواحد.
أما رقم 12 فكما سبق فأشرنا في أكثر من موضع يرمز إلى مملكة الله على الأرض، حيث يملك الثالوث (3) في كل جهات المسكونة الشرّق الغرب والشمال والجنوب (4).
2. حدود الكرازة
"هؤلاء الإثنا عشر أرسله يسوع وأوصاهم قائلاً:
إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريّين لا تدخلوا.
بل اذهبوا بالأحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [5-6].
في بدء كرازتهم حدّد لهم منطقة الكرازة "بالأمة اليهوديّة" دون أن يتجاوزوها إلى مدينة للسامريّين أو طريق للأم، على أنه قبيل صعوده أعلن لهم حدود الكرازة بقوله في نفس الإنجيل: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم" (28: 19). فإنه لم يسمح لهم بالكرازة بين الأمم إلا بعد أن يُعلن اليهود رفضهم للمسيّا. لم يكن هذا تحيزًا لليهود على حساب الأمم، وإنما لكي لا يتشكّك اليهود في رسالته المسيحانيّة، فإذا ما رفضوه ينفتح الباب للأمم، وإن كان السيّد المسيح نفسه لم يحرم السامرة من خدمته وبعض الأمميّين من التمتّع ببركات نعمه.
ويلاحظ أن الكلمة "أوصاهم" جاءت في اليونانيّة Paragellein وهي تستخدم في ظروف معيّنة، منها:
أولاً: في القيادات العسكرية في الجيوش، وكأن السيّد يمثّل القائد الأعلى في معركة دائمة ضدّ إبليس وكل أعماله. على تلاميذه أن يتهيّأوا للخدمة، لا كطريق للكرامة، بل للجهاد الروحي المستمر والقتال ضدّ عدوّ الخير نفسه. ليس ضدّ بشر، وإنما ضدّ الشيطان والقوات الروحيّة الشرّيرة (أف 6: 10-12).
ثانيًا: تستخدم من الصديق حينما يدعو أصدقاءه للمساندة، هنا يظهر السيّد المسيح في علاقته بتلاميذه على مستوى علاقة الصداقة فوق الرسميّات والبروتوكولات.
ثالثًا: يستخدمها المعلّم أو الفيلسوف مع تلاميذه ومريديه، وكأن السيّد المسيح يتحدّث مع تلاميذه كمريديه الذي يتتلمذون على يديه ليحملوا فكره.
رابعًا: تستخدم أيضًا في الأوامر الإمبراطورية، وكأنما السيّد المسيح هو الملك الذي يرسل سفراءه، يحملون سماته شهادة حق له، ويعلنون دستوره الروحي في حياتهم كما في كرازتهم.
ويرى القدّيس كبريانوس أن هذه الوصيّة لا تزال حيّة وتلتزم بها الكنيسة، فمدينة السامريّين تعني جماعة المنشقّين، وطريق الأمم يعني طريق الهراطقة[450]. فالكنيسة مع اتّساع قلبها للعالم كلّه المؤمن وغير المؤمن لتغسل أقدام الجميع، لا تقبل في شركتها جماعة المنشقّين أو تعاليم الهراطقة، بل تحذر أولادها وتحفظهم منهم.
3. موضوع الكرازة
"وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين:
أنه قد اقترب ملكوت السماوات" [7].
لقد حدّد موضوع الكرازة ألا وهو "التوبة"، بكونها طريق الملكوت السماوي. وقد سبق فعرّفنا التوبة أنها ليست جانبًا سلبيًا، أي مجرد تخلِّي عن الشرّ ورفض كل خطيّة، وإنما هي عمل إيجابي فعّالاً في حياة المؤمن، وهو قبول عمل الروح القدس فينا الذي يهب ويعطي ويشبع! التوبة هي تغيير لاِتّجاه القلب الداخلي والفكر وكل طاقات الإنسان، فبعدما كانت متّجهة نحو الأرضيّات تصير في المسيح يسوع ربّنا بالروح القدس متّجهة نحو ملكوت السماوات. بمعنى آخر فيما يرفض الإنسان الخطيّة وكل ما هو غريب عن الله إذ به ينعم بالله السماوي نفسه وكل ما له من نعمٍ وهباتٍ مشبعةٍ. وكأن التوبة هي تفريغ وامتلاء بغير انقطاع، ترك وأخذ، جوع وشبع في نفس الوقت.
لا يريدنا الله أن نسلك في حالة حرمان وكبت، وإنما بالعكس خلال التوبة يريدنا أن نعيش في حالة شبع وفرح وتهليل وتمتّع بالأمور الفائقة، فيسلك الإنسان على الأرض بفكر سماوي!
بهذا نستطيع أن نميّز بين التوبة العاملة فينا بالروح القدس والتوبة التي هي من صنع أنفسنا. الأولى تدخل بنا إلى ملكوت السماوات، فنعيش مع الآب في ابنه بالروح القدس، أمّا الثانية فهي حرمان ممّا هو أرضي، دون تمتّعٍ بما هو سماوي، الأولى توَلِّد فرح الروح ومحبّته وسلامه الخ. والثانية توََلِّد حزنًا قاتلاً وضيقًا في القلب وقلقًا ومرارة. الأولى تنطلق بالنفس من مجدٍ إلى مجدٍ لتبلغ إلى ذروة السماويّات، والثانية تنحدر بالإنسان من هوانٍ إلى هوانٍ، فيعيش في قنوطٍ مستمرٍ يدفع به إلى الهاوية!
4. إمكانيّات الكرازة
"اشفوا مرضى، طهِّروا بُرصًا، أقيموا موتى، اخرجوا شيّاطين،
مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا.
لا تقتنوا ذهبًا ولا فضّة ولا نحاسًا في مناطقكم.
ولا مذودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا،
لأن الفاعل مستحق طعامه" [8-10].
قبل أن يسألهم عدم اقتناء ذهب أو فضّة أو نحاس، قدّم لهم إمكانيّات جبّارة تسندهم في الخدمة من شفاء للمرضى وتطهير للبرص وإقامة الموتى وإخراج الشيّاطين. وكأن السيّد لم يحرمهم من الأمور الزمنيّة إلا بعد أن قدّم لهم كنوز محبّته العميقة.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ أراد أن يدرّبهم على كل الكمال طلب منهم ألا يفكّروا فيما يخص الغد... فإن كان يرسلهم كمعلّمين للعالم كله، هذا جعلهم وهم بشر ملائكة، مبرّرا إيّاهم من كل اهتمام أرضي حتى لا ينشغلوا إلا باهتمام واحد وهو التعليم، بل بالأحرى أراد أن يحرّرهم حتى من هذا الأمر بقوله: "لا تهتمّوا كيف أو بما تتكلّمون" [19][451].]
يلتزم التلميذ ألا يقتني شيئًا، فإن السيّد المسيح هو ذهبه وفضّته ونحاسه وطعامه وثوبه وطريقه وعصاه.
السيّد المسيح هو ذهبنا، فإن كان الذهب في الكتاب المقدّس يُشير إلى الحياة السماويّة، فإن المسيح هو سرّ الدخول بنا إلى الحياة السماويّة، أو هو كنزنا السماوي الذي يسحب قلبنا إليه. السيّد المسيح هو فضّتنا، فإن كانت الفضّة ترمز لكلمة الله (مز 12: 6)، فإنه بالحق حكمة الله الحيّ الذي يعمل فينا وبنا لكي يدخلنا إلى حضن أبيه. وهو نحاسنا، نلبسه فنصير به أقوياء ندك الطريق فلا تقدر العثرات أن تعوقنا عن الملكوت. وهو الطعام الذي به نقتات فنعيش في حالة شبع دائم، فلا نشتهي الزمنيّات ولا نطلب ملذّاتها. وهو الثوب الذي به نلتحف فيسترنا في عينيّ الآب، ونُحسب كأبرار في دمه الطاهر. إنه طريقنا الذي به ننطلق إلى أبيه لنحيا معه في أحضانه، شركاء في المجد الأبدي. إنه العصا التي حطّمت الشيطان خلال الصليب، فصار لنا الغلبة والنصرة. إذن لم يحرم السيّد المسيح تلاميذه من شيء، مقدّمًا نفسه سرّ شبع لكل احتياجاتهم.
أما بخصوص الأحذية، فإنها إذ تُصنع من جلد الحيوانات الميّتة ترمز إلى الأعمال الشرّيرة المهلكة[452]، لهذا يقول القدّيس جيروم: [لأنه عندما ألقى الجند القرعة على ثياب السيّد لم يكن معها أحذية ينزعونها عنه[453]. لأنه وإن مات السيّد بالجسد لكن لم يوجد فيه أعمال ميّتة.]
يمكننا أن نقول بأن الإمكانيّات التي قدّمها السيّد لتلاميذه هي إمكانيّات التوبة في أعلى صورها، فإنهم إذ يقتنون السيّد المسيح نفسه عِوض الذهب والفضّة والنحاس والمذود والثياب والعصا، فيكون هو كل شيء بالنسبة لهم، يستطيعون أن يطالبوا العالم بالتوبة، أي قبول المخلّص كمصدر شبع لهم عِوض الخطيّة التي قدّمت لهم الضيّق والعوز والمرارة.
لا يستطيع الكارز بالسيّد المسيح أن يقدّم للآخرين السيّد المسيح كسِر غِنى النفس وشفائها، بينما يرتبط هو بأمور العالم ويستعبد نفسه لها!
يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على هذه الوصيّة الإلهيّة للتلاميذ الكارزين بقوله: [إنه يَقطع كما بمنجل محبّة المال التي تنمو دائمًا في القلوب البشريّة[454].] لكنّه وهو يقطع وهبهم البديل الذي به يستطيع الرسول بطرس أن يقول: "ليس لي فضّة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإيّاه أعطيك؛ باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش" (أع 3: 6). لم يعطه مالاً لكنّه أعطاه باسم السيّد صحّة التي هي أفضل من المال.
كما يُعلّق أيضًا ذات القدّيس بقوله: [للكنيسة ذهب لا لكي تخزنه، وإنما لتوزِّعه وتنفقه على المحتاجين[455].]
5. سلوكهم أثناء الكرازة
"وأيّة مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق،
وأقيموا هناك حتى تخرجوا.
وحين تدخلون البيت سلّموا عليه.
فإن كان البيت مستحقًا فليأتِ سلامكم عليه،
ولكن إن لم يكن مستحقًا فليرجع سلامكم إليكم" [11-13].
عندما يدخلون مدينة أو قرية يبحثوا عن بيت له سمعته الطيّبة ويقيموا فيه، ولا ينتقلوا من بيت إلى آخر حتى لا تتحوّل خدمة الكلمة إلى خدمة المجاملات، وإنما يركِّزون فكرهم وجهدهم في العمل الكرازي وحده.
هذا ومن جانب آخر أراد السيّد لهم أن يعيشوا بلا همّ، ليس فقط لا يقتنون ذهبًا أو فضّة أو نحاسًا، وإنما أيضًا لا يضطربون من جهة الخدمة نفسها؛ عليهم أن يقدّموا الكلمة كما هي ولا يضطربوا إن رفضها