" فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول
أيها الرب يسوع اقبل روحى "
( أع 7 : 59 )
مقدمة
بعد خمسة عشر قرناً من موت إستفانوس ، مات شهيد مسيحى أيضاً وعلى شفتيه صلاة الشهيد الأول . كان باترك هملتون شاباً أرستقراطياً ينتمى إلى عائلة الملك جيمس الخامس ، وقد تعلم فى جامعتى باريس وليون ورحل إلى ألمانيا ، وهناك اتصل بلوثر وتأثر به ، وعاد مكرساً حياته لخدمة الإصلاح ، فحوكم على عظاته ، وأسند إليه من التهم ما كان منه بريئاً ، وقد أجاب بشجاعة وأمانة وصدق عن عقائده وإيمانه فاتخذوا من ذلك حجة للحكم عليه ، وعندما أحرق فى آخر فبراير عام 1528 م . صاح وهو يودع العالم : " حتى متى أيها السيد الرب يغمر الظلام هذا العالم وحتى متى نتحمل طغيان البشر !! .. أيها الرب يسوع اقبل روحى !!..".. وما أكثر القديسين الذين رقدوا وصلاة استفانوس على شفاههم فبوليكاربوس وأغسطينوس وهس وجيروم وبرنارد ولوثر وملانكثون وزافير .. جميعهم كانت هذه الكلمات آخر ما ودعوا به الأرض !! ... ولا يمكن لنا ونحن نتعرض لقصة أول شهيد مسيحى إلا أن نقف متعجبين أمام حكمة اللّه التى تعلو فوق كل إدراك وفهم !! ... كان استفانوس من أعظم الشخصيات التى ظهرت فى الكنيسة الأولى ، وكان فى عمله ومعرفته وفصاحته وحياته ، أقرب إلى بولس من الرسل الاثنى عشر . وحسب المنطق البشرى كانت حياته لازمة للكنيسة ، كما كانت حياة بولس سواء بسواء ، لكن اللّه فى حكمته العليا ، كان يقصد أن يكون موته ، لا حياته ، هو سر النجاح والحياة والقوة لهذه الكنيسة ، ومع أننا لا نعلم الفترة بين استشهاده ومجئ بولس إلى المسيحية ، لكن بعضهم يرجح أن هذا حدث فى نفس السنة أى عام 36 أو 37 م ، وقد حاول بولس أن يتخلص من منظر استفانوس وهو يموت دون جدوى ، والمعتقد عند أوغسطينوس أن هذا المنظر هو الذى هزه من الأعماق ، وحاول مغالبته بالإمعان فى رفس المناخس واضطهاد المسيحيين حتى التقى به السيد فى طريق دمشق ، ... كان موت استفانوس بدء شرارة الحياة فى قلب بولس !! .. بل كان موته فى الحقيقة بدء نهر الدم العظيم الذى روى بذار الكنيسة فى الأرض !! .. وقصته العظيمة جديرة بأن تحكى وتروى فيما يلى :
استفانوس ومن هو !! ؟
إن الاسم " استفانوس " يعنى " تاج " أو " إكليل " وليس من السهل أن نعلم الكثير عنه خارج ما كتب فى سفر أعمال الرسل . هو أول جندى من جنود المسيح فاز بالتاج أو الإكليل ، فما أسرع ما نراه كومضة من النور الباهر فى أحشاء الظلام، أو كالبرق الذى يلمع فى الليل الحالك، ويترك نوره أثراً عميقاً فى الكيان والذاكرة،... رآه بولس وهو يموت ، فعاشت الرؤية فى كيانه وأعماقه ، ولم يستطع نسيانها أو التخلص منها . وأغلب الظن أنه عاش يراها إلى اللحظة الأخيرة!!.. ومع أنه مر بالتاريخ والكنيسة مثل هذه الومضة ، إلا أن وهج حياته القصيرة عاش ويعيش خالداً على مدى الحياة !! .. لم يكن يهودياً - كما هو ظاهر من اسمه - من يهود فلسطين ، بل أغلب الظن أنه كان من يهود الشتات أو المهجر إذا جاز التعبير، أما اسم أبيه أو أمه فلا نعلمهما ، ... ويذهب البعض فى أنه كان صائغاً من أتباع الإمبراطورة ليفيا وعبداً لها، وأنه قد منح الحرية ، ولهذا فهو واحد من اليهود الغرباء الذين زاروا أورشليم وقبلوا المسيحية ، ويقول آخرون ، على ما يذهب أبيفانيوس ، إنه كان واحداً من السبعين الذين اختارهم المسيح للتبشير والخدمة ، .. ويعتقد غيرهم أنه جاء إلى المسيح بواسطة عظة بطرس يوم الخمسين ، وعلى أية حال هو واحد من خدام اللّه الذين لم تطل خدمتهم بالمعيار الزمنى أكثر من ثلاث سنوات ، ولكن اللّه يريد أن يعطينا هذا اليقين . إن خدمة المعمدان خالدة مع أنها لم تستمر أكثر من شهور معدودات ، وإن أخوين أحدهما يعقوب بن زبدى مات أول الرسل ، ووخدم الكنيسة بموته ، وثانيهما يوحنا أخوه ، وقد عاش آخر الكل ، وبقى إلى ما يقرب من نهاية القرن الأول وخدم الكنيسة بحياته ، وللّه فى حكمته ما يعلو على هذا الذهن البشرى ، .. وقد كان حسب التصور أن الكنيسة ليس فى أبنائها وشبابها فى خطاها الأولى ، من هو أفضل أو ألمع من استفانوس ، .. لكن النجم اللامع كان عليه أن يخطف الأبصار ثم يمضى متوجاً إلى مجده السريع العظيم!!.. ترى كيف نصفه ، وما مفتاح حياته !! ؟ يبدو أن خير كلمة تصف حياته بأكملها هى كلمة "ملاك".. عندما وقف أمام المجمع للمحاكمة قيل عنه : " فشخص إليه جميع الجالسين فى المجمع ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك " ( أع 6 : 15 ) .. لقد بدا على مهابة رائعة ، تجاوزت مظهر الناس ، وارتقت إلى مصاف الملائكة،... والرجل الذى يبدو وجهه كوجه ملاك، ... لابد أن يكون هو بذاته ملاكاً بين الناس،... وهو ملاك فى كل شئ .. إنه الملاك الذى يقف دائماً على النبع ، ويشرب إلى درجة الارتواء ، .. وصفه الكتاب بالقول : "مملوءاً من ... الروح القدس" (أع 6 : 5) ، إن شجرة حياته تمد أصولها إلى الغدير ، عند مجارى المياه ، فإذا رأيت فيه الجمال كل الجمال ، وإذا رأيت فيه الاخضرار كل الاخضرار ، وإذا رأيت فيه البهاء كل البهاء ، ... فالسر أنه لم يأخذ قليلا من الروح القدس ، أو جدولا ضحلا من الملء الإلهى ، بل أخذ الملء كله ، ... إن كل مؤمن يأخذ من اللّه شيئاً،... لكن الفرق بين مؤمن ومؤمن ، هو الفرق بين من يسكن فيه روح اللّه ومن يمتلئ بروح اللّه ... إن الملاك هو الذى يأتينا من عالم خفى غير منظور ، ... واستفانوس كان ملاكاً بهذا المعنى أنه أقرب إلى العالم غير المنظور ، وهو يعيش بالبصيرة أكثر مما يعيش بالبصر ، ولأجل ذلك فالترجمة الصحيحة لحياته فى علاقته بالروح القدس هى الملء أيضاً بالإيمان : " مملوءاً من الإيمان " ( أع 6 : 5 ) وما الإيمان إلا أن يطل المرؤ ببصيرته ويتشدد لأنه يرى من لا يرى ، ... هو انطلاق الرؤيا إلى العالم الأسمى والأعظم والأجل ، العالم الأبدى ، ... وكان استفانوس يعيش مع هذا العالم وبعمق فى حياة الإيمان ، ... لقد رأيناه فى اللحظة الأخيرة يرى السموات مفتوحة ، ولنا أن نتأكد تماماً أنه عاش وعينه على الدوام مفتوحــــة على العالم الأبدى !! .. قال المرنم القديم : " أرفع عينى إلى الجبال من حيث يأتى عونى " ..
وكان دانيال يتزود كل يوم ، صباحاً وظهراً ومساء من وراء الكوى المفتوحة فى السبى من عالم الأعظم الذى لم يغب عن عينيه وهو يتطلع تجاه أورشليم ، وعاش بالرؤيا البعيدة فى العالم غير المنظور ، وعاش استفانوس ، وعيناه على السماء المفتوحة التى منها يأتى الملاك وإليها يذهب !! .. وكان استفانوس ملاكاً متوجاً فى سيرته أمام الناس . لقد كان أول السبعة المشهود لهم " مشهوداً لهم " ( أع 6 : 3).. لو سألت الذين تعاملوا معه ، وعاش بينهم ، ما رأيكم فى استفانوس ؟ لكان الجواب القوى الصحيح : هذا الرجل " ملاك " بكل ما فى الكلمة من معنى ، إنه لا يبصر يتيماً دون أن ينحنى عليه فى رقة بالغة ، ولا يرى أرملة تبكى ، دون أن تذرف عينيه دموعاً لتعاستها وآلامها ، .. ولا يمكن أن يبصر جائعاً يتلوى من الجوع دون أن يطعمه ويشبعه ، ولا يستريح حتى تعود الابتسامة إلى شفتيه ، ألم أقل لكم إنه ملاك يتمشى بين الناس،... على أنه أكثر من ذلك كان له لسان الملائكة فى الحجة والبلاغة ، ... إذ كانت فصاحته لا تبارى، حاج الكثيرين من اليهود فى مجامعهم ، فعجزت حجتهم عن البلوغ إلى مستوى حجته ، وقصر بيانهم عن الوصول إلى بيانه، أفحمهم ولم يستطيعوا أن يقاوموا الحكمة والروح الذى كان يتكلم به ، كان واحداً من أئمة البيان إذا جاز القول أو التعبير ، وكان الخطيب المصقع الذى ظهر فى الميدان واتجه إليه الإعجاب من المريدين ، والخصومة من الحاقدين ، ولعل بيانه هذا هو الذى جعله فى الطليعة يكاد الرسل يتوارون وراءه أمام الجميع فى أورشليم ، ... وكان استفانوس فى قوة التدبر والتدبير ، ... كانت حكمته واسعة فى مواجهة المتطلبات المتعددة ، وكان صاحب المشورة النافذة والحكمة السماوية النازلة من فوق ، ... وكانت له قدرة الملائكة فى صنع العجائب والمعجزات ، وما كثر ما جرت على يديه آيات وعجائب رآها الجميع ومست حياة الكثيرين !! .. كان رجلا خارقاً غير عادى ، إذا جاز التعبير ، وهو كنجمة الصبح التى تلمع فى الظلام، وما أسرع ما تختفى ، ولكن جمالها أن تنفرد بين النجوم باللمعان !! ..
استفانوس الشماس
إن ظهور نظام الشموسية فى الكنيسة يثير أمامنا عدة قضايا بالغة الأهمية ، ولعل أول قضية يثيرها هى التمييز بين إنجيل الخلاص والإنجيل الاجتماعى ، ... وكان إنجيل الخلاص له السبق ولا شك قبل الإنجيل الاجتماعى ، وفى الحقيقة كان الرسل على صواب عند الموازنة بين الإنجيلين حيث فضلوا " الصلاة وخدمة الكلمة " (أع 6 : 4).. على الخدمة الاجتماعية ، فاختصوا هم بالأهم ، وتركوا الخدمات الأخرى لغيرهم من المساعدين ، ... عندما جاء المسيح إلى الأرض ، كان واضحاً أنه جاء ليكون مخلصاً للعالم ، وأنه اهتم بشفاء الجسد وإطعام الناس ، وهو يفكر دائماً فى النفس ، " لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه . أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه !! .. ( مت6 1 : 6 2 ) إذا رأينا شخصاً تشتعل فيه النار ، لا شبهة فى أن أول ما تفعله معه ، هو أن ننقذه من هذه النار قبل أن نفكر فى إطعامه أو كسائه ، والكنيسة الناجحة التى تفهم رسالتها ، هى التى تفعل ذلك ، فإذا اهتمت بكافة الاحتياجات الأخرى للإنسان من اجتماعية وصحية ومادية ، فهى لا يجوز لها أن تفعل ذلك ، إلا وعينها على احتياجاته الروحية ، وخير مثال على ذلك ما فعله المسيح مع المفلوج الذى حمله الأربعة إليه ، إذ عنى أول كل شئ ، بالجانب الذى لم يفكر فيه أحد ، ... كان غفران الخطية للمفلوج أهم عند السيد من شفاء جسده ، ... ولم يترك مع ذلك المريض بدائه العضال ، لكنه أعطاه الشفاء ، تالياً لحاجته الروحية ( مر2 : 3 – 12 ) ومريض بيت حسدا الذى عانى مرضاً مدة ثمان وثلاثين سنة ، وشفاه المسيح كانت نصيحته الهامة اللاحقة للشفاء : " ها أنت قد برئت . فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر " ( يو 5 : 14 ) .. هذه الحقيقة الثابتة ينبغى أن نضعها نصب عيوننا ونحن نتأمل قصة استفانوس الشماس ... عندما ذهب نعمان السريانى إلى أليشع لم يكن يفكر فى أكثر من شفاء البرص ، ولكن فكر اللّه كان أجل وأعمق وأصدق ، إذ عاد نعمان وقد شفى من برص أقسى وأشد ، وهو برص النفس الذى يلصق بالنفس الخاطئة . حسن أن تنشئ الكنيسة المستشفى والملجأ والمدرسة والنادى ، ولكنها قبل هذه جميعها ينبغى أن تنشئ اجتماعات الشباب ، ومدارس الأحد ، وحلقات الصلاة ، وخدمات العمل الفردى لربح النفوس ، والنشرات ، والنبذ والكتب التى تنادى بكلمة اللّه ، بل إن الإنجيل الاجتماعى بكافة وسائله وأساليبه ينبغى أن ينتهى فيه الطريق إلى إنجيل الخلاص ، فالخلاص أولا والخلاص أخيراً هو هدف الكنيسة ورسالتها بين الناس الذين جاء المسيح ليموت من أجلهم على هضبة الجلجثة !! ..
على أن القضية تكشف لنا أيضاً عن دور الشعب فى الكنيسة ، فالرسل لم يستأثروا بكل شئ ، بل فتحوا الباب واسعاً أمام الشعب . فالكنيسة لا يمكن أن تقتصر فى خدمتها على الوعاظ والقادة دون الشعب ، ... ومن القديم والشعب يشق الطريق إلى الخدمة الناجحة ومنهم من كان كاستفانوس الذى وهو العلمانى الذى يخدم احتياجات الكنيسة المادية كان واحداً من أعظم أبطالها فى الخدمة الروحية!!.. هل يعرف المؤمنون هذا الدور العظيم المطروح أمامهم وهل يعلمون أن فرانسس الأسيسى كان جندياً ، ويوحنا بنيان كان سمكرياً ، وجون وولمان كان ترزياً ، وتشارلس فنى كان محامياً ، ودوايت مودى كان بائعاً فى أحد المحال التجارية !! .. إن ميدان الخدمة واسع أمام الجميع ، وعلى قدر ما تعطى الكنيسة العلمانيين فرصة الخدمة فيها على قدر ما يمكن أن تكون نامية وناجحة !!
ومن الملاحظ أيضاً قوة الابتكار عند الكنيسة ، فهى الهيئة التى يلزم أن تتصرف، وتبتكر ما يمكن أن يكون للخير ولمجد اللّه ، .. لم يكن نظام الشموسية معروفاً قبل ذلك عند اليهود ، ... ولكن الأزمة النفسية التى حدثت فى الكنيسة ، كان لابد أن تعالج بصورة ما .. لما نمت الكنيسة فى أورشليم ، لم يتيسر تنظيم إطعام الجماهير المحتاجة أو خدمتهم بأسلوب منظم دقيق ، فحدث غبن للبعض وعلى وجه الخصوص أرامل اليونانيين ، ويعتقد البعض أن روح الحزبية تدخلت بهذه الصورة أو تلك فى الاهتمام بالعبرانيات أكثر من اليونانيات ، وعلق هؤلاء على أن هذه الروح بدأت فى الكنيسة ، وما تزال إلى اليوم تأخذ هذه الصورة أو تلك فى التفرقة بسبب اللون أو الجنس أو الثقافة أو الحالة الاجتماعية ، أو ما أشبه ، مما دخل عن وعى أو من غير وعى ، إلى يومنا الحاضر إلى الحياة الروحية والكنيسية ، .. على أن آخرين ينفون هذا بالنسبة للكنيسة الأولى فى أورشليم ويعللون التفرقة بأن أرامل العبرانيات ربما كن معروفات عند التلاميذ أكثر من اليونانيات ، ... ومع ذلك فقد حدث تذمر من اليونانيين إزاء هذه الحالة ، غير أن هذا التذمر كان رقيقاً هادئاً مؤدباً ، وهذا ما تعنيه الكلمة فى الأصل اليونانى ، غير أنه ما أن بلغ هذا التذمر أذان التلاميذ حتى سارعوا إلى علاجه بأسلوب ديمقراطى جميل ، فلم يأمر الرسل بفرض أشخاص معينين ، بل طلبوا من الجمهور أن ينتخبوا سبعة رجال ممن يصلحون لهذا العمل ، وقد لوحظ أن السبعة يتسمون بأسماء يونانية مما يفيد أن الكنيسة تريد فى رفق وود ولين ومحبة أن تهتم بفريق الغرباء فيها وأن تتلافى شكاوى اليونانيات !! ..
وقد آشرنا فى تحليل شخصية استفانوس إلى الشروط التى يلزم أن يتصف بها الشماس من " حسن السمعة " إذ ينبغى أن يكون مشهوداً له بالحنان والحب والرقة والاستعداد لخدمة الآخرين ، لا على أسس أدبية إنسانية ، بل على أساس " الامتلاء من روح اللّه " والحكمة التى تعطيه القدرة على التصرف السليم تجاه كافة الظروف والملابسات ، ... وهو الإنسان الذى ينبغى أن يمتلئ بالإيمان لمواجهة كافة الأزمات والمفاجآت فى المستقبل !! ..
قضى استفانوس على الأغلب ثلاث سنوات فى عمله كشماس ، وما من شك فى أن خدمته امتلأت بروح العطف والحنان من نحو الجميع ، ولا سيما الأيتام والأرامل والمحتاجين والبؤساء!! .. كان دونالد ماكلود الواعظ الاسكتلندى المشهور يسير ذات يوم فى شوارع أدنبره ، عندما اقترب منه صبى وطلب أن يمسح له حذاءه ، وكان اليوم شديد البرد ، والولد يرتعش ، .. وابتسم ماكلود فى وجه الغلام وسمح له ، ... وقال ماكلود للغلام وهو يقوم بعمله : يا بنى هل أنت بردان مقرور..
فتردد الصبى قليلا وهو يقول : لقد كنت كذلك ياسيدى إلى أن ابتسمت فى وجهى!!... من المؤكد أن استفانوس ابتسم فى وجه الكثيرين ، ولم يتركهم فى بؤسهم أو آلامهم بل تحولوا من البؤس والألم والحزن إلى الفرح والبهجة والرضا والسكينة !.
استفانوس المدافع عن الحق
لم يقف استفانوس عند حدود كونه شماساً بالكنيسة ، والرجال العظام لا تحدهم الأعمال التى يكلفون بها . لقد برز استفانوس ووقف فى الطليعة بين أبطال المسيحية الذين خلد التاريخ كفاحهم وبطولتهم فى الدفاع عن الحق ، لقد برز كواحد من أبرع المدافعين عن المسيح والكنيسة ، وأغلب الظن أنه كان ينتقل بين المجامع اليهودية يعظ ويتحدث ويشهد لسيده شهادة قوية أمينة ، وكان فى أورشليم فى ذلك الوقت ما يزيد على أربعمائة وثمانين مجمعاً ، ونحن لا ندرى هل كان مجمع الليبرتينيين والقيروانيين والاسكندريين والذين من كيليكيا وأسيا الذين حاوروا استفانوس هو مجمع واحد أو أكثر من مجمع ، إنما نعلم أن جميعهم من اليهود الغرباء فالليبرتينيون هم أبناء اليهود الذين سباهم بومبى عام 63 ق. م وأسكنهم فى روما ثم منحوا الحرية بعد ذلك فجاء فريق منهم إلى أورشليم مرة أخرى ، والقيروانيون والاسكندريون من يهود القيروان والإسكندرية ، ويهود كيليكيا وأسيا ، من الذين قطنوا أسيا الصغرى ، وكان منهم شاول الذى أصبح فيما بعد الرسول بولس ، .. هؤلاء تجمعوا على استفانوس وحاوروه محاورات انتهت بتفوقه عليهم ، وبحقدهم عليه ، وتدبير المؤامرة التى انتهت باستشهاده !! ... على أية حال إن استفانوس يقف على رأس ذلك الصف الطويل الذى أطلق عليه اسم الآباء الرسوليين أو المدافعين المناضلين ، أمثال أكليمندس وأغناطيوس وبوليكاربوس أو المدافعين اليونانيين من أمثال أرستيدس ويوستنيان وتاتيان وأثيناغورس وثاوفيلس وغيرهم من قافلة الفكر المسيحى حتى عصر أوغسطينوس من أمثال ايريناوس وترتليانوس وأوريجانوس ويوسابيوس وأثناسيوس وغريغورى النايزنزى وباسيليوس وغريغورى النسى وأمبروز وفم الذهب وجيروم ، .. فإذا ذكرنا لهؤلاء جميعاً ، عظمة الدفاع عن الحق المسيحى ، فلا يجوز أن ننسى أن استفانوس كان أول المحاورين والمدافعين عن الحق فى فجر المسيحية وهى تبزغ بضوئها العظيم منذ ذلك التاريخ !! ...
استفانوس الشهيد
قدم استفانوس للمحاكمة أمام السنهدريم وأتهم بالتجديف على اللّه وموسى والناموس والموضع المقدس كما زعم مضطهدوه ، ربما أخذوا من كلامه ما أضافوا إليه أو أنقصوا منه ما جعله يبدو فى شكل تجديف ، وقد قال أحدهم إن أنصاف الحق كثيراً ما تكون أبشع تصوير للحق الصحيح،.. ويعد دفاع استفانوس من أروع ما سجل التاريخ البشرى ، إذ حمل ميزتين عظيمتين، ونعنى بهما جمال الاستهلال ، وعمق الحق ، ... ومع أنه استعرض التاريخ اليهودى المحبوب على أسماع قضاته ، لكنه قادهم وهم لا يدرون إلى الحقيقة القاسية المرتبطة بتاريخهم ، وهى أنهم امتداد مستمر لأبائهم العصاة المتمردين على اللّه ، .. ونحن نلاحظ هنا أنه لم يستتعطف قضائه أو يتملقهم على حساب الحق !! .. ولا أستطيع أن أقف من استفانوس متعجباً ، وهو لا يفزع أو يخاف ، دون أن أذكر - على التو - ما حدث فى مجمع ورمس حيث وقف لوثر وقفته التاريخية المشهورة فى ذلك اليوم !! .. لقد تعرض لوثر للضعف وطلب مهلة للإجابة على الأسئلة الموجهة إليه ، فأعطيت له مهلة يوم واحد ، وقد قضى الرجل الليلة التى سيقف بعدها فى الغد للإجابة العتيدة ، فى صراع مع اللّه ، ... وهنا استقرت نفسه وهدأت ، وقرر أن يعطى الجواب الأمين ، مهما كانت النتائج التى ستتمخض عنه !! .. كان قربه من اللّه هو الذى ألهمه الشجاعة التى لا يملكها إنسان مهما كان خارق الجسارة أو البطولة دون مساعدة اللّه !! ... وقد شاء اللّه أن يقترب من استفانوس فى أحرج ساعة له على الأرض ، فانفرجت السماء عن العرش العظيم والمسيح القائم عن اليمين ، وهنا ارتفع الرجل فوق البشر والظروف ، وتملكته القوة الخارقة التى تسيطر عادة على الأبطال والشهداء فى أعظم المواقف التى يتعرض لها الإنسان بين الناس ، وهنا نرى بطولة الشاهد ، وبسالة الشهيد ، ... هنا نرى الوجه وقد أضاء بلمعان سماوى ، فلم يعد وجه إنسان ، بل أضحى وجه ملاك ، ... وفى الحقيقة إن استفانوس كان قريباً جداً من السيد ، ويكفى أنه والحجارة تنهال عليه ، فعل مثل سيده تماماً وهو على الصليب ، فلن يطلب الغفران للمسيئين إليه ، كما غفر المسيح فحسب ، بل صلى أيضاً مثل سيده وهو يستودع روحه : " أيها الرب يسوع أقبل روحى !! .. ( أع 7 : 59 ) وحيث أنه مات رجماً بالحجارة فمن المعتقد أن هذا حدث على الأغلب، فى آخر عام 36 أو أوائل عام 37 م ، فى الوقت الذى دعت فيه روما واليها المعروف بيلاطس البنطى لتحاسبه على جرائمه المتعددة ، ولم تكن قد أرسلت خلفاً له، فأتاح هذا لليهود فرصة الحكم عليه بالإعدام وتنفيذه بعيداً عن تدخل الرومان!!.. ومن المعتقد أن الرجم حدث شرقى الهيكل على حافة وادى قدرون بالقرب من باب دمشق الذى كان يدعى فيما مضى باب استفانوس !!.
ومن الواضح أن موت استفانوس لم يكن عميق الأثر فى حياة ذلك الشاب القديم الذى كان حارساً لثياب قاتليه فحسب ، بل تحول فى مجرى التاريخ ليكون عظة بالغة ، من غير حدود ، فى حياة الملايين من البشر فى الشرق أو الغرب على حد سواء ... ولعلنا نختم هنا بما قاله سر توماس مور للقضاة الذين حكموا عليه بالموت على أثرر نطقهم بالحكم : أيها السادة ولو أنكم حكمتم علىَّ ظلماً . لكنى اود أن أقول إن بولس كان حارساً لثياب الذين قتلوا استفانوس ، والآن هما صديقان معاً فى السماء ، وأنا أصلى أن يكون الأمر أيضاً معنا كذلك ، لنلتقى فيما بعد فى السماء!!.. وهكذا كان استفانوس رائعا فى حياته القصيرة على الأرض ، وأروع فى الشهادة الأمينة التى ختمها بدمه. واستحق إكليل المجد الذى لا يبلى فى السماء!!.