منتديات ابن الراعى

أبشالوم            Urlhtt10


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات ابن الراعى

أبشالوم            Urlhtt10

منتديات ابن الراعى

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


    أبشالوم

    ابن الانبا توماس
    ابن الانبا توماس
    مشرف
    مشرف


    عدد المساهمات : 374
    نقاط : 51143
    تاريخ التسجيل : 09/03/2011
    الموقع : منتديات ابن الراعى

    جديد أبشالوم

    مُساهمة من طرف ابن الانبا توماس الخميس 17 مارس 2011 - 1:53



    "يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني يا ابني"

    (2صم 18: 33)



    مقدمة

    لست أعلم ما هو هذا النصب الذي أقامه أبشالوم في وادي الملك تذكاراً لحياته وقصته بين الناس؟!! أهو مسلة من المسلات كما يتصور البعض... أو هو هرم صغير من الأهرام كما يفكر آخرون؟!! أ هو بناء بني على صورة ما يحمل اسمه؟!! لقد أنجب أبشالوم ثلاثة أولاد وبنتاً حلوة جميلة كأخته ثامار، ومن ثم أطلق عليها اسم أخته!! ومات الأولاد الثلاثة صغاراً على الأرجح، ولم يكن له ولد يحمل اسمه، فصنع النصب المذكور وهو حي وأطلق عليه "يد أبشالوم" لكن أبشالوم في عقيدتي لم يكن في حاجة إلى هذا النصب على الإطلاق،... لأنه استطاع أن يصنع نصباً أعظم وأرهب وأكبر، في كل أجيال التاريخ، نصبه لا في وادي الملك القريبة من أورشليم، بل في وادي التاريخ كله،.. ولا يستطيع أبرع المصورين أو المثالين أن يصنع مثله على الإطلاق،... ولقد كتب الروائيون الكثير من القصص الرهيبة، لكنني لا أعتقد أن واحدا منهم، وهو يتحدث عن الجريمة والثورة والعقاب، أبدع قصة أعظم من قصة أبشالوم.

    في واحدة من الصور العظيمة لإشعياء، جاءت عبارة قائلة: "فقسوا بيض أفعى"... ومن المؤسف أن بيت الرجل العظيم داود امتلأ بفقس الأفعى!!.. مسكين أيها الملك القديم! لأن الحية القديمة أفرخت في بيتك بهذا الفقس القاتل، وكان الموت والعار والخطية والشر ما عنيت وعانى بيتك التعس، "ويد أبشالوم" ستبقى مرفوعة دائماً في كل التاريخ لكي تؤكد أن أجرة الخطية هي موت،.. والخطية حقاً خاطئة جداً!!.. وها نحن نواجه هذه المأساة ونحن نقرأ قصة أبشالوم المحزنة!!..

    أبشالوم والجريمة

    عندما نقرأ قصة أبشالوم، يبدو على التو أمامنا أمران هامان: أولهما صدق الرواية الكتابية، والتي تشهد بالوحي الإلهي، فنحن لو ترك إلينا أن نكتب عن داود، الرجل الذي يأخذ لبناً بمزاميره الخالدة، وبطولته العظيمة، وغيرته على مجد الله، وخدمته الأمينة للسيد، لترددنا كثيراً أن نكتب عن مخازي بيته الفاضحة، حتى لا نصدم أفكار الناس أو مشاعرهم أو خيالهم، وهم يقرأون سيرته العظيمة الخالدة،... أو على الأقل كان من الممكن أن نترفق فيما نكتب أو ندثر أو نغطي، ما لا ينبغي حسب تصورنا، أن يعري على الصورة القاسية، التي نقرؤها علىها في الوحي الإلهي!!... لكن كلمة الله على العكس تعطي الصورة الواضحة المجلوة دون أدنى تردد أو إبهام أو غموض، مهما يصدم الناس في عواطفهم، لأن الأمر الآخر أن الكلمة تهتم بإبراز الخطية في بشاعتها وشناعتها وقسوتها وخبثها وامتدادها، وشرها المستطير،.. بل إنها تتغور إلى الأعماق لنرى سر الجريمة العميق البعيد الخفي المختفي... ولعلنا لو حللنا الجريمة التي كان أبشالوم واحداً من أبطالها وممثليها العظام لرأيناها ترجع إلى:

    البيت المزواج

    قد لا يستطيع الإنسان أن يصف مدى المرارة التي امتلأت بها حياة داود من أنه حول بيته إلى "وكر" للأشرار بتلك الحياة الغريبة التي ساعدت عصره، والعصور الأخرى، بتعدد الزواج، وهي اللعنة التي اكتسحت العصور القديمة، حتى جاء المسيح ورد البشرية إلى الأصل في الزواج امرأة واحدة لرجل واحد مدى الحياة،.. ولم يجز موسى الطلاق ألا وهو يربطه بقساوة القلب البشري،... إن امرأة شريرة واحدة في بيت رجل صالح كفيلة أن تحوله إلى الجحيم، فكيف بك الأمر لو أن هناك مجموعة متنافرة من مختلف الأنماط والألوان، ويكفي أن ترى بيت داود على هذه الحال، ونساؤه إلى جانب ميكال التي لم تنجب له أولاداً، كان هناك كما جاء في سفر أخبار الأيام: "وهؤلاء بنو داود الذين ولدوا له في حبرون أمنون من أخينوعم اليزرعيلية الثاني دانيئيل من أبيجايل الكرملية الثالث أبشالوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور الرابع أدونيا ابن حجيث الخامس شنطيا من أبيطال. السادس يثرعام من عجلة امرأته.. وهؤلاء ولدوا له في أورشليم شمعي وشوباب وناثان وسليمان من أربعة من بثشوع بنت عميئيل ويبحاز وأليشامع وأليفاظ ونوجة، ونافج ويافيع وأليشمع والياداع واليغلط، تسعة الكل بنو داود، ما عدا بني السراري وثامار هي أختهم".. وإذا كانت الأختان -ليئة وراحيل- لم تستطيعا العيش معاً في بيت واحد بسلام: "ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها".. "كلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها".. "فقالت راحيل مصارعات الله قد صارعت أختي".. وإذا كانت حنة قد رأت الويل من ضرتها فننة: "وكانت ضرتها تغيظها أيضاً غيظاً لأجل المراغمة"... فهل يمكن أن نتصور بيت داود وقد جمع ميكال العاقر المتعجرفة بنت شاول، ومعكة الوثنية أم أبشالوم بنت تلماي ملك جشور، وبثشبع أم سليمان، وأبيجايل المؤمنة الطيبة، وسائر النساء المختلفات، وغيرهن من السراري- هل يمكن لمثل هذا البيت إلا أن يكون بيتاً ممتلئاً بالانقسام والغيرة والتحزب، والحسد والعداوة، والمعارك الظاهرة والخفية؟؟.. وهل يمكن أن نرى الأولاد إلا في الصورة المنعكسة التعسة المحزنة لكل هذه؟!!.. لقد فقست الأُفعى بيضها في بيت مزواج!!...

    التربية الدينية

    ولا حاجة إلى القول أن التربية الدينية، في مثل هذا البيت كانت ضعيفة أو معدومة الأثر، وأغلب الظن أن داود لم يكن عنده من الوقت ما يعطيه لأولاده، ولعل بعض هؤلاء، وهم ينظرون أباهم، وهو شديد الاهتمام ببيت الله، وبالعبادة كانوا يحتقرونه كما احتقرته ميكال وهو يرقص أمام التابوت، ولعل سليمان كان أكثر الأبناء حظاً، لأنه كان في يد ناثان النبي الذي علمه منذ نعومة أظفاره،... كانت مزامير داود ترن في قلوب الكثيرين، ولكن موسيقاها البعيدة العميقة لم تصل إلى قلوب أولاده،.. فإذا أضيف إلى ذلك أن أغلب زوجات داود، كن بدورهن مفتقرات إلى الحياة الدينية المتعمقة، ولم يكن بينهم من تحرص على تربية أولادها كما فعلت يواكبد أم موسى وهرون ومريم، وكما فعلت حنة أم صموئيل،.. ومن ثم افتقر البيت العظيم إلى العمق الديني المنشور، ... وإذا كان في التقاليد اليهودية، أن يبدأ الولد في قراءة التوراة وهو في الخامسة من عمره، وأن يتقيد بالناموس في الثانية عشرة، وأن يدرس التلمود في الخامسة عشرة، وكان على الآباء اليهود -كما يذكر فيدخلون اليهودي السكندري- أن يعلموا أولادهم ويربوهم ليروا الله الآب وخالق العالم، قبل أن يتعلموا الناموس والشرائع المقدس، والتقاليد أو التعاليم غير المكتوبة، منذ الخطوات الأولى في حياتهم على هذه الأرض!!..

    عندما كان داود فقيراً وبسيطاً وراعياً للأغنام، وعندما كان يغني فوق بطاح بيت لحم بأحلى الترانيم، شرب من كأس الشركة العميقة المروية مع الله،.. لكن أولاده وقد تربوا في القصور، وعاشوا حياة التنعم والترفه والغنى، لم تكن لهم هذه الفرصة الجليلة العميقة المباركة، ولسنا نظن أن واحداً منهم صاحب أباه ليغني له في أعماق الليل أو في وضح النهار، المزمور الثامن، أو التاسع عشر، أو الثالث والعشرين من روائع مزامير داود الخالدة!!..

    من أجمل ما كتب لايل توماس الذي صاحب اللورد اللنبي ولورانس في الحرب العالمية الأولى، وهو يصف حياته وتربيته المنزلية: "كان أبي يصحبني مرات كثيرة في منتصف الليل ليريني الجبال الحمراء الغارقة في ضوء القمر، وكان يعود بهذا المنظر الجميل الفاتن إلى يد الله التي صنعت كل هذا ولقد زرع في أعماق نفسي الشعور الروحي الذي صاحبني وأنا أتجول في الأرض في كل ما يتصل بالكون، وكم كان يقضي أوقاتاً طويلة في فترات متعددة، ليقرأ لي ما كان يؤمن به أنه أعظم كتاب في العالم، الكتاب المقدس، وكان يقرأ الكتاب لا كما يقرأ أثناء الصلاة العائلية، بل كما يقرأه العالم المتفقه، ولقد جعل القصص الكتابية تسري في دمي وشراييني، وتضحى خلف جميع الاختبارات التي عرفتها في حياتي.. أما الكنيسة فكانت جزءاً حيوياً في حياتي، مثلها تماماً مثل المدرسة في حياتي، ومثل الطعام اليومي، ومثل أسلوب المعيشة، وكما أنك لا تفكر أو تناقش هذه كلها أو تحللها تماماً، كما لا تفكر في تحليل زوجتك إذ هي جزء من كل شيء فكذلك الكنيسة عندي جزء من كل شيء وأنا لم أفكر أبداً في الكنيسة من ناحية تحليلها أو المناقشة في ضرورتها، إذ هي جزء طبيعي عادي من اختباري اليومي، وأنا شديد الحماس في تشجيع الناس للذهاب إلى الكنيسة"..

    التأديب

    لعل من أعجب الأمور في داود ضعفه البالغ تجاه أولاده، إذ يبدو أن التأديب كان غريباً عن حياتهم، فإذا وصل بأمنون الشر إلى الدرجة الرهيبة التي فيها أذل أخته: "ولما سمع الملك داود بجميع هذه الأمور اغتاظ جداً" ولم يفعل أكثر من هذا الغيظ الذي أكل فيه نفسه، دون أن يلتهب أو يأكل ابنه وبقى أمنون حراً طليقاً إلى الدرجة التي شجعت أبشالوم على أن يقتص لنفسه ولأخته على النحو المرهف الذي حدث فيما بعد بعد أن بيت له: "ولم يكلم أبشالوم أمنون بشر ولا بخير لأن أبشالوم أبغض أمنون من أجل أنه أذل ثامار أخته"... والأمر عينه واضح في معاملته لابنه أدونيا الذي قيل فيه: "ولم يغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا".. ترى هل كان هذا كله واضحاً في ذهن سليمان وهو يتحدث عن التأديب قائلاً: "من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب" "رب الولد في طريقه فمتى شاخ لا يحيد عنها" "الجهالة مرتبطة بقلب الولد عصا التأديب تبعدها عنه" "لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية" "العصا والتوبيخ يعطيان حكمة والصبي المطلق إلى هواه يخجل أمه"... ومن المؤسف أن داود أطلق أولاده جميعاً إلى هواهم، ولو أنه بكر بتأديبهم لما احتاج إلى البكاء والدموع التي جاءت متأخرة دون أن تتمكن من إصلاحهم أو إنقاذهم،... أو دون ترك العار يلطخ حياتهم وسيرتهم بين الناس، وأي سيرة هذه التي بلغوا فيها المستنقع حتى يتآمر أكبر أولاده مع صديقه على تلويث شرف أخته، دون أن يعف عن الوصول إلى ما تفعله أحط الحيوانات، وعندما يجتمعون إلى حفل أخيهم أبشالوم تدور الخمر بينهم إلى درجة السكر البين، وإذ جميعهم يجرعون الكؤوس ويسكرون، وإذ العلاقة بينهم جميعاً أبعد عن أن تكون علاقة المحبة والرقة والحنان والجود!!.. لو أن داود ربي أولاده أو أدبهم لما فقست الأفعى بيضها بينهم!!..

    المثال

    على أن أسوأ ما في الأمر كله، كان المثال، وكيف يتكلم داود إليهم، وقد أعطاهم أسوأ مثال في فعلته الشنيعة التي جلبت الغضب الإلهي عليه، وسخرية الساخرين من الرجل الذي يقف على رأس أمته ليسبح ويغني لله، فإذا كان أمنون يفعل بأخته ما فعل هو ببثشبع. وإذا كان أبشالوم يفعل ذات الشيء بسراري أبيه، فهل يملك الرجل أن يرفع صوته مشتكياً أو محتجاً أو مؤدباً؟!..

    دخل الرجل بيته، وإذا بالبيت كله يضج بالضحك لأن الولد الصغير لبس بدلة أبيه، يجرجر فيها، وكان منظره مثيراً مضحكاً، إلا الأب الذي فزع لأنه رأى المعنى البعيد الحقيقي، إن الولد يقلده، وويل له إذا أعطى الولد مثالاً تعساً من أي تصرف أو عمل، .. لقد فقست الأفعى بيضها في بيت داود لأنه البيت المزواج الذي ضاعت فيه التربية الدينية والتأديب والمثال الحسن.

    أبشالوم والثورة

    ولعله من اللازم، ونحن نتناول هذه الثورة بالتحليل، والتمحيص، والتعقب أن نلاحظ ما يأتي:

    ثورة الابن ضد أبيه

    وهل لك أن تغوص معي إلى الجرح العميق البعيد، الذي ينزف من الدم نزيفاً لا ينقطع في قلب داود، وهو يرى الثورة آتية ضده من ابنه، وابنه الحلو الجميل الممدوح في جماله من هامة الرأس إلى أخمص القدم،.. الابن الذي مع فعلته الشنعاء حن إليه قلب أبيه وهو في المنفى، ولم يعد يذكر يديه المخضبتين بدم أخيه الأكبر أمنون،.. ربما السهل أن يدخل داود في معركة مع عدو سافر كجليات، رغم فزع الجميع من المغامرة في مثل هذه المعركة، وربما من السهل أن يتحمل طعنة رجل مثل شمعي بني جيرا رغم ما فيه من افتراء وغدر وكذب، إذ هو بنياميني من سبط آخر، سب مركزه الملكي ليأخذه سبط يهوذا، ويستقر في بيت داود،... وربما من السهل أن يفقد صديقاً مثل أخيتوفل الذي كانت تحلو العشرة معه، لأن أخيتوفل جد بثشبع، وقد تركت فعلة داود جرحاً عميقاً في قلبه ليس من السهل أن يندمل،.. لكن أصعب من الجميع بما لا يقاس أن تأتي الثورة من الابن الحلو الجميل المحبوب من، أبشالوم أو كما قال هو لأبيشاي ولجميع عبيده: "هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له..." وقد ازداد الجرح عمقاً وبعداً، لأن السيف الذي خرج علي داود لم يكن سيف جليات، أو شمعي أو أخيتوفل أو أبشالوم، لقد كان سيف الله نفسه: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة هكذا قال الرب ها أنذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهم لقريبك فيضطجع مع نساءك في عين هذه الشمس لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس".. ومهما تكن الأسباب الظاهرة أو البشرية، فما هي إلا أسباب ثانوية أدرك داود اليد الحقيقية خلفها جميعاً يد الله!!..

    عجز الموازنة بين العدل والرحمة

    كان داود أباً وملكاً في الوقت نفسه، وجاءت ثورة أبشالوم بسبب إفلاسه التام في الموازنة بين مركزه كأب ومركزه كملك فإذا نظر إلى الأمر من وجهة نظر كونه أباً، فقد ضاع منه مركز الملك الذي ينبغي أن يحكم بناموس العدالة، الذي لا يتوقف عند مجرد الناموس الموسوي، بل يرجع إلى ما هو أسبق، إلى أمر الله مع نوح عندما قال: "وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان"... وإذا عالج الأمر كملك، فإن صرخات قلبه الأبوي لا تطاوعه،.. ومن الملاحظ أن الإنسان قد أدرك هذه الحقيقة، واستقرت في أعماقه ووجدانه، وهو بصدد قضية أعظم وأكبر وأرهب، قضية الجنس البشري كله، وموقف الإنسان المدان أمام الله الذي هو الملك الحاكم العادل والديان، وفي الوقت نفسه هو الأب المحب المشفق العطوف،.. ومحاولات الإنسان المتعددة في شتى الديانات للتوفيق بين الأمرين أضحت عاجزة بالغة العجز، مهما بذل الإنسان من جهد أو معاناة أو تضحية، حتى ولو تقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة أو بألوف الكباش أو ربوات أنهار زيت حتى ولو أعطى بكره عن معصيته ثمرة جسده عن خطية نفسه، وإذا كان قلب الأب في الله يصرخ لإنقاذ الجنس البشري، فإن الله القاضي العادل، لا يمكن أن يتمم هذا الإنقاذ بمجرد التغاضي أو إغفاء البصر، أو الغفران الناقص، كما فعل داود الذي يترك ابنه في المنفى أو يسمح بالمجيء بشرط ألا يرى وجهه أو يمثل في حضرته،... إن الأمر أبعد من ذلك وأعمق إذ أن المصالحة الكاملة لا يمكن أن تتم من غير صليب تلتقي فيه الخطية بالعدالة والمحبة معاً، أو كما يقول الرسول بولس: "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصلاحة أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه بيسوع المسيح غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة"...

    كان داود يعلم هذه الحقيقة بدون أدنى شك، وهو يعجز كملك، ويحار أبلغ الحيرة، ويخشى إذا تغاضى كلية عن خطية ابنه، أن يغضب الله، قبل أن يتهم بالتحيز من ناحية الناس، وإن كنا لا نعلم متى كتب المزمور المائة والواحد، إلا أنه يبدو أنه كتبه تحت إحساس المعركة بين العدالة والرحمة في حياته، أو ربما كتبه وهو يواجه الصراع النفسي القاسي تجاه ابنه أبشالوم "رحمة وحكماً أغنى. لك يا رب أرنم. أتعقل في طريق كامل. متى تأتي إليَّ. أسلك في كمال قلبي في وسط بيتي. لا أضع قدام عيني أمراً رديئاً عمل الزيغان أبغضت لا يلصق بي. قلب معوج يبعد عني الشرير لا أعرفه الذي يغتاب صاحبه سراً هذا أقطعه مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي السالك طريقاً كاملاً هو يخدمني لا يسكن وسط بيتي عامل غش المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني باكراً أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم"... وقد قتل داود العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول بناء على طلبه لمجرد أن يده امتدت إلى مسيح الرب، وقتل ركاب وبعثة الأخوين إيشبوشث وهو نائم نومة الظهيرة،.. وكان السؤال القائم أمام ضميره: أليس من واجبه أن يطبق هذا على أبشالوم دون أدنى استثناء وهذا ظاهر من محاولة المرأة التقوعية التي جاءت بقصة، كقصة ناثان، مع الفارق أن ناثان كان يريد إيقاظ ضميره، أما هي فقد أرادت على العكس أن تعطيه راحة للضمير مبينة أن الموت كالماء المهراق، الذي إذا سكب لا يمكن أن يجمع مرة أخرى من الأرض، والله لا يرضى أن منفيه يطرد عن الحياة بعيداً عنه، وأنه يستحيل تصور موت أخوين معاً> قتل أحدهما الآخر، وذهب الآخر عقاباً على موت القتيل أخيه،.. ومهما يكن من هذا الدفاع الحكيم، فهو أن أثار الرحمة العميقة، فإنه أعجز عن مواجهة العدالة التي ذكرها داود في المزمور المائة والواحد!!... وقد بذر داود بذور الثورة اللاحقة لإفلاسه في التوفيق بين العدل والرحمة!!...

    الغفران الناقص والسلبية ليسا علاجاً

    ظن داود أنه يستطيع أن يعالج ابنه بالغفران الناقص، الذي يسمح له بالعودة من المنفى بشرط أن ينصرف إلى بيته ولا يرى وجهه، وعالج داود المشكلة السلبية المطلقة، أو في لغة أخرى، لقد أعاده من منفى المكان في جشور حيث كان هناك مع أقارب أمه، ليبقيه في منفى أسوأ أو أشد، منفى النفس، مع أن المشكلة الحقيقية أنه الآن أحوج ما يكون إلى حب أبيه أو نصحه، أو إرشاده، أو تهذيبه، أو تعليمه، أو توجيه نظره إلى الله،.. وإذا لم يستطع داود أن يملأه بكل هذه، فلابد أن يملأ الفراغ بصورة أخرى، إذ تصور الفتى قسوة أبيه وعنفه وشدته، وفقست الأفعى في أعماقه فقس الحقد والتمرد والغدر والخيانة،... لقد ارتكب أبشالوم جريمته، والمجرم متعد، لكنه أكثر من ذلك إنسان مريض وقد نظر المسيح إلى الخاطيء بهذا المعنى وهو يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".. والعالم اليوم ينظر إلى المجرم هذه النظرة، ويحاول لا مجرد استئصال المجرمين، بل التغور وراء نزعتهم الإجرامة، لمعرفة الدوافع الكامنة الخفية وراء ما ارتكبوا من آثام وجرائم،.. ولو أن الآباء نظروا إلى أولادهم بهذا المنظار، وهو يرتكبون الشرور والمفاسد والآثام، ولو أدركوا أن هذا الوقت بالذات، هو وقت المعالجة الجادة الصبورة الحكيمة، لتركوا كل شيء، ليهتموا بتقويم الإعوجاج وإصلاح المفاسد، والعودة بأبنائهم، لا من مجرد الكورة البعيدة التي ذهبوا إليها، بل إلى الحنان والحب والإحسان والجود في بيت الآب،. أو -لغة أخرى-ليس من مجرد منفى المكان بل قبل وبعد كل شيء من منفى النفس الموحشة المعذبة القلقة التعسة، وبغير هذا سيتحول من إجرام إلى إجرام أقسى، كما تحول أبشالوم من القضاء على أمنون، للمحاولة الأكبر للقضاء على أبيه وتقويض ملكه ومجده وعرشه وخدمته!!...

    الثورة والخداع البالغ

    لسنا نظن أن هناك قبلة تتفوق على قبلة أبشالوم، غير قبلة يهوذا الاسخريوطي، كان أبشالوم من حيث الشكل قطعة من الجمال، ومنظره يصلح منظر ملك عظيم، وقد خدع الشعب فيه، كما خدعوا في قامة شاول الذي كان فارع الطول جميل المنظر، مهيب الطلعة، والمظهر دائماً خداع لمن يقف عند حدوده، أو لا يتعدى شواطئه، وكم من فتى أو فتاة خدع بجمال المنظر وفتن به، وتعلق بصاحبه، ليذهب في طريق الموت،... على أن الأمر عند أبشالوم تجاوز ذلك، إذ صاحبه خداع الذهن، إذ أن أبشالوم، على ما صور للناس، ليس لهم من يقضي لظلمهم وينصفهم إذ ليس للملك أو في بيته متسع من الوقت أو الذهن أو الصبر لشكواهم وآلامهم وتعاستهم وقضاياهم،.. وأضاف أبشالوم إلى هذا كله: الديمقراطية المصطنعة، والقبلة المخادعة: "فاسترق أبشالوم قلوب رجال إسرائيل".. وأشعل الثورة بقبلته التاريخية المخادعة الغاشة،.. وحقاً لقد تحول أبشالوم إلى سارق وقاطع طريق، وليس السارق من ينهب أموالك، أو يعتدي على ممتلكاتك فحسب، بل هو ذاك الذي يسرق معنوياتك، ليتركك أمام أكبر شرك أو خداع تكتشفه نفسك، وربما يحدث هذا بعد فوات الأوان، حين تعجز أمام الثورة عن رأب الصدع، أو إصلاح الحال، أو العودة إلى النقطة السابقة للمأساة التي تمت وكملت!!..

    أبشالوم والعقاب

    إن الجريمة لا يمكن أن تفيد بأي حال من الأحوال، وأجرة الخطية هي موت بدون أدنى ريب أو شك، والتاريخ في كل زمان ومكان يشهد على هذه الحقيقة، فإذا ذهبنا إلى محنايم، فلن نرى أبشالوم هناك كجده الكبير يعقوب، محاط بجيش الله في مواجهة عيسو أخيه، بل سنرى الشاب في خاتمة المطاف، وقد تهاوت ثورته، وانتهى تمرده، بعد أن استقرت في قلبه السهام الثلاثة التي أنشبها يوآب، وهو معلق بين السماء والأرض، ومن الغريب أن الشاب لم يمت في صحبة واحد من جنوده أو مريديه أو معاونيه. وانتهى حلم السيادة والمملكة والعظمة والسلطان، على هذا النحو البشع المريع، حيث سقط جثمانه الجميل تحت رجمة كبيرة من الأحجار التي انهالت عليه من كل جانب، وهكذا يأتي العقاب مؤكداً أن الأشرار كالعصافة التي تذرها الريح لأن الرب يعلم طريق الأبرار أما طريق الأشرار فتهلك.

    كان من الممكن أن لا يصل أبشالوم إلى هذا العقاب الرهيب القاسي البشع، لو أن أباه بكر بالتأديب، وبالعقاب الأبسط والأخف، وهو بعد صبي أو غض صغير،.. ولكن العقاب في العادة يتصاعد كلما أجله الآباء أو الأمهات، حتى تأتي اللحظة التي يقال معها أن العقاب قد خرج من أيديهم لتتولاه الأيام والليالي، أو بتعبير أدق أو أصح ليتولاه الله في عدالته الأكيدة في العالم الحاضر أو العتيد أيضاً!!..

    والسؤال الذي يفرض نفسه ههنا: لماذا صرخ داود عندما سمع بمصرع ابنه إلى الحد الذي قال فيه: "يا ابني أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني يا ابني"..؟!! هل يرجع هذا إلى الفارق بين إحساس الجريمة عند الأب وعند الابن وأنه مهما كانت الجريمة التي يرتكبها الابن ضد أبيه فإن حنان الأب أعلى وأسمى؟!! لست أعلم، وإن كنت أعلم عن يقين بأن الأمر أمام خطيتنا الكبرى في هذه الأرض، قد تجاوز الحنان والرغبة والتمني، ليصبح أعلى حقيقة عرفها البشر عند هضبة الجلجثة: "لأن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا!!".. أم يرجع الأمر عند داود إلى شعور بالندم، لأنه قصر أبلغ التقصير في تربية أولاده، وها هو يرى أمنون يموت، وأبشالوم يلحق به، وثامار تعيش بعارها ووحشتها بين الناس؟!! قد يكون.. ولعله دموعه هذه كانت إحساساً عميقاً بالتقصير، الأمر الذي يحسه كثيرون من الآباء، ولكن للأسف بعد فوات الوقت، إذ أهملوا أبناءهم أحياء ليتسلموهم أمواتاً، وليس لهم ما يتبقى سوى النحيب أو البكاء على جثمانهم المسجي أمامهم، أو المغيب تحت رجمة قاسية أشبه برجمة أبشالوم في أرض محنايم!!.. أم هل الأمر أعمق من هذا كله إذ هو شعور الذنب القاسي، ولذعة الضمير، إذ لم تكن القصة من أولها إلى آخرها إلا امتداد للأصبع القائلة: "أنت هو الرجل"... وها هو يرى النبوة وقد اكتملت وتأكد صدق الله، فإذا كان هناك من سبب بعيد عميق لكل ما جرى فإنه هو وليس غيره هذا السبب؟!! ولعله لهذا كره نفسه في تلك اللحظة ومقتها، إلى الدرجة التي تمنى أن يكون هو، وليس ابنه أو أحد غيره من الناس، هو الضحية المعاقبة!!.. ألم يستول عليه ذات الإحساس عندما أمر بعد الشعب فجعل الرب وباء في إسرائيل، ومات في يوم واحد سبعون ألف رجل وبسط الملاك يده ليهلك أورشليم حتى قال له الرب عند بيدر أرونه اليبوسي رد يدك؟... "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك علي وعلى بيت أبي"... قد تكون دموع داود بسبب واحد من هذه الأسباب أو بسببها جميعاً، أو بغيرها، لكنها تعطينا على أي حال أن نقف لنرى ماذا تفعل الخطية عندما تسيطر على حياة الناس؟!!.. عندما أطلق داود على ابنه الحلو الجميل الاسم أبشالوم "أب السلام"، كان يتمنى أن يكون أبو السلام هذا متمتعاً بكل سلام، ومعطياً السلام لكل من يتصل به أو يرتبط بحياته، ولم يدر قط أنه سيتحول مجرماً ثائراً، يدفن جثمانه تحت رجمة كبيرة تحولت نصباً خالداً في التاريخ لرجل فقد السلام، وذهب في الحرب، وامتدت يده "يد أبشالوم" لتقول للجميع في كل عصور التاريخ: ويل للخاطيء: "لأن أجرة الخطية هي موت وأما هبة الله فهي حياة أبدية في المسيح يسوع ربنا!!

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة 22 نوفمبر 2024 - 17:39