" إلى تيطس الابن الصريح حسب الإيمان المشترك "
( تى 1 : 4 )
مقدمة
كان الرسول بولس من أعظم العمالقة الذين ظهروا على صفحة التاريخ البشرى ، وأكثرهم قدرة على العمل ، وهو من ذلك الصنف من الناس ، الذى لا يعد الواحد منهم فرداً واحداً ، بل جيشاً بأكمله فى النضال والمعركة ، وإذا كان إيليا فى القديم ، ومن بعده أليشع ، قد وصفا بأنهما « مركبة إسرائيل وفرسانها » ، فإن هذا الوصف يمكن أن يقال عن بولس ، دون شبهة أو تردد، فى علاقته بالكنيسة المسيحية ، إسرائيل اللّه ، وإذا كانوا قد ألفوا القول - وهم يتحدثون عن جلد نابليون بونابرت فى المعارك - بأنه كان يكفيه أربع ساعات من النوم يومياً ، ... فإن جلد بولس فى المعارك الروحية العظيمة التى كان يخوضها ، أعظم وأروع إنه كان يسهر الليل والنهار فى الخدمة دون أدنى ضجر أو تبرم أو ضيق ، ولكن بولس كان لا يؤمن بالانفرادية فى العمل ، وكان يجمع حوله المساعدين النافعين . كان كالقائد فى المعركة يوزع العمل ينجاح ، على زملائه من الضابط والجنود ، وكانت أقسى لحظات حياته أن يترك ولو لحظة واحدة من معاونيه ومساعديه ، وكان تيطس واحداً من الأوفياء الصادقين الذين لا يستطيع الاستغناء عنهم ، وقد ضاف بالدنيا فى ترواس عندما غاب عنه هذا الصديق : « ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح وانفتح لى باب فى الرب ، لم تكن لى راحة فى روحى لأنى لم أجد تيطس أخى » ( 2 كو 2 : 12 و 13 ) كان بولس يثق ، فكراً وعاطفة وإرادة بتيطس وبكل الجنود العاملين معه فى معركة المسيح ، وسنتناول اليوم دراسة تيطس وما خلف وراءه من أثار مباركة فى العصور كلها ، ولذا يحسن متابعة قصته فيما يلى :
تيطس والحرية المسيحية
كان تيطس شاباً يونانياً التقى ببولس ومن المرجح أنه آمن بالمسيح على يديه: «الابن الصريح حسب الإيمان المشترك» وقد واجهت بولس وواجهته من البداءة مشكلة قاسية حدثنا عنها الرسول فى رسالة غلاطية: «ولكن لم يضطر ولا تيطس الذى كان معى وهو يونانى أن يختتن . ولكن بسبب الأخوة الكذبة المدخلين خفية الذين لم نذعن لهم بالخضوع ولا ساعة ليبقى عندكم حق فى الإنجيل » ( غل 2 : 3 - 5 ) .. كانت المشكلة أن هناك فريقاً من اليهود الذين آمنوا بالمسيح ، ولكنهم كانوا يؤمنون أن اليهودية لابد أن تكون طريقاً للعبور إلى المسيح ، والآتى إلى المسيحية من الأمم لابد أن يتهود أولا ، ويتمم الناموس الطقسى قبل أن يقبل فى الكنيسة المسيحية، ومن ثم كانوا يصرون على ضرورة ختان كل مؤمن كعلامة مؤكدة لإيمانه المسيحى ، وقد سبب هذا الفريق بلبلة ونزاعاً وكان اهتمامهم الأكبر هو التجسس على من يراعى أو لا يراعى الناموس الطقسى، فهذه كبيرة الكبائر التى يتهم بها الإنسان سراً أو علناً ولأجل ذلك وصفهم الرسول بأنهم جواسيس الحرية المسيحية التى ينبغى أن يتمسك بها المسيحيون المؤمنون: «ليتجسسوا حريتنا التى لنا فى المسيح كى يستعبدونا» . ... ورفض تيطس بتشجيع بولس وتأييده أن يختتن ، وقد يكون عجيباً أن نلاحظ الفرق بين تيطس وتيموثاوس فى هذا الأمر ، ففى الوقت الذى ختن فيه بولس تيموثاوس ، رفض أن يختتن تيطس ، ... كان تيموثاوس نصف يهودى ، إذ كانت أمه أفنيكى يهودية الأصل ، ورأى بولس وقاية للعثرة أن يختن ، ... لكن تيطس كان أممياً فلو أن الختان كان ضرورة له ، لأضحى الختان ضرورياً لكل أممى ، ولعادات الطقسية تتسرب إلى المسيحية،... وتهدد بذلك «حريتنا التى لنا فى المسيح» .... وفى الحقيقة إن بولس عرف الحرية المسيحية المتوازنة بين تيموثاوس وتيطس ، وهذه الحرية هى التى يمكن أن نطلق عليها الحرية المنضبطة ، ... وحقاً هناك قول مشهور يصف الحرية : « الحرية يلزم أن تقيد لكى تمتلك » ويمكن أن نرى هذا التعبير ذاته يصف به الرسول بولس نفسه : « وللذين بلا ناموس كأنى بلا ناموس . مع أنى لست بلا ناموس للّه بل تحت ناموس للمسيح » ( 1 كو 9 : 21 ) . إن الحرية هى القاعدة فى المسيح والمسيحية وليست استثناء ، وهى ليست مجرد حرية شكلية أو نظرية ، بل حرية حقيقية عملية ينبغى أن يحرص عليها بثبات ، ويناهض كل ماعداها ، ومن ثم نجد الرسول يقول للغلاطيين : « فاثبتوا إذاً فى الحرية التى قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضاً بنير عبودية» ( غل 5 : 1 ) .. كان العبيد الذين حررهم إبراهام لنكولن يأتون إليه ويسألونه إلى أى مدى نتمتع بالحرية ، وكان الجواب : أنتم أحرار كالهواء الذى تستنشقونه ، وكالشمس التى تتمتعون بشعاعها فى كل مكان !! .. وفى معنى أعمق وأعظم يمكن أن نقول للمسيحى .. أنت حر تتمتع بحريتك التى جاء المسيح ليعطيها لك كاملة غير ناقصة أو محدودة!!.. لكن الحرية المسيحية مع ذلك ستبقى على الدوام واقعة بين تيطس وتيموثاوس ، فهى ليست حرية جامحة بلا قيود ، أو كما قال أحدهم إن بولس وقد تحرر من ناموس موسى الطقسى الذى أتمه المسيح فى جسده على الصليب ، لا لكى يصبح بلا ناموس ، بل ليصبح أمام ناموس أعظم وأكمل هو ناموس المسيح ، لقد تحرر تيطس من الناموس الطقسى ، وأضحى خادماً لناموس المسيح ، أو قانون المسيح ، أو مبدأ المسيح أو قيد المسيح ، لقد أضحت حرية تيطس هى الحرية المنضبطة ، والحرية المنضبطة هى أسهل الحريات وأصعبها فى الوقت نفسه ، ... إنها لم تكن ولا يمكن أن تكون الفوضى التى تحطم كل مبدأ وكل قيد ، بدعوى الحرية . عندما ثارت الشعوب على الاستبداد والطغيان والرق وقف العالم كله ليهتف بالحرية ، وقامت الثورة الفرنسية فى العصر الحديث لتنادى بالحرية والمساواة والأخاء ، وأضحت أسعد الدول هى التى تنعم بالحرية ويتساوى فيها الغنى والفقير ، والقوى والضعيف ، والعالم والجاهل ، .. لكن هذه الحرية قد انطلقت إلى الفوضى والإباحية والفساد ، بالزعم أننا أحرار نفعل ما نشاء وكما نريد ، فخرج الشباب فى السنين الأخيرة يحطمون كل قيد اجتماعى أو أدبى أو دينى باسم الحرية ، وتفككت الأسر، ولم يعد للأب سلطان على ولده، ولا للأم سلطان على ابنتها ، وتحول المجتمع إلى الفساد والدعارة وشباب الهيبز والخمر والمسكر والمارجونا وغيرها من صور الضياع والعربدة والانحلال!!.. ولعلنا نستطيع أن نرى قيوده السامية ، متى ذكرنا بعض صورها فمثلا : إن حرية المسيحى مقيدة بقيد المحبة أو كما قال الرسول للغلاطيين وهـــو يناقش الحريــــــــــة : « بالمحبة أخدموا بعضكم بعضا » ( غل 5 : 13).. ولسنا نظن أن هناك قيد أقوى من قيد المحبة ، ... فالأم المربوطة إلى جوار سرير ولدها المريض وهى لا تعرف راحة أو هدوء ، أو نوماً ، ليس هناك من قيد يقيدها أقوى من قيد المحبة ، . والأب الذى يبذل فى عمله أضعاف أضعاف ما يفعله الأجير دون أن يتقيد بوقت أو جهد ، إنه يفعل كل ذلك مدفوعاً تماماً بدافع المحبة !! .. ولعل أوغسطينوس وهو يقول: «أحب وبعد ذلك افعل ما تشاء » كان يقصد هذه الحقيقة العظيمة فى حياة الناس!!.. والقيد الثانى للحرية هو قيد النقاوة والطهارة ... تحدث تشارلس هارون اسبرجن عن زيارته ذات مرة لمكتبة كلية الثالوث فى كامبردج حيث يوجد هناك تمثال جميل للورد بايرن ، والجميع يعلمون أن هذا الكاتب الإنجليزى وصف نفسه فى السادسة والثلاثين من عمره بأن أيامه أضحت ورقة صفراء ، إذ ولت من حياته زهور المحبة وثمارها ، وجاء على أثر ذلك الدود والسوس والحزن ، وهذا كل ما وصل إليه !! .. وعند أخذ المشرف على المكتبة اسبرجن وطلب إليه أن يتأمل التمثال ، بدا النظر وكأنما يكشف عن عبقرية الكاتب الشاعر ، وكان المظهر جميلا رائعاً !!.. على أنه عندما نقله إلى زاوية أخرى وطلب منه أن يتطلع إلى وجه بابرن بدا المنظر مخيفاً ، وكأنما هو ذات الشيطان عندما قال فى الفردوس: «إننى أفضل أن أحكم فى جهنم من أن أخدم فى السماء»... وسأل اسبرجن متعجباً : هل تعتقد أن الفنان قصد أن يعطى النظريتين ، وأجابه الآخر : نعم اعتقد ذلك ، .. إن إباحية بايرن مع عبقريته لم تعرف قيد النقاوة والطهارة الذى كان يمكن أن يحميه من الدمار وهو فى أوج الشباب وقوة الرجولة !! .. وناموس المسيح وهو يمنحنا الحرية ، لا ينسى أن يقيدنا بالنقاوة الداخلية التى تهتز لأقل غبار يلوث ثوب الحياة المسيحية النقى الجميل !! .. وقد يأتى القيد أيضاً عن طريق الوداعة ، إذ أن الحرية تعرض صاحبها للشموخ والكبرياء ، ومن واجبنا أن نقاوم الكبرياء من كل وجه فنقاومها أولا فى أنفسنا فلا نكون معجبين بنفوسنا ، والمتكبر فى الواقع إنسان يجهل حقيقة نفسه ، إذ لا شئ فينا يدعو إلى الكبرياء ، وكل ما نتمتع به ، ليس إلا نعمة اللّه السابغة علينا ، .. عندما رأى يوحنا نيوتن رجلا يقودونه إلى الإعدام صاح : هذا مصير يوحنا نيوتن لولا نعمة اللّه ، ... كما أنه من واجبنا أن نترفق بضعفات الآخرين فإذا أخذ إنسان فى ذلة ما ، فمن واجبنا أن نصلح هذا بروح الوداعة والتواضع ناظرين إلى أنفسنا لئلا نجرب نحن أيضاً ... ومما يؤثر عن دانيال وبستر أنه أبصر - وهو محام شاب ، ذات ليلة من ليالى ديسمبر القاسية والثلوج تتساقط - امرأة تقترب من بيته ، وتتلفت هنا وهناك بكيفية مريبة ، فتابعها ليجدها تمسك بلوح من الخشب كان موضوعاً أمام المنزل ليسهل السير عليه فى أثناء تكاثر الثلوج ، .. فتابعها الرجل ليجد أنها تسكن كوخاً فى أطراف المدينة وبيدو أنها كانت فى حاجة إلى خشب للتدفئة،. فامتلأ وبستر ألماً وإشفاقاً على المرأة ، وفى اليوم التالى أبصرت المرأة كمية كبيرة من الخشب أمام سكنها ، أرسلها وبستر الذى أراد أن يصلح زلتها وسرقتها بروح الوداعة والإحسان والحب والرحمة !! .. وهناك قيد البذل والتضحية مهما يكن لونه ، أو سببه ، فقد يكون السبب أن الآخرين يرزحون تحت أعباء ثقيلة قاسية . . أبصر أحدهم منظراً موثراً فى مدينة نيويورك إذ رأى أحد العمال يسير مترنحاً تحت ثقل كتلة ضخمة من الخشب ، وقد ضاعفت الزوابع والعواصف إحساسه بالثقل إذ كان اليوم عاصفاً والرياح تدفعه هنا وهناك ، وإذ رأى ذلك عامل آخر كان يسير فى ذات الاتجاه ، جاء من خلفه ووضع كتفه تحت الطرف الآخر من الكتلة فى صمت ، قد أحس الأول بقدرة أو فى على السير ، وعندما انتهى إلى آخر المطاف ، انسحب الآخر فى هدوء كما بدأ .. لقد كان قيده نابعاً من نفسه دون ضغط من أحد ، .. وعندما نتحمل حرماناً اختيارياً حتى لا نعثر الآخرين ، نضع أنفسنا تحت ناموس المسيح بملء الحرية والاختيار !! ..
إن القارئ لرسالة بولس إلى تيطس يكتشف هذه الحرية المتوازنة فى أروع صورها ، الحرية التى تدعو إلى التعقل والورع وضبط النفس ، بل التى هى ثمرة المسيحية العظيمة التى جمعها الرسول فى عبارة عظيمة رائعة ، قال عنها واحد من مشاهير الوعاظ : لو أنه قيل لى أمامك عظة واحدة تجمع فيها الإنجيل كله فى رسالة ، لما وجدت أفضل من قول الرسول لتيطس : «لأنه قد ظهرت نعمة اللّه المخلصة لجميع الناس معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية ونعيش بالتعقل والبر والتقوى فى العالم الحاضر ، منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد اللّه العظيم ومخلصنا يسوع المسيح الذى بذل نفسه لإجلنا لكى يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً فى أعمال حسنة . تكلم بهذه وعظ ووبخ بكل سلطان لا يستهن بك أحد » .. ( تى 2 : 11 - 15 ) وقد وعظ الشاب بشخصه وحياته وتعليمه عظة الحرية المسيحية التى جاء بها المسيح مخلصنا إلى هذا العالم !! ..
تيطس والصداقة الوفية
يقول الرسول بولس فى رسالته إلى كورنثوس : « ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح وانفتح لى باب فى الرب ، لم تكن لى راحة فى روحى لأنى لم أجد تيطس أخى » ( 2 كو 2 : 12 ، 13 ) ... « لكن اللّه الذى يعزى المتضعين عزانا بمجئ تيطس . وليس بمجيئه فقط بل أيضاً بالتعزية التى تعزى بها بسببكم وهو يخبرنا بشوقكم ونوحكم وغيرتكم لأجلى حتى إنى فرحت أكثر » ( 2 كو 7 : 6 ، 7 ) .. ومن هذين النصين نتبين مدى حاجة الرسول بولس إلى تيطس ، ومدى القلق الذى اكتنفه فى ترواس عندما غاب الشاب الصديق عنه ، ومدى التعزية التى وجدها عندما جاءه من كورنثوس يحمل الأخبار المعزية الطيبة ... قيل إن أحد الملوك أهدى تابعاً له كأساً من ذهب ، وأعطى قبلة لآخر فحسد حامل الكأس صاحب القبلة ، لأن القبلة المعبرة عن صدق المحبة وعمقها ومجدها وجلالها ، لا يمكن أن تساويها كنوز العالم وثرواته وذهبه ، للنفس البشرية الخالدة العطشى للمعنويات والأدبيات والروحيات ، ... وقد يكون من السهل تصور حاجة تيطس إلى بولس ، أو حاجة الأضعف إلى الأقوى ، والأصغر إلى الأكبر ، ولو أن تيطس هو القائل إنه فى أية مدينة من المدن ، كان يسعى إلى بولس ، ولم يجده ، ولهذا لم تكن له راحة فى روحه ، لبدا الكلام معقولا أو مقبولا ، أما أن يأتى الكلام من بولس ، ويبدو فيه بولس فى حاجة إلى تيطس ، فإن هذا هو الغريب ، ... ولكن الأمر مع ذلك لا يدعو إلى العجب ، لأن النفوس الكبيرة العظيمة ، كلما كبرت واتسعت وعظمت ، كلما كانت فى حاجة أكثر إلى التجاوب النفسى مع الآخرين ، وليس أدل على ذلك من أن المسيح فى جثسيمانى كان فى حاجة إلى بطرس وابنى زبدى ليسهروا معه ولو إلى ساعة واحدة ، وكان الأمر نفسه بالنسبة لبولس الجياش العاطفة المترع الأحاسيس ، فقد كان فى حاجة - فى ضحك الحياة أو مأساتها - إلى من يقف معه متجاوباً مع ظروفه وأوضاعه ، على أساس قوله المعروف « فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين » ( رو 12 : 15 ) لقد تعزى بولس كثيراً وارتفعت روحه ، وكان أشبه بالغريق الذى طغت عليه أمواج الآلام والأحزان ، وإذا بيد رقيقة رفيقة تمسك به وتقوده إلى شاطئ الراحة والتعزية والفرح ، ... كان فى وادى الاتضاع حيث واجه العداوات من داخل الكنيسة وخارجها ، وكثيراً ما كان يبدو واقفاً وظهره إلى الحائط ، وقد استبد به الضيق والحزن والتعب ، ... ولكن اللّه الذى يشفق على المتضعين المجربين والمتعبين ، والذى سلموا أمورهم وأوضاعهم ليدى اللّه ، يرسل له التعزية فى رسالة طيبة وصديق محب .. وقد جاءه تيطس ببشارة طيبة عن الأحوال فى كورنثوس أثر الأزمة التى حكم فيها بولس بطرد الزانى من الكنيسة حتى يتوب ويرجع إلى اللّه ، وقد نفذت الكنيسة ما قاله بولس ، وعندما تاب الرجل قبلته الكنيسة أيضاً بتوجيه بولس ، وحمل تيطس أخباراً مشجعة عن مشاعر الكنيسة تجاه الرسول العظيم الذى كان رابضاً فى وادى الاتضاع ، واللّه دائماً يعزى المتضعين ، ... بل إن مجرد مجئ تيطس إلى بولس كان رفعاً لنفسه المنحنية المتألمة المحزونة ، وكان هذا المجئ ، عند بولس ، أكثر من مجرد تلاق مع صديق محب أمين ، إذ هو مجئ اللّه نفسه إلى خادمه فى شخص تيطس للتقوية والتعزية ، ... يوجد أناس لا يرون فى الصديق الوفى إلا مجرد إنسان ، . يرون تيطس ، ويسرون بتيطس ، ولا يرون على المسرح غير تيطس ، أما بولس فقد تغنى بالشكر للّه ، لأنه رأى اللّه يأتى إليه فى شخص تيطس ، .. كتب أحد الأصدقاء إلى صديق له كان يجتاز فى ظروف قاسية ، وامتلأت رسالته بالتقوية والتشجيع ، ورد عليه الصديق قائلا : « لقد كنت سعيداً بتسليم خطابك ، فقد كان لى بمثابة مجئ تيطس » ... وأنا سعيد لأن العناية ترسل تيطس عن طريق البريد فى هذه الأيام !! .. أيها الأخ الصديق ، قد لا يكون من الضرورى أن تبذل جهداً خارقاً لمعونة الآخرين وتعزيتهم ، وقد لا يزيد الأمر عن كلمة طيبة أو تحية رقيقة ، أو ابتسامة حلوة ، أو تعزية مشجعة لإنسان يقف على الخط الفاصل بين النجاح والفشل،... والكلمة المشجعة تفعل ما هو أكثر من السحر ، إن جاز هذا التعبير ، فى نفس اليائس المنكوب!!.. إن كثيرين يحتاجون إلى روح تيطس فيك ، حتى تعمل على تعزية الآخرين !! ..
تيطس والخدمة المشتركة
قال بولس فى استهلال حديثه إلى تيطس فى رسالته إليه: «من أجل هذا تركتك فى كريت لكى تكمل ترتيب الأمور الناقصة وتقيم فى كل مدينة شيوخاً» ( تى 1 : 5 ) ... وهى كلمات رائعة لمن يحسن التأمل فيها، رائعة فى صدورها من بولس ، ورائعة فى اتجاهها إلى تيطس، ورائعة فى الإعلان الكاشف عن العمل الذى يحتاج إلى الكمال ، .. أما من حيث بولس فقد كانت سياسته على الدوام كقائد ، شجب الانفرادية فى العمل ، وعدم توزيع المسئولية على المساعدين والمعاونين مهما اختلفت درجات جهدهم ومواهبهم ، .. وفى الحقيقة إن الخدمة المسيحية لا تعترف على الإطلاق بالانفرادية فى العمل ، وسياسة اللّه الثابتة فى العهدين القديم والجديد ، تأخذ بنظام المشاركة ، ومنذ ذلك التاريخ القديم الذى وقف فيه يثرون يراقب موسى وهو يواجه الشعب بمفرده ثم يقول له : « ليس جيداً الأمر الذى أنت صانع . إنك تكل أنت وهذا الشعب الذى معك جميعاً . لأن الأمر أعظم منك . لا تستطيع أن تصنعه وحدك . الآن اسمع لصوتى فأنصحك . فليكن اللّه معك . كن أنت للشعب أمام اللّه ، وقدم أنت الدعاوى إلى اللّه . وعلمهم الفرائض والشرائع وعرفهم الطريق الذى يسلكونه والعمل الذى يعملونه وأنت تنظر من جميع الشعب ذوى قدرة خائفين اللّه أمناء مبغضين الرشوة وتقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات فيقضون للشعب كل حين . ويكن أن كل الدعاوى الكبيرة بجيئون بها إليك ، وكل الدعاوى الصغيرة يقضون هم فيها . وخفف عن نفسك فهم يحملون معك. إن فعلت هذا الأمر وأوصاك اللّه تستطيع القيام . وكل هذا الشعب أيضاً يأتى إلى مكانه بالسلام» ( خر 18 : 17 - 23 ) .. ومنذ ذلك التاريخ الذى دعم فيه هرون وحور يدى موسى فى المعركة مع عماليق ، وهاجمت دبورة بعد ذلك بسنين عديدة ، الذين لم يدخلوا الحرب مع باراق، وأقاموا بين الحظائر لسمع الصغير للقطعان ، أو بقوا على الحياد فاستحقوا اللعنة كميروز التى لم تأت لمعونة الرب بين الجبابرة ، واحتاج جدعون فى معركته مع المديانيين إلى الثلثمائة الذين يحملون أبواقهم وجرارهم ومصابيحهم المنيرة .. وفى العهد الجديد اختار المسيح الاثنى عشر ثم السبعين وأرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه . وبولس كانت سياسته الدائمة شجب الانفرادية ، ومع أنه كان سجيناً فى الزنزانة ، إلا أنه مع ذلك كان القائد الذى يرسل مساعديه إلى هنا أو إلى هناك من ميادين العمل ، إذ أرسل كريسكيس إلى غلاطية وتيطس إلى دلماطية ، .. كم يحتاج الحمقى من القادة والمتغطرسون منهم إلى إدراك هذه الحكمة التى عاشها بولس طوال حياته ، وهو لا يتخلى عن الحاجة إلى المساعدين !! .. ومع أن تيطس لم تكن له البتة قدرة بولس ، إلا أنه كان يرحب بأى تكاليف يكلفه به الرسول العظيم ، ويبدو أنه كان بطبيعته أكثر شجاعة وصلابة من تيموثاوس الذى كان يتحلى بالرقة المتناهية ، .. وقد عهد إليه الرسول بمهام مختلفة فى السفر هنا وهناك وجمع المال الخدمة اللّه ومساعدة المحتاجين ، وتكميل الأمور الناقصة فى كريت والقيام بالرعوية هناك رغم صعوبة العمل بين الكريتيين الذين يجب سد أفواههم إذ هم وحوش ردية بطون بطالة يحتاجون إلى التوبيخ الصارم !! ..
كان تيطس شاباً فى قوة الشباب ، وكانت شمسه تتألق فى الظهيرة ، فى الوقت الذى كانت شمس بولس تسرع نحو الغروب ، وكان من المستحيل على بولس ، سواء من ناحية المكان أو الزمان أن يعمل كل شئ ، . كان يضع الأساس ليبنى عليه آخر ، وكان يزرع ليسقى غيره ، وكانت مملكة اللّه ميداناً فسيحاً لجميع ليقوموا بالخدمة فيها دون أن تكون حكراً لقوى أو عظيم بمفرده ، وقد حمل تيطس الرسالة بوفاء وأمانة وشجاعة ، أبى مع غيره أن يسقط العلم من يد القائد إلى الأرض دون أن تتلقفه اليد الفتية التى حل بها يشوع محل موسى ، وأليشع محل إيليا ، وتيموثاوس وتيطس ولوقا وسائر رفقائه محل بولس ليبقى العمل الإلهى مستمراً من جيل إلى جيل بالروح الحية القوية المنتصرة الغيور !! ..
وما أجمل أن يختم بولس رسالته إلى تيطس قائلا : « حينما أرسل إليك أرتيماس أو تيخيكس بادر أن تأتى إلىَّ إلى نيكوبوليس لأنى عزمت أن أشتى هناك . جهز زيناس الناموسي وأبلوس باجتهاد للسفر حتى لا يعوزهما شئ وليتعلم من لنا أيضاً أن يمارسوا أعمالا حسنة للحاجات الضرورية حتى لا يكونوا بلا ثمر . يسلم عليك الذين معى جميعاً . سلم على الذين يحبوننا فى الإيمان. النعمة مع جميعكم . آمين » ( تى 3 : 12 - 15 ) .