" ويوسف الذى دعى من الرسل برنابا
الذى يترجم ابن الوعظ وهو لاوى قبرسى الجنس "
( أع 4 : 36)
مقدمة
كتب جيمس ويلبورن فى مجلة الكريستيان هيرالد فى فبراير عام 1952 الحادث الذى ترك أثره العميق فيه طوال حياته ، ... فقد كان وهو شاب صغير فى دراسته الثانوية ، - وكان من أسرة فقيرة تسكن فى قرية صغيرة مجتهداً فى الدراسة ، غير أن النتيجة فى النصف الأول من العام الدراسة كانت مخيبة لأمله إلى حد بعيد ، حتى أنه كان خجلا من أن يواجه أحداً فى القرية بها ، وكان خجلاً منها أيضاً أمام أبويه ، وتصادف أن التقى فى ذلك الوقت ، أمام دكان صغير فى القرية ، براعى الكنيسة ، الذى لما علم بالنتيجة قال لويلبورن وهو يضع يده برفق على كتفه: يا ابنى إنك تستطيع أن تفعل حسناً وستفعل !! ... كان الشاب الصغير فى تلك اللحظة يقف على الخط الفاصل بين النجاح والفشل ولم يدر الراعى أن مجرد هذه الكلمات أنقذته من الضياع والهزيمة ، وأنها عاشت معه طوال حياته ، يواجه بها الحياة كلما دخل فى معركة قاسية مع الظروف ، إذ كان يطل عليه الوجه السمح الكريم الذى غمره بالعطف فى لحظة فشل !!! ... نحن لا نعلم من هو هذا الراعى الطيب ، ولكنه يذكرنا على أية حال ببرنابا الرجل الصالح السمح القلب الكريم الخصال الذى مد يده بالمعونة المادية والمعنوية لكل محتاج وعاثر وبائس ، وكان واحداً من الأعمدة التى ارتكز عليها بنيان الكنيسة الأولى المؤسسة على يسوع المسيح . ويكفى أنه الرجل الذى أبرز لنا بولس الرسول ، ودفعه إلى الأمام عندما لم يستطع بولس أن يشق طريقة سوى بالصعوبة البالغة وسط مخاوف الكثيرين الذين ساورتهم الشكوك حول صحة إيمانه وحقيقة موقفه بعد أن اضطهد الكنيسة اضطهاداً قاسياً مخيفاً . إن قصة برنابا جديرة بأن نذكر من وجوه متعددة فيما يلى :
برنابا ومن هو !! ؟
يضع فرانسس بوردلون فى كتابه الشخصيات الصغرى فى الكتاب المقدس برنابا بين « الأضواء الأقل » ولا يرجع هذا فيما اعتقد إلى صغر شخصيته أو ضآلتها ، بل إن مشكلته الأساسية أنه ظهر إلى جانب بولس وإلى جواره ، وكل الذين وقفوا إلى جانب هذا الرسول العملاق ، خفتت أضواؤهم بجانب نوره الباهر ، ... مع أنه فى المنظر كان على الأغلب أعظم من بولس وأبهى وأجمل : « فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس إذ كان هو المتقدم فى الكلام . فأتى كاهن زفس الذى كان قدام المدينة بثيران وأكاليل عند الأبواب مع الجموع وكان يريد أن يذبح » ( أع 14 : 12 ، 13 ) .. وكان زفس أو جوبيتر أو زيوس هو كبير الآلهة عند الإغريق ، وهرمس هو إله التجارة والأسواق ، وكانت مهمته الأساسية الإخبار أو الإعلان عن الآلهة ، ولذا كانوا يعدونه إله الفصاحة والبيان . .. أو فى لغة أخرى كان بولس فى نظر أهل لسترة رسول برنابا ، أما برنابا فكان يبدو فى نظرهم أنه الأعظم !! .. وقد يكون بالمقارنة مع بولس أقل منه قدرة فى الكلام ، لكن ذلك لا يعنى أنه لم يكن فصيحاً أو مقتدراً فى البلاغة والتعبير لقد كان اسمه الأول « يوسف » لكنه عرف فيما بعد باسم « برنابا » ومعناها « ابن الوعظ أو ابن التعزية أو ابن التشجيع » ، وأياً كانت الترجمة فإنه من الواضح أن الرجل كان يملك لساناً فضياً ساحراً يتكلم به إلى الناس ، واعظاً ، ومعزياً ، ومشجعاً ، وكانت كلماته تبلغ الأعماق ، فترسل السكينة إلى النفوس المتألمة الشقية ، وفى ذلك يقول ج . جرينهوج : « لقد أعطاه التلاميذ هذا الاسم لأن قلبه وحياته كانا مترعين بالأفكار الحنون والعواطف الدافئة والمحبة الصادقة ، وهو الرجل الذى كانت روحه النبيلة المنكرة للذات تخلو من كل ألوان الحسد أو الغيرة ، ولعل علاقته الكاملة ببولس خير برهان على ذلك ، وقد كان مركزه مهيباً ومرتفعاً وعد واحداً من الرسل ، فقد قال عنه لوقا فى إيقونية : « فانشق جمهور المدينة فكان بعضهم مع اليهود وبعضهم مع الرسولين » ( أع 14 : 4 ) .. أى بولس وبرنابا .. وفى أنطاكية كان هو الأسم الأول بين القادة فيها : « وكان فى أنطاكية فى الكنيسة هناك أنبياء ومعلمون : برنابا وسمعان الذى يدعى نيجر ولوكيوس القيروانى ومناين الذى تربى مع هيرودس رئيس الربع وشاول . وبينما هم يخدمون الرب ويصومون قال الروح القدس أفرزوا إلى برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما إليه » ( أع 13 : 1 و 2 ) .. وخرج الرجل وبولس مفرزين من اللّه لخدمة الأمم الواسعة التى انطلقا إليها !! .. يقول البعض إن برنابا كان واحداً من السبعين تلميذاً الذين أرسلهم المسيح للخدمة ، ويؤكد أكليمندس السكندرى هذا الرأى ، وعلى هذا الأساس يكون قد عاش مع المسيح ، وكان واحداً من الخمسمائة أخ الذين أبصروا قيامته وصعوده ، ويقول آخرون أنه عرف المسيح فى نهضة يوم الخمسين العارمة وأنه كان واحداً من الذين جاءت بهم هذه النهضة إلى مركزه القيادى فى الكنيسة ، ... كان أصلا من سبط لاوى ، وكان عميق المعرفة بالذبائح ورموزها ومعانيها ، ولا نعلم إن كان هذا مما شجع القائلين بأنه كاتب الرسالة إلى العبرانيين ، أم أن هناك أسباباً أخرى ترجح عندهم أنه كاتبها !! .. كان كريم اليد سخى النفس والحياة ، ومع ذلك فلم يكن قصبة تهزها الريح ، إذ كان يملك عزماً وتصميما متى استقر على رأى ، ومن ثم باع ملكه ، ووضع المال عند أقدام الرسل ، ووقف إلى جوار بولس دون أن يتراجع أو يتزحزح عن مساندته عندما تخوف الجميع منه وشكوا فيه !! .. ووقف إلى جوار يوحنا مرقس ، وبسببه افترق عن بولس ، وهو الذى ذهب إلى أنطاكية ليشجع المشتتين : « فسمع الخبر عنهم فى آذان الكنيسة التى فى أورشليم فأرسلوا برنابا لكى يجتاز إلى أنطاكية ، الذى لما أتى ورأى نعمة اللّه فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا فى الرب بعزم القلب ، لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان فانضم إلى الرب جمع غفير » ( أع 11 : 22 - 24 ) .. كان برنابا فى الواقع من أسمى الشخصيات التى ظهرت فى الكنيسة الأولى وأنبلها وأرفعها وأعظمها خلقاً !! ..
برنابا السخى
كان السخاء عند برنابا من أظهر الصفات وأبرزها إذ كان أول من قاد حملة اشتراكية لخدمة الكنيسة ، لقد لاحظ بعد يوم الخمسين أن الكنيسة قد تكاثر أعضاؤها وامتلأت بالغرباء والمحتاجين ، لأن عدداً كبيراً من الذين آمنوا بالمسيحية لم يرجعوا إلى بلادهم سريعاً ، بل بقوا ليتعلموا حقيقة الإيمان الجديد ، والبعض الآخر أصبح منبوذاً من أهله بعد أن قبل المسيحية ، وهكذا احتاجت الكنيسة إلى مال لتعول هؤلاء ، ... والسؤال هو هل كان برنابا اشتراكياً قبل غيره من الاشتراكيين فى كل التاريخ ، ... وهل اشتراكية الكنيسة الأولى ، هى المفهوم الآن فى الذهن الشيوعى ، ... من الواضح أن هناك خلافاً عميقاً وبعيداً ، بين اشتراكية برنابا ، وشيوعية كارل ماركس .. إذ كانت اشتراكية برنابا دينية المبدأ ، لم تندفع فى البذل والتضحية لمجرد العاطفة الإنسانية أو الاجتماعية البحتة بل بالدافع الإلهى العميق الذى سرى فيها ، أما الشيوعية الحاضرة فأساسها الأول والرئيسى اللادينية . إن اشتراكية الكنيسة قبل أن تكون أفقية الاتجاه بين الإنسان وأخيه الإنسان كانت أيضاً رأسية كصليب المسيح الذي جمع بين محبة اللّه ومحبة الناس، واشتراكية الكنيسة الأولى تطوعية لاقسر فيها ولا إرغام ، على عكس الشيوعية التى تلجأ إلى العنف والقوة والتعسف لتحقيق أغراضها، واشتراكية الكنيسة تسير فى خط عكسى لخط الشيوعية فهى تعطى لكى يصبح الكل آخذين ، لا تأخذ ليصبح الكل معطين ، وأنه لفرق كبير هائل ، وإن بدا غير ملحوظ لأول وهلة ، بين القول : خذ ما معى ليضحى كل شئ مشتركاً ، والآخر القائل : هات ما معك ليكون كل شئ مشتركاً .. قال فرانسس الأسيسى وكان مثل برنابا فى فهمه الاشتراكى : ما أجمل هذه الدنيا إن استطعتم أن تتخلصوا مما فيها من قيود وما قيودكم إلا المال والمسكن والملبس تعالوا انظروا الأشياء الحقيقية فى الحياة ، تعالوا واحيوا حياة الروح وأنيروا كالشعلة وأينعوا كالزهرة وفيضوا كما يفيض المجرى المتدفق من الجبل !! .. إن مأساة الإنسان فى الأرض ، أنه لم يجعل المال خادماً بل سيداً له ، وهو يشبه فى ذلك القصة الروسية المعروفة التى تتحدث عن ذلك الفلاح العملاق الذى كان يكتنز المال ، ويزيد منه ، ويعبده عبادة، ولكنه سمع أن فى سيبيريا أراضى أوسع وأكبر ، فصفى كل شئ ، وذهب إلى سيبيريا ، والتقى برئيس القبيلة وقدم له المال ليأخذ أرضاً ، وقال له الرجل : إنك تستطيع أن تأخذ من الأرض ما تشاء على قدر الدائرة التى تدورها فى يوم بأكمله حتى غروب الشمس ، وفرح الرجل فرحاً فائقاً بذلك ، وكان عملاقاً ، بدأ مع الشروق بأوسع الخطى يركض لكى يستزيد من الدائرة التى يصل إليها ، وظل يركض ويركض حتى بدأ الشمس تميل نحو الغروب ، وكان عليه أن يرجع ، فرجع بعد أن أوسع الخطى ، وقبل أن يبلغ المكان بمتر واحد سقط من الاعياء والدم يتدفق من فمه ، وما هى إلا لحظات حتى لفظ أنفاسه الأخيرة . وقال زعيم القبيلة : مسكين هذا الرائد فقد حصل على مساحة تكفى لمواراة جثمانه ، فاحفروا يا أبناء القبيلة حفرة نوارى فيها جثة هذا الغريب الذى هبط أرضنا والطمع يستحوذ عليه ، فهذه نهاية كل إنسان يسعى وراء المادة ويستميت فى السعى وراء الأشياء الفانية ، سيأخذ من الأرض مترين فقط وستشاركه الديدان فيها ، وستنمو الأعشاب عليها ، وستفنى عظامه وستبقى حياته عبرة لمن يريد أن يعتبر !! .. سمع أحد الفلاحين جون ويسلى يعظ عن المال ويقول : اقتن منه كل ما تقدر أن تقتنيه ، فقال الفلاح : هذا جميل ... وقال ويسلى : اقتصد منه ما يمكن أن تقتصده ، فقال الفلاح : وهذا عظيم ... وأخيراً قال الواعظ: أعط منه كل ما يمكن أن تعطيه !! ... وعندئذ قال الفلاح : يا لها من عظة جميلة أفسدتها نهايتها!! .. لم يحتج برنابا إلى ضغط خارجى وهو يبيع حقله من أجل المساعدة للكنيسة ، إذ كان الضغط الصحيح يأتيه من الداخل ، من قلبه !! .. سئل فلاح عما تعطيه بقرته من لبن ، .. فأجاب: إنها تعطى بشرط أن تحصر فى ركن وأن يتحصن من يحلبها ضد نطحها ورفسها !! .. لكن برنابا كان المعطى المسرور الذى يحبه الرب !! ..
برنابا السموح القلب
لم يكن برنابا سخى اليد فحسب ، بل كان أكثر من ذلك كريم الروح سموح القلب نبيل العاطفة، وقد ظهر هذا فى وقوفه إلى جانب بولس عندما خاف الجميع منه ، وتحذروا من قبوله فيما بينهم، هرب شاول من دمشق بعد أن جاهر باسم المسيح هناك ، وأراد اليهود قتله ، وقضى فى العربية ثلاث سنوات كما يبدو من غلاطية ( 1 : 17 ) ، ثم جاء إلى أورشليم وحاول أن يلتصق بالتلاميذ ، وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ !! .. وهنا يظهر برنابا بكرم النفس واتساع القلب ، إلى الدرجة التى يمكن أن نقول معها ، انها نوع من الجسارة وروح المغامرة،... ويبدو أن برنابا كان يعلم بأن الحياة لا يمكن أن تخلو من روح المغامرة ، بل إن النهضات والثورات لا يمكن أن تنجح بالمنطق والعقل ، ولابد من كثير من الأحايين لعنصر المغامرة كان الرسل يستعملون عقلهم فى معاملة شاول الذى حاول أن يلتصق بهم ، ولجأ برنابا إلى المغامرة ، ونحن لا نعلم ما الذى دفعه إلى ذلك .. يعتقد البعض أنه كان يعرف شاول من الصغر إذ أن طرسوس قريبة من قبرص ، وربما كانا صديقين فى التلمذة فى طرسوس !! .. وقد يبدو أنه رأى فى شاول أشياء لم يرها غيره من الرسل ، على أية حال توجد لحظات فى الحياة تحتاج فيها ألا نستعمل مجرد المنطق والعقل بقدر ما نستعمل روح الحزم والأقدام ... على أن المغامرة وحدها لا تكفى ، لقد كان هناك شئ فى برنابا تفوق به على الجميع ، السماحة ، ورحابة القلب ، والاستعداد للنسيان وإعطاء الفرصة من جديد ، وهذه السماحة كان شاول فى مسيس الحاجة إليها!! .. كان هانز كريستيان أندرسون من أغرب كتاب القصة الخيالية فى الغرب ، وقد ولد فى بيت فقير ، ومات جده مجنوناً ، وخطر بباله أن يمتهن التمثيل ، وإذ ذهب ليعلن - رغبته لممثل كبير ، ضحك منه هذا وسخر منه سخرية لاذعة .. فتحول إلى الكتابة وأفصح عن رغبته هذه لمعلمه فى المدرسة ، وسمع تقريعاً كاد يحطم كيانه ، غير أنه حاول وأرسل كتاباته إلى جوناز كوليناز الناشر الدنيماركى ، وجاءه الرد من الرجل الكريم : لا بأس تقدم وسأساعدك ... ونجح الشاب وأصبح واحداً من أبرع كتاب القصة الخيالية فى العالم !! .. دخل بوب ايفانز وكان من رجال البحرية المعروفين ، إلى الكنيسة فى يوم أحد وجلس فى مقعد ليرى سيدة عجوزا تكتب له ورقة : إنى أدفع فى هذا المقعد 250 دولاراً سنوياً ، وكتب ايفانز على ظهر الورقة : إنك تدفعين كثيراً يا سيدتى ، وخرج من المكان وقيل إنه لم يدخل كنيسة بعد ذلك طوال حياته !! .. إن هذا يختلف عما حدث مع شاب اسمه جاريت ايكوك الذى كان قد آمن بالرب ، وبعد تجديده باسبوعين جابهته تجربة قاسية كادت تهز إيمانه وإذا بصديق يتصل به تليفونياً ومن خلال الحديث أدرك صراع الشاب وإذا به يقول له : يا جاريت إحن رأسك دقيقة .. وعندئذ صلى وهو على التليفون قائلا : أيها الرب بارك جاريت ، إنه يصارع ونحن نثق به ، ونؤمن أنه سيصنع حسناً .. يارب . لقد خلصته والآن احفظه لأجل اسم المسيح آمين !! .. وقال الصديق لجاريت : يا بنى إننى أصلى من أجلك ! مع أطيب التمنيات !! .. وأغلق جاريت التليفون وهو يقول : إذا كان هذا الصديق يهتم بى ويطلبنى بالتليفون مصلياً فإننى سأموت قبل أن أتراجع ، وعاش جاريت خادماً أميناً للّه ، وهو لا ينسى مودة ومعونة وصلاة صديقه فى اللحظة القاسية ، كان هذا الرجل أشبه ببرنابا فى علاقته ببولس !!
برنابا المختفى والمنكر لذاته
على أن الأمر الأروع فى قصة الرجل ، ليس مجرد مساندة بولس فى أورشليم ، حتى يأخذ مكانه ويقف على قدميه ، بل الإتيان ببولس من طرسوس إلى أنطاكية . ولنسمع ما يقوله ج . د . جونز فى هذا الصدد : « من العلامات الحقيقية لكرم النفس الخلو من الغيرة ، ويمكن أن يقال عن المرء إنه ممتلئ نعمة إذا أمكن ألا يغار من غيره أبداً ، وقد كان برنابا كريماً إلى درجة أنه لم يعط للغيرة مكاناً ما فى قلبه ، ... فعندما ذهب إلى طرسوس ليحضر بولس كان يفهم جيداً معنى ما يعمل ، إنه يعلم أن بولس أقدر منه وأقوى ، وعندما يأتى بولس إلى أنطاكية ، لابد أن ينتزع مركز الصدارة ، ويأخذ على الفور المكان الأول ، ولكن الرجل لم يكن يعنى بذلك بل كان كل ما يعنيه ويهمه هو نجاح العمل وتقدم الخدمة ، ولعل هذا أقوى برهان على ما فى الرجل من صلاح ، فما أكثر ما يأخذ الحسد سبيله حتى إلى أفاضل الناس وأكمل القديسين » ... كان وليم جاى واعظاً إنجليزياً مشهوراً ، وعندما ضعف ، طلبوا له من يساعده ، فأجاب : أيها الأصدقاء ، إننى ومساعدى سنركب حصاناً واحداً وسيركب أحدنا فى الأمام والآخر فى الخلف ، وأنا لا أسمح لواحد أن يركب أمامى !! ... كان جبسى سمث يتعجب من أن صديقه كوليير يسمح لغيره من الخدام والمساعدين أن يتناوبوا العمل معه دون أن يغار البتة أو يرى فى ذلك ضيراً على مركزه وجاءه الجواب : يا جبسى أنا لملكوت اللّه ، والملكوت هو الذى يهم ، وفى اللحظة التى أرى فيها رجلاً أكبر منى ولو ربع بوصة ويستطيع أن يؤدى العمل أفضل مما أوديه ، فأنا على استعداد أن أحمل سترته ، وأن أظل خلفه حتى يتمم هذا العمل !! .. وإذا كان دانتون قد قال فى أيام الثورة الفرنسية: «لأهلك إذا كان فى هذا خلاص فرنسا » ... فماذا يمكن أن نقول تجاه النفوس الهالكة التى أعطانا اللّه أن نكون مسئولين عن رسالة الخلاص بالنسبة لها !! .. يقول ألكسندر هوايت فى هذا الصدد : « فى كل معارف برنابا من الرجال لم يكن هناك سوى رجل واحد يستطيع أن يواجه الحالة المستعجلة فى أنطاكية ، وبرنابا يعرف ذلك تماماً ، وشاول شاب أصغر منه نسبياً ، وليس من السهل أن يثق فيه الكثيرون لأنه غير معروف ، ولكن برنابا سيأخذ على نفسه المسئولية البالغة بل المخاطرة بإحضار بولس من طرسوس إلى أنطاكية ، وهو سيفعل ذلك دون أن يستشير الإخوة فى أورشليم ، ومع أنها مخاطرة كبيرة لكنه سيتحملها على مسئوليته وقلبه وضميره ، .. وتوجد لحظات حاسمة فى حقل الخدمة عندما يتحمل إنسان كافة النتائج وهو يقرر بحزم ما ينبغى أن يكون ، دون مبالاة بنقد أو مديح ، ... ولم يأخذ برنابا مشورة أحد وهو يدعو بولس من طرسوس ، وكان أشبه بوليم فارل عندما دعا كلفن إلى الخدمة فى جنيف . يقول كلفن : لقد تركت فرنسا متجها إلى ألمانيا لغرض التمتع بالراحة التى كنت فى أشد الحاجة إليها ، والانزواء فى ركن خفى حسبما كنت أحلم ، ولكنى لم أستطع الاختباء لأن وليم فارل دعانى إلى جنيف ، وهو لم يفعل ذلك بالنصيحة وبالإقناع ، بل باللعنة القاسية التى أحسست كما لو أن اللّه ذاته يصبها علىَّ من السماء . ويده القوية تمسكنى ... وقد فعل ذلك بعد أن علم ما فى قلبى من رغبة الركون إلى دراستى الخاصة ، والتى أردت معها أن أنصرف عن كل ما يشغلنى ، ولما لم تجد أية محاولات معى للإقناع . تحول إلى لعنة أنانيتى فى هذه الدراسة إذا كنت أرفض الذهاب إلى جنيف التى تحتاج منى إلى خدمة كبيرة ... وأنه لشئ عجيب أن تبحث من القلب عن إنسان يتفوق عليك فى المواهب وتسعى إلى طرسوس من أجله ، وتأتى به إلى أنطاكية !! .. وأنا شخصياً أود أن تكون لى نعمة برنابا أكثر من عبقرية بولس ، الرجل الذى سيضعنى فى الظل ، ومع ذلك أسعى إليه وأدعوه من أجل الخدمة العزيزة المباركة المقدسة !! » .
برنابا المتشاجر مع بولس
وهنا وقعت الواقعة الغريبة بين رجلين من أعظم الرجال قاطبة فى كل العصور ... ولم يكن الشجار هيناً أو سهلا ، بل هو الشجار الذى انتهى بمفارقة الرجلين بعضهما لبعض فى الخدمة ، وقد اختلفت الأراء فى الحديث عن هذا الشجار ، فبعض الناس يسلكون مسلك الكسندر هوايت الذى حمل على المتشاجرين ، وواقعة الشجار نفسها ، دون أن يقف ليسأل من هو الملوم أو غير الملوم ، وأسف لضعف الطبيعة البشرية التى لم تستطع أن تسيطر على الشجار بين رجلين من أعظم الرجال وأسماهم فى الأرض !! .. على أن هناك من أخذ النظرية العكسية ولم يلم أحد الرجلين اللذين كان كل منهما يمثل وجهة نظر صحيحة وسليمة ، فبولس كان محقاً ، فى تصور الآخذين بهذه النظرية ، لأنه يهتم بالموضوع دون اعتبار للأشخاص ، فهو لا يقبل أن يمالئ يوحنا مرقس الذى خذلهما فى برجة بمفيلية ، حتى ولو كان ابن أخت برنابا ، ... وأما برنابا فكان ينظر إلى الأمر من الزاوية الأخرى لشاب اعترف بضعفه وتاب عنه ، وهو يرجو الرجوع إلى الخدمة ، ومن طبع برنابا ، السمح دائماً ، إعطاء الفرصة الثانية للفاشل والعاثر ، وقد وقف إلى جانب بولس فى بدأ أمره ومن واجب بولس أن يفعل الشئ نفسه إزاء ضعفات الآخرين !! .. وهناك النظرية الثالثة التى لا تلتفت إلى مجرد الشجار بين الصديقين أو صواب وجهة نظر كل واحد منهما من زاوية ، .. بل إنها تشكر اللّه الذى أخرج من الآكل أكلا ومن الجافى حلاوة ، والذى حول الرحلة التبشيرية الواحدة إلى رحلتين ، فبولس يأخذ معه سيلا ، وبرنابا يأخذ مرقس، وعمل اللّه لا يقف بل يمتد ويتسع ويزيد !! ..
لقد أثبت الزمن أن برنابا كان أصح فى تقديره للموقف من بولس ، إذ أن بولس نفسه اعترف بنجاح مرقس وفائدته للخدمة ، ودعاه آخر الأمر لأن يقف إلى جواره فى المعركة العظيمة القاسية !! .. وإذا كان هناك من درس يعطيه برنابا لنا ، فهو أن قضية المسيح ستكسب دائماً كلما امتلأ المرء بالروح القدس ، بروح السماحة والمرونة ونكران الذات ، وتقديم الآخرين من أجل ملكوته ومجده العظيم العتيد ؟ !! ..