إن كان الموت قد دب في الجنس البشري إنما ليكشف عن موت خفي أكثر خطورة هو موت النفس الداخلي وفسادها، الأمر الذي ظهر في انسحاب قلب أولاد الله نحو بنات الناس وفساد الأرض، فصارت الأرض في حاجة إلي تجديدها مرة أخرى خلال الطوفان وفلك نوح.
+ مقدمة عن الفلك والطوفان.
1. أبناء الله وبنات الناس 1-4.
2. نوح البار 5-10.
3. فساد الأرض 11-12.
4. فلك نوح 13-22.
+ مقدمة عن الفلك والطوفان:
احتلت قصة الطوفان مركزًا رئيسيًا في تاريخ الخلاص وتجديد العالم بالمياه، إذ أعلن الله: "نهاية كل بشر قد أتت قدامي"، لا ليبيد الإنسان وإنما ليجدد العالم، فيحول كارثة الطوفان إلي خير أعظم للبشرية التي ألقت بنفسها في الهلاك الأبدي. هكذا جاء الطوفان في الخارج يكشف عن طوفان الخطية المدمر للنفس في الداخل.
توارثت البشرية هذه القصة وقدمتها الشعوب بصور مختلفة متباينة، انحرفت عن هدفها الحقيقي، وشابها الكثير من الأساطير. وفيما يلي صورة موجزة عن بعض التقاليد القديمة الخاصة بالقصة:
أ. آثار بابل: جاء في آثار بابل عن الكاهن المصري بيروسوس من رجال القرن الثالث ق.م أنه في عهد الملك أكسيسوثروس Xisuthras حدث طوفان، حيث بني الملك فلكًا أخذ فيه عائلته وأصدقاءه المقربين إليه، وجمع فيه من الطيور والحيوانات والمؤن حتى إذا انقطع المطر أرسل بعض الطيور فجاءته وأرجلها بها طين، وهكذا في المرة الثانية، وفي الثالثة لم ترجع، وقد رسى الفلك في أريدينا.
أما أقدم رواية عن الطوفان في بابل فهي "ملحمة جلكامش Gilgamesh" التي جاء فيها أن جلكامش سأل أثنافيشتيم عن سبب بلوغه الحياة اللانهائية، فروي له قصة الطوفان، كيف أن أربعة آلهة قرروا إهلاك العالم بالطوفان، لكن إله الحكمة "أيا" أمره أن يضع فلكًا ليدخل فيه مع أسرته. وأنه أرسل بعض الطيور ليتفقد أحوال الأرض فعاد بعضها يحمل غصنا من الزيتون. بعد خروجه قدّم ذبائح شكر فجاء إله الحكمة يباركه هو وزوجته ويهبهما الحياة الخالدة.
ب. آثار الهند: وُجدت صورة في هيكل للبوذيين لنوح داخل الفلك، والآلهة كوانين تتطلع إليه بشفقة، كما رُسمت حمامة تطير إلي الفلك ومعها زيتون.
ومن القصص الهندية أن الإله براهما ظهر لمانو في هيئة سمكة، وأمره أن يصنع له فلكًا يدخله مع سبعة من الأبرار. ثم ربط الفلك بقرني السمكة، فسبحت به في الطوفان أجيالاً طويلة، ولما خرج أمرته أن يخلق العالم من جديد.
ج. الآثار اليونانية: جاء أن الإله جوبتر أمر ديوكاليون البار أن يدخل الفلك مع امرأته وبقية عائلته. ولما رسا الفلك علي جبل بارتاسوس أرشدته الحمامة إلي نهاية الطوفان، فخرج يقدم ذبائح شكر.
د. آثار فريجية بآسيا الصغرى: قيل أن "أباخوس"، وهي كلمة يحتمل أن تكون محرفة عن "نوح"، عرف بأمر الطوفان فبكي من أجل الناس. وقد وجدت في أباميا بفريجية قطع من العملة عليها صورة الفلك بداخله أناس، وخارجه طيور يحمل أحدها غصن زيتون. وبجانبه صورة لنفس الأشخاص يقدمون ذبائح شكر لأجل نجاتهم. وقد نقش عليها اسم نوح، وكان اسم المدينة القديم "كبوتوش" أي (الفلك)، إذ كان أهلها يعتقدون أن الفلك استقر في مدينتهم.
ه. وجدت قصص مشابهة لدي شعوب الفرس والصين والفينيقيين والسريان والأرمن وقبائل هنود المكسيك الخ...
هذه التقاليد القديمة وإن حملت أساطير لكنها تكشف عن وجود قصة حقيقية واقعية تسلمتها البشرية، انحرفت بها خلال عبادتها الوثنية.
1. أبناء الله وبنات الناس:
"وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون علي الأرض ووُلد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا" [1، 2].
إذ يتحدث القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة الله" عن مدينتين إحداهما أرضية وأخري سماوية، الأولي تمثل جماعة الأشرار المرتبطين بالأرضيات، والأخرى جماعة المؤمنين المرتبطين بالسماويات، لذلك عندما تعرض للعبادة التي بين أيدينا رأي في زواج أبناء الله ببنات الناس الخلطة بين المدينتين، الأمر الذي يفسد مواطني المدينة السماوية. هذا الأمر حذرنا منه الرسول بولس بقوله: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟" (2 كو 6: 14، 15).
جاء تعبير "أبناء الله" في الترجمة السبعينية "الملائكة"، بينما الترجمة الحرفية للعبرية "أبناء الآلهة"... لهذا يتساءل القديس أغسطينوس وهو يعتمد بالأكثر علي الترجمة السبعينية: هل يتزوج الملائكة بنساء من البشر؟ وإذ أجاب علي السؤال بشيء من الإطالة اكتفي بعرض النقاط الرئيسية في شيء من الاختصار[162]:
أولاً: إن كلمة "أنجيلوس" في اليونانية تعني (رسول)، وكأن تعبير "ملائكة" هنا يشير إلي خدام الله، وكأن أولاد الله أو خدامه قد انشغلوا بالزواج بشريرات عوض انشغالهم بخدمة الله.
ثانيًا: يقول القديس أغسطينوس أن في عصره ظهرت خرافات كثيرة بين الوثنيين تدعي اعتداء بعض الشياطين علي النساء بطريقة جسدية دنسة، الأمر الذي لا يمكن قبوله خاصة بالنسبة لملائكة الله. لهذا فإن قول الرسول بطرس: "لأنه إن كان لم يشفق علي ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء" (1 بط 2: 4)، لا يعني سقوطهم في شهوات جسدية مع نساء بشريات، إنما سقوطهم قبل خلق الإنسان في الكبرياء.
ثالثًا: جاء التعبير في ترجمة أكيلا "أبناء الآلهة" وهو ينطبق علي المؤمنين الذين قيل عنهم: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي كلكم" (مز 82: 6). بمعني آخر أن ما قصده الكتاب سواء ملائكة أو أبناء الآلهة إنما يعني أبناء شيث الذين كان ينبغي أن يعيشوا كملائكة الله وخدامه المشتعلين بنار الحب الإلهي، أو كآلهة، فإذا بهم ينجذبون إلي بنات قايين الشريرات لجمالهن الجسدي. بهذا اختلط الأبرار بالأشرار، وفسد الكل، فصارت الحاجة إلي تجديد عام لكل الخليقة خلال مياه الطوفان. لقد أعلن الرب عدم رضاه بقوله:
"لا يدين روحي في الإنسان إلي الأبد لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة" [٣].
إذ زاغ الإنسان إلي الشر أعلن الله أن روحه لا يدين في الإنسان إلى الأبد، أي لا يستقر فيه مادام يسلك في الشر، وأن أيامه تقصر إلي مائة وعشرين عامًا، وقد تحقق ذلك بالتدريج بعد الطوفان، وإن كان قد سمح للبعض أن يعيشوا أكثر من مائة وعشرين لكنهم بلا حيوية. وربما قصد بالمائة وعشرين عامًا الفترة التي فيها أنذر نوح الناس حتى دخل الفلك.
ولعل قوله: "لا يدين روحي في الإنسان" يعني أنه مادام الإنسان مصرًا علي شره وعناده يُحرم من تبكيت الروح القدس فيه، إذ يسلمه الله لذهن مرفوض. ويري البعض أن كلمة "روحي" لا تعني (روح الله القدوس) وإنما الروح التي وهبها الله للإنسان، فإنها لا تبقي في الجسد أبديًا بل يسحبها بعد 120 عامًا، وإن كان هذا الرأي غير مقبول.
ويلاحظ أنه إذ زاغ الإنسان إلي شهوة الجسد دعاه الرب "جسدًا"، إذ قال عنه: "هو بشر" وفي الترجمة السبعينية "هو جسد"، وكأنه بسلوكه الجسداني صار كجسد بلا روح، لأن الجسد بشهواته يستعبد الروح أيضًا ويسيرها حسب أهوائه. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الذين لهم أجنحة الروح يجعلون الجسد روحانيًا، هكذا الذين يخرجون عن هذا ويكونون عبيدًا لبطونهم وللذة يجعلون النفس جسدانية لا بمعني يغيرون جوهرها وإنما يفسدون نبل مولدها[163]]، كما يقول: [مع أنه لهم نفوسًا لكنها إذ صارت ميتة فيهم دعاهم "جسدًا" ، هكذا بالنسبة للأتقياء فمع أن لهم جسدًا لكننا نقول أنهم كلهم نفس أو كلهم روح... يقول القديس بولس الرسول عن الذين لم يتمموا أعمال الجسد: "وأما أنتم فلستم في الجسد" (رو 8: 9)، أما من يعيش في ترف فلا يعيش في النفس ولا في الروح بل في الجسد[164]].
هكذا إذ انشغل أولاد الله بالجسديات فأحبوا بنات الناس، تحولوا إلي الجسد وصاروا غير روحيين. أما ثمر هذا العمل فهو إنجاب أولاد طغاة محبين للكرامة الزمنية، إذ يقول: "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام... هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" [٤]. وكأن كل خطية تجلب أخري، أو كأن الإنسان إذ يستسلم لضعف يصير ألعوبة بين الخطايا، كل منها تلقفه لغيرها. فقد بدأ هنا بتطلع أولاد الله إلي جمال بنات الناس جسديًا، فتركوا رسالتهم الروحية وتحولوا إلي الفكر الجسداني، فصاروا جسدًا، وانجبوا العنف وحب الكرامة الزمنية عوض ثمار الروح من لطف ووداعة واتضاع!
2. نوح البار:
"ورأي الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم" [5-7].
لم يكن ممكنًا لله القدوس أن يطيق الشر الذي كثر علي الأرض، ولا يتحمل الالتقاء مع النفس التي خلقها كمسكن له أن يري تصورها شريرًا كل يوم، لهذا حزن أنه صنع الإنسان في الأرض. وحينما يقول الكتاب: "حزن" أو "تأسف قلبه" أو "ندم" ، لا نفهم هذه التعبيرات كانفعالات غضب، إنما هي لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكي نفهم وندرك مرارة الخطية في ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنساني. يفسر لنا القديس أغسطينوس معني تأسف الله أنه عمل الإنسان بقوله: [غضب الله ليس انفعالاً يعكر صفاء عقله إنما هو حكم خلاله تقع العقوبة علي الخطية[165]]. كما يقول: [غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[166]].
هكذا يري القديس أغسطينوس في إعلان الله عن تأسفه أنه خلق الإنسان إنما هو تنازل منه ليحدثنا بلغتنا لندرك مدي ما بلغناه من عدم إمكانية الشركة مع الله مصدر حياتنا، لا بتغير قلب الله من نحونا وإنما بتغيرنا نحن واعتزالنا إياه بقبولنا الفساد الذي هو غريب عن الله. أما تهديده بإبادة الحيوانات والطيور إنما من قبيل محبته الفائقة حتى نعيد النظر من جديد في موقفنا وندرك خطورة الموقف.
العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التي أعلنها الله من جهة بني البشر، لا يتجاهل إنسانًا واحدًا يسلك بالبر وسط جيل شرير، إذ يقول الكتاب: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الله" [٨]. في وسط الظلام الدامس لا يتجاهل إشراقة جميلة مهما بدت صغيرة وباهتة، وفي كل جيل يفرح الله بقديسيه ولو كانوا بقية قليلة وسط فساد عام يملأ الأرض. لقد وجد نوح نعمة في عيني الرب الذي شهد له: "كان نوح رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" [٩]. أما قوله: "في أجياله" فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين، إنما أن قورنا بما يقدمه أجياله من فساد؛ فالإنسان بره نسبي.
3. فساد الأرض:
"وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا... إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض" [11، 12].
يلاحظ أن كلمة "الأرض" تكررت كثيرًا في هذا الأصحاح خاصة في العبارة [5-13]، إذ فيها ذُكرت سبع مرات؛ ولكل تكرار الكلمة يكشف عن أن الله كان يشتاق أن يري في الحياة البشرية سمة سماوية، لكنه إذ فسد الإنسان صار أرضًا ترابية تحمل فسادًا. ولئلا نظن أن مادة الأرض قد فسدت أو ما حملته الأرض من موارد وثمار الخ... لذا أكد: "إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض"، وكأن فساد الإنسان هو الذي شوه المخلوقات غير العاقلة.
4. فلك نوح:
كشف الله لعبده البار نوح ما كان مزمعًا أن يفعله، إذ قال له: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض" [١٣]. كان يمكن لله أن يأمر نوحًا بصنع الفلك فيطيع في إيمان وثقة، لكن الله كمحب للبشر لا يشتاق أن يكون الآمر الناهي، إنما الصديق المحب الذي يحاور الإنسان ويكشف له حكمته وأسراره، وكما يقول المرتل: "سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم" (مز 25: 14). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد كشف له أنه وإن كان يهلكهم مع الأرض، فإن الهلاك هو ثمرة طبيعية لفساد هم اختاروه، ويظهر ذلك من قوله: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي"، وكأنه يقول: لم أكن أود هذا لكنهم صنعوا بأنفسهم هلاكًا يجلب نهايتهم، اختاروه بمحض إرادتهم.
الآن إن كان الأشرار قد فعلوا هكذا بأنفسهم مقدمين هلاكًا حتى للأرض، فالله لا يترك أولاده يهلكون معهم، لذا قدم لنوح أمرًا بعمل فلك لخلاصه، وقد عرض لنا الكتاب المقدس قصة الفلك بدقة شديدة وفي شيء من التفصيل لما حمله الفلك من عمل رمزي يمس خلاصنا بالصليب.
أولاً- أهمية الفلك: في دراستنا للمعمودية[167] لاحظنا كيف سلطت الليتورجيات الكنيسة وأقوال الآباء الضوء علي فلك نوح بكون الطوفان رمزًا لعمل التجديد الحق للطبيعة البشرية، والفلك رمزًا للصليب الذي حمل المسيح معلقًا لأجلنا، فحمل فيه الكنيسة التي هي جسده المقدس. كان لابد من هلاك العالم القديم (الإنسان العتيق) في مياه المعمودية ليقوم العالم الجديد أو الإنسان الجديد الذي علي صورة خالقه يحمل جدة الحياة أو الحياة المقامة في المسيح يسوع (رو 6: 3، 4). كأن الطوفان وهو رمز للمعمودية يضع حدًا فاصلاً بين الحياة القديمة المظلمة والحياة الجديدة المشرقة بنور قيامة الرب يسوع. وقد جاء هذا الفكر الكنسي الآبائي امتدادًا للفكر الرسولي، إذ يقول الرسول بطرس: "وكانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح إذ كان الفلك يُبني، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء، الذي مثاله يخلصنا نحن الآن في المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1 بط 3: 20، 21).
وإذ سبق لنا عرض الفكر الليتورجي والآبائي في هذا الشأن[168] اكتفي ببعض كلمات قليلة:
v خلق الله الإنسان من التراب، وجدده بالماء، ونماه بروحه، ودربه بكلمة للتبني والخلاص، موجهًا إياه بالوصايا المقدسة حتى يحول الإنسان مولود التراب إلي كائن مقدس سماوي عند مجيئه.
القديس أكليمنضس الإسكندري[169]
v في الطوفان - أيام نوح - مات كل جسد أما نوح البار فُحفظ مع عائلته... فالإنسان الخارجي يفني، لكن الداخلي يتجدد. هذا يحدث ليس فقط في المعمودية وإنما أيضًا بالتوبة حيث تفني (شهوات) الجسد فتنمو الروح، كما يعلمنا السلطان الرسولي بالقول: "قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا هكذا... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 3، 5).
القديس أمبروسيوس[170]
ثانيًا- مادة الفلك: "اصنع لنفسك فلكًا من خشب جفرٍ" [١٤]، ربما يعني خشب السرو، وقد جاء في الترجمة السبعينية: "من عرائض مربعة"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنه يشير إلي الكنيسة[171]، أو إلي حياة القديسين الثابتة والراسخة فإن العرائض المربعة أينما حركتها تبقي واقفة[172]].
يقول القديس أمبروسيوس: [إنكم ترون الماء والخشبة والحمامة، فهل تقفون أمام السر حيارى؟ فالماء هو الذي يُغمر فيه الجسد لكي تغسل فيه كل خطية جسدية، ويُدفن فيه كل شر، والخشبة هي التي عُلق عليها الرب عندما تألم لأجلنا، والحمامة هي التي نزل الروح القدس علي هيئتها كما قرأتم في العهد الجديد، ذاك الذي يهبكم سلام النفس وهدوء الفكر، والغراب هو رمز الخطيئة التي تذهب ولا ترجع، إذ حفظ فيكم البر في الداخل والخارج[173]].
ويري العلامة أوريجانوس[174] في العرائض الخشبية المربعة التي تحمل شكلاً منتظمًا بزوايا قائمة إشارة إلي الأنبياء والرسل، خلالها تُقام مكتبة العلم الإلهي في النفس، إذ يري في الفلك رمزًا للدخول إلي أسرار معرفة الله وعلمه خلال كلمته الإلهية.
ثالثًا- أبعاد الفلك: إن كان الفلك يشير إلي التمتع بخلاص السيد المسيح المجاني والدخول في معرفة أسرار الله الفائقة خلال الصليب حتى دعاه العلامة أوريجانوس "مكتبة الكلام الإلهي" أو "مكتبة العلم الإلهي"، لذا جاءت أبعاده من طول وعرض وارتفاع تشير إلي الإيمان والمحبة والرجاء، إذ يقول: [من كان قادرًا أن يسمع كلام الرب والأمور الإلهية بالرغم من ثقل الشر وكثرة الرذائل، تاركًا عنه الأمور الفانية السريعة الزوال، فمثل هذا يبني في قلبه فلك الخلاص ويكرس في نفسه مكتبة الكلام الإلهي، فيعطى له الإيمان والمحبة والرجاء كطول وعرض وارتفاع. فالإيمان بالثالوث القدوس هو الطول الممتد إلي الخلود، والعرض هو المحبة التي تبسطها العواطف اللطيفة الرقيقة، وأما الارتفاع فهو الرجاء الذي يحمله إلي حيث الحق السماوي، إذ ونحن علي الأرض تكون "سيرتنا في السموات" (في 3: 20)[175]]. في أكثر تفصيل يقول بأن الطول 300 ذراعًا، لأن رقم 100 يشير إلي قطيع المسيح العاقل (لو 15: 4، 5) والذي يحرص السيد المسيح ألا يضيع منه خروف واحد. فإن هذا القطيع يتقدس خلال معرفته بالثالوث القدوس (100 × 3)، أو الإيمان به. أما عرض الفلك فهو 50 ذراعًا، وقد رأينا في دراستنا لسفر الخروج والعدد أن رقم 50 يشير إلي التمتع بغفران الخطايا[176]، كما كان يحدث مع اليوبيل (السنة الخمسين) حيث يتم عفو عام وشامل وتحرير للعبيد والأرض، وأيضًا كما حدث في يوم الخمسين حين حلّ الروح القدس علي التلاميذ في العلية ليهب الكنيسة طبيعة سماوية متحررة من الخطية. فالعرض يشير إلي المحبة، محبة الله الغافرة وحبنا الساتر لضعفات الآخرين. أما العلو فثلاثون ذراعًا يشير إلي ارتفاع الإنسان إلي الله كما انطلق يوسف في سن الثلاثين من السجن إلي القصر ليمسك بتدبير شئون المملكة... إذن ليُبْنَ الفلك الروحي فينا لتكون لنا المعرفة الحقة الاختبارية، طوله الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس، وعرضه الحب الحق لله والناس، وارتفاعه الرجاء في السمويات.
ويري القديس أغسطينوس[177] في أبعاد الفلك رمزًا لجسد السيد المسيح، فالفلك أبعاده هكذا 300 × 50 × 30، والإنسان الكامل في نظر هذا القديس طوله من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ستة أضعاف عرضه من جانبيه (300: 50)، وعشرة أضعاف ارتفاعه (سُمكه) من الظهر إلي الصدر (300: 30). وكأن الفلك يشير إلي كلمة الله الذي صار جسدًا، فحملنا فيه ليعبر بنا خلال الطوفان إلي الأرض الجديدة التي له.
رابعًا- طلاء الفلك بالقار من الداخل والخارج: فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يريدنا أن نكون قديسين من الخارج وأنقياء في الداخل في القلب، محفوظين من كل جانب، محروسين بفضيلة الزهد (القار الخارجي) والطهارة (القار في الداخل)[178]].
خامسًا- الباب الجانبي: يقول القديس أغسطينوس: [بابه الجانبي يشير بالتأكيد إلي الجرح الذي في جنب المصلوب بواسطة الحربة، خلاله يدخل القادمون إليه، ومنه فاضت الأسرار التي بها ينضم المؤمنون به إلي عضويته[179]].
سادسًا- الطوابق الثلاثة: يري القديس أغسطينوس[180] في هذه الطوابق الثلاثة صورة حية للكنيسة التي اجتمعت من كل الشعوب والأمم، إذ استكملت من نسل أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وربما تشير هذه الطوابق إلي الفضائل الثلاث التي أمر بها الرسول: الإيمان والرجاء والمحبة. كما يري في هذه الطوابق الثلاثة المؤمنين الذين جاءوا وبثلاث كميات متباينة من المحاصيل مائة ضعف وستين وثلاثين (مت 13: 23، مر 4: ، أو يمثل المدينة السماوية أو الكنيسة الأبدية التي تضم في عضويتها متزوجين أطهارًا وأيضًا أرامل وبتوليين أنقياء.
ويري العلامة أوريجانوس[181] في الطوابق الثلاثة إشارة إلي طرق التفسير الثلاثة: التفسير الحرفي، التفسير السلوكي أو الأخلاقي، والتفسير الروحي. فمن يقف عند التفسير الحرفي يَكُنْ كمن استقر في الطابق الأسفل مع الحيوانات أما من يرتفع إلي السلوكي ثم ينعم بالروحي فيكون كنوح رجل الله وعائلته في لقاء مع الله.
سابعًا نوح وعائلته داخل الفلك: يقول العلامة أوريجانوس: [بصعودنا خلال أدوار الفلك المختلفة نصل إلي نوح نفسه الذي يعني (نياح) أو (بر)، فنوح هو يسوع المسيح، إذ لا ينطبق علي نوح القديم قول لامك أبيه: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب" (تك 5: 29)... انظروا إلي ربنا يسوع المسيح الذي قيل عنه: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29)، "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من علق علي خشبة" (غلا 3: 3)، وأيضًا قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). ها أنتم ترونه بالحقيقة يهب راحة للبشرية، ويخلص الأرض من اللعنة[182]].
هذا وقد لاحظ القديس بطرس الرسول أن عدد النفوس التي خلصت خلال الفلك ثمانية (1 بط 20، 21)، هذا الرقم يشير إلى الكنيسة المختفية في صليب ربنا يسوع المسيح، أو يشير إلي طبيعتها السماوية وسمتها الجديدة خلال تمتعها بالحياة المقامة في المسيح يسوع. نحن نعلم أن رقم 8 يشير إلي الحياة ما بعد الزمن، حيث يشير رقم 7 إلي أيام الأسبوع، فكأن رقم 8 يعني تعدى حدود الزمن.
+ مقدمة عن الفلك والطوفان.
1. أبناء الله وبنات الناس 1-4.
2. نوح البار 5-10.
3. فساد الأرض 11-12.
4. فلك نوح 13-22.
+ مقدمة عن الفلك والطوفان:
احتلت قصة الطوفان مركزًا رئيسيًا في تاريخ الخلاص وتجديد العالم بالمياه، إذ أعلن الله: "نهاية كل بشر قد أتت قدامي"، لا ليبيد الإنسان وإنما ليجدد العالم، فيحول كارثة الطوفان إلي خير أعظم للبشرية التي ألقت بنفسها في الهلاك الأبدي. هكذا جاء الطوفان في الخارج يكشف عن طوفان الخطية المدمر للنفس في الداخل.
توارثت البشرية هذه القصة وقدمتها الشعوب بصور مختلفة متباينة، انحرفت عن هدفها الحقيقي، وشابها الكثير من الأساطير. وفيما يلي صورة موجزة عن بعض التقاليد القديمة الخاصة بالقصة:
أ. آثار بابل: جاء في آثار بابل عن الكاهن المصري بيروسوس من رجال القرن الثالث ق.م أنه في عهد الملك أكسيسوثروس Xisuthras حدث طوفان، حيث بني الملك فلكًا أخذ فيه عائلته وأصدقاءه المقربين إليه، وجمع فيه من الطيور والحيوانات والمؤن حتى إذا انقطع المطر أرسل بعض الطيور فجاءته وأرجلها بها طين، وهكذا في المرة الثانية، وفي الثالثة لم ترجع، وقد رسى الفلك في أريدينا.
أما أقدم رواية عن الطوفان في بابل فهي "ملحمة جلكامش Gilgamesh" التي جاء فيها أن جلكامش سأل أثنافيشتيم عن سبب بلوغه الحياة اللانهائية، فروي له قصة الطوفان، كيف أن أربعة آلهة قرروا إهلاك العالم بالطوفان، لكن إله الحكمة "أيا" أمره أن يضع فلكًا ليدخل فيه مع أسرته. وأنه أرسل بعض الطيور ليتفقد أحوال الأرض فعاد بعضها يحمل غصنا من الزيتون. بعد خروجه قدّم ذبائح شكر فجاء إله الحكمة يباركه هو وزوجته ويهبهما الحياة الخالدة.
ب. آثار الهند: وُجدت صورة في هيكل للبوذيين لنوح داخل الفلك، والآلهة كوانين تتطلع إليه بشفقة، كما رُسمت حمامة تطير إلي الفلك ومعها زيتون.
ومن القصص الهندية أن الإله براهما ظهر لمانو في هيئة سمكة، وأمره أن يصنع له فلكًا يدخله مع سبعة من الأبرار. ثم ربط الفلك بقرني السمكة، فسبحت به في الطوفان أجيالاً طويلة، ولما خرج أمرته أن يخلق العالم من جديد.
ج. الآثار اليونانية: جاء أن الإله جوبتر أمر ديوكاليون البار أن يدخل الفلك مع امرأته وبقية عائلته. ولما رسا الفلك علي جبل بارتاسوس أرشدته الحمامة إلي نهاية الطوفان، فخرج يقدم ذبائح شكر.
د. آثار فريجية بآسيا الصغرى: قيل أن "أباخوس"، وهي كلمة يحتمل أن تكون محرفة عن "نوح"، عرف بأمر الطوفان فبكي من أجل الناس. وقد وجدت في أباميا بفريجية قطع من العملة عليها صورة الفلك بداخله أناس، وخارجه طيور يحمل أحدها غصن زيتون. وبجانبه صورة لنفس الأشخاص يقدمون ذبائح شكر لأجل نجاتهم. وقد نقش عليها اسم نوح، وكان اسم المدينة القديم "كبوتوش" أي (الفلك)، إذ كان أهلها يعتقدون أن الفلك استقر في مدينتهم.
ه. وجدت قصص مشابهة لدي شعوب الفرس والصين والفينيقيين والسريان والأرمن وقبائل هنود المكسيك الخ...
هذه التقاليد القديمة وإن حملت أساطير لكنها تكشف عن وجود قصة حقيقية واقعية تسلمتها البشرية، انحرفت بها خلال عبادتها الوثنية.
1. أبناء الله وبنات الناس:
"وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون علي الأرض ووُلد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا" [1، 2].
إذ يتحدث القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة الله" عن مدينتين إحداهما أرضية وأخري سماوية، الأولي تمثل جماعة الأشرار المرتبطين بالأرضيات، والأخرى جماعة المؤمنين المرتبطين بالسماويات، لذلك عندما تعرض للعبادة التي بين أيدينا رأي في زواج أبناء الله ببنات الناس الخلطة بين المدينتين، الأمر الذي يفسد مواطني المدينة السماوية. هذا الأمر حذرنا منه الرسول بولس بقوله: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنه أية خلطة للبر والإثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! وأي اتفاق للمسيح مع بليعال؟" (2 كو 6: 14، 15).
جاء تعبير "أبناء الله" في الترجمة السبعينية "الملائكة"، بينما الترجمة الحرفية للعبرية "أبناء الآلهة"... لهذا يتساءل القديس أغسطينوس وهو يعتمد بالأكثر علي الترجمة السبعينية: هل يتزوج الملائكة بنساء من البشر؟ وإذ أجاب علي السؤال بشيء من الإطالة اكتفي بعرض النقاط الرئيسية في شيء من الاختصار[162]:
أولاً: إن كلمة "أنجيلوس" في اليونانية تعني (رسول)، وكأن تعبير "ملائكة" هنا يشير إلي خدام الله، وكأن أولاد الله أو خدامه قد انشغلوا بالزواج بشريرات عوض انشغالهم بخدمة الله.
ثانيًا: يقول القديس أغسطينوس أن في عصره ظهرت خرافات كثيرة بين الوثنيين تدعي اعتداء بعض الشياطين علي النساء بطريقة جسدية دنسة، الأمر الذي لا يمكن قبوله خاصة بالنسبة لملائكة الله. لهذا فإن قول الرسول بطرس: "لأنه إن كان لم يشفق علي ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء" (1 بط 2: 4)، لا يعني سقوطهم في شهوات جسدية مع نساء بشريات، إنما سقوطهم قبل خلق الإنسان في الكبرياء.
ثالثًا: جاء التعبير في ترجمة أكيلا "أبناء الآلهة" وهو ينطبق علي المؤمنين الذين قيل عنهم: "أنا قلت أنكم آلهة وبني العلي كلكم" (مز 82: 6). بمعني آخر أن ما قصده الكتاب سواء ملائكة أو أبناء الآلهة إنما يعني أبناء شيث الذين كان ينبغي أن يعيشوا كملائكة الله وخدامه المشتعلين بنار الحب الإلهي، أو كآلهة، فإذا بهم ينجذبون إلي بنات قايين الشريرات لجمالهن الجسدي. بهذا اختلط الأبرار بالأشرار، وفسد الكل، فصارت الحاجة إلي تجديد عام لكل الخليقة خلال مياه الطوفان. لقد أعلن الرب عدم رضاه بقوله:
"لا يدين روحي في الإنسان إلي الأبد لزيغانه هو بشر، وتكون أيامه مائة وعشرين سنة" [٣].
إذ زاغ الإنسان إلي الشر أعلن الله أن روحه لا يدين في الإنسان إلى الأبد، أي لا يستقر فيه مادام يسلك في الشر، وأن أيامه تقصر إلي مائة وعشرين عامًا، وقد تحقق ذلك بالتدريج بعد الطوفان، وإن كان قد سمح للبعض أن يعيشوا أكثر من مائة وعشرين لكنهم بلا حيوية. وربما قصد بالمائة وعشرين عامًا الفترة التي فيها أنذر نوح الناس حتى دخل الفلك.
ولعل قوله: "لا يدين روحي في الإنسان" يعني أنه مادام الإنسان مصرًا علي شره وعناده يُحرم من تبكيت الروح القدس فيه، إذ يسلمه الله لذهن مرفوض. ويري البعض أن كلمة "روحي" لا تعني (روح الله القدوس) وإنما الروح التي وهبها الله للإنسان، فإنها لا تبقي في الجسد أبديًا بل يسحبها بعد 120 عامًا، وإن كان هذا الرأي غير مقبول.
ويلاحظ أنه إذ زاغ الإنسان إلي شهوة الجسد دعاه الرب "جسدًا"، إذ قال عنه: "هو بشر" وفي الترجمة السبعينية "هو جسد"، وكأنه بسلوكه الجسداني صار كجسد بلا روح، لأن الجسد بشهواته يستعبد الروح أيضًا ويسيرها حسب أهوائه. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الذين لهم أجنحة الروح يجعلون الجسد روحانيًا، هكذا الذين يخرجون عن هذا ويكونون عبيدًا لبطونهم وللذة يجعلون النفس جسدانية لا بمعني يغيرون جوهرها وإنما يفسدون نبل مولدها[163]]، كما يقول: [مع أنه لهم نفوسًا لكنها إذ صارت ميتة فيهم دعاهم "جسدًا" ، هكذا بالنسبة للأتقياء فمع أن لهم جسدًا لكننا نقول أنهم كلهم نفس أو كلهم روح... يقول القديس بولس الرسول عن الذين لم يتمموا أعمال الجسد: "وأما أنتم فلستم في الجسد" (رو 8: 9)، أما من يعيش في ترف فلا يعيش في النفس ولا في الروح بل في الجسد[164]].
هكذا إذ انشغل أولاد الله بالجسديات فأحبوا بنات الناس، تحولوا إلي الجسد وصاروا غير روحيين. أما ثمر هذا العمل فهو إنجاب أولاد طغاة محبين للكرامة الزمنية، إذ يقول: "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام... هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" [٤]. وكأن كل خطية تجلب أخري، أو كأن الإنسان إذ يستسلم لضعف يصير ألعوبة بين الخطايا، كل منها تلقفه لغيرها. فقد بدأ هنا بتطلع أولاد الله إلي جمال بنات الناس جسديًا، فتركوا رسالتهم الروحية وتحولوا إلي الفكر الجسداني، فصاروا جسدًا، وانجبوا العنف وحب الكرامة الزمنية عوض ثمار الروح من لطف ووداعة واتضاع!
2. نوح البار:
"ورأي الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم" [5-7].
لم يكن ممكنًا لله القدوس أن يطيق الشر الذي كثر علي الأرض، ولا يتحمل الالتقاء مع النفس التي خلقها كمسكن له أن يري تصورها شريرًا كل يوم، لهذا حزن أنه صنع الإنسان في الأرض. وحينما يقول الكتاب: "حزن" أو "تأسف قلبه" أو "ندم" ، لا نفهم هذه التعبيرات كانفعالات غضب، إنما هي لغة الكتاب الموجهة لنا نحن البشر لكي نفهم وندرك مرارة الخطية في ذاتها وعدم إمكانية الشركة بين القداسة الإلهية والفساد الإنساني. يفسر لنا القديس أغسطينوس معني تأسف الله أنه عمل الإنسان بقوله: [غضب الله ليس انفعالاً يعكر صفاء عقله إنما هو حكم خلاله تقع العقوبة علي الخطية[165]]. كما يقول: [غير المتغير (الله) يغير الأشياء وهو لا يتأسف كالإنسان علي أي شيء عمله، لأن قراره في كل شيء ثابت ومعرفته للمستقبل أكيدة، لكنه لو لم يستخدم مثل هذه التعبيرات لما أمكن إدراكه بواسطة عقول الناس المحتاجين أن يحدثهم بطريقة مألوفة لهم (بلغة تناسبهم) لأجل نفعهم، حتى ينذر المتكبر ويوقظ المستهتر ويدرب الفضولي ويرضي الإنسان المتعقل. فما كان يمكن أن يتحقق هذا إن لم ينحنِ أولاً وينزل إليهم إلي حيث هم (يحدثهم بلغتهم) وبإعلانه موت كل حيوانات الأرض والجو المحيط ليكشف عن عظم الكارثة التي كادت تقترب؛ فهو لا يهدد بإبادة الحيوانات غير العاقلة كما لو كانت قد ارتكبت خطية[166]].
هكذا يري القديس أغسطينوس في إعلان الله عن تأسفه أنه خلق الإنسان إنما هو تنازل منه ليحدثنا بلغتنا لندرك مدي ما بلغناه من عدم إمكانية الشركة مع الله مصدر حياتنا، لا بتغير قلب الله من نحونا وإنما بتغيرنا نحن واعتزالنا إياه بقبولنا الفساد الذي هو غريب عن الله. أما تهديده بإبادة الحيوانات والطيور إنما من قبيل محبته الفائقة حتى نعيد النظر من جديد في موقفنا وندرك خطورة الموقف.
العجيب أنه وسط هذه الصورة المؤلمة التي أعلنها الله من جهة بني البشر، لا يتجاهل إنسانًا واحدًا يسلك بالبر وسط جيل شرير، إذ يقول الكتاب: "وأما نوح فوجد نعمة في عيني الله" [٨]. في وسط الظلام الدامس لا يتجاهل إشراقة جميلة مهما بدت صغيرة وباهتة، وفي كل جيل يفرح الله بقديسيه ولو كانوا بقية قليلة وسط فساد عام يملأ الأرض. لقد وجد نوح نعمة في عيني الرب الذي شهد له: "كان نوح رجلاً بارًا كاملاً في أجياله" [٩]. أما قوله: "في أجياله" فتكشف أن بره وكماله ليسا مطلقين، إنما أن قورنا بما يقدمه أجياله من فساد؛ فالإنسان بره نسبي.
3. فساد الأرض:
"وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا... إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض" [11، 12].
يلاحظ أن كلمة "الأرض" تكررت كثيرًا في هذا الأصحاح خاصة في العبارة [5-13]، إذ فيها ذُكرت سبع مرات؛ ولكل تكرار الكلمة يكشف عن أن الله كان يشتاق أن يري في الحياة البشرية سمة سماوية، لكنه إذ فسد الإنسان صار أرضًا ترابية تحمل فسادًا. ولئلا نظن أن مادة الأرض قد فسدت أو ما حملته الأرض من موارد وثمار الخ... لذا أكد: "إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه علي الأرض"، وكأن فساد الإنسان هو الذي شوه المخلوقات غير العاقلة.
4. فلك نوح:
كشف الله لعبده البار نوح ما كان مزمعًا أن يفعله، إذ قال له: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي، لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم، فها أنا مهلكهم مع الأرض" [١٣]. كان يمكن لله أن يأمر نوحًا بصنع الفلك فيطيع في إيمان وثقة، لكن الله كمحب للبشر لا يشتاق أن يكون الآمر الناهي، إنما الصديق المحب الذي يحاور الإنسان ويكشف له حكمته وأسراره، وكما يقول المرتل: "سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم" (مز 25: 14). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لقد كشف له أنه وإن كان يهلكهم مع الأرض، فإن الهلاك هو ثمرة طبيعية لفساد هم اختاروه، ويظهر ذلك من قوله: "نهاية كل بشر قد أتت أمامي"، وكأنه يقول: لم أكن أود هذا لكنهم صنعوا بأنفسهم هلاكًا يجلب نهايتهم، اختاروه بمحض إرادتهم.
الآن إن كان الأشرار قد فعلوا هكذا بأنفسهم مقدمين هلاكًا حتى للأرض، فالله لا يترك أولاده يهلكون معهم، لذا قدم لنوح أمرًا بعمل فلك لخلاصه، وقد عرض لنا الكتاب المقدس قصة الفلك بدقة شديدة وفي شيء من التفصيل لما حمله الفلك من عمل رمزي يمس خلاصنا بالصليب.
أولاً- أهمية الفلك: في دراستنا للمعمودية[167] لاحظنا كيف سلطت الليتورجيات الكنيسة وأقوال الآباء الضوء علي فلك نوح بكون الطوفان رمزًا لعمل التجديد الحق للطبيعة البشرية، والفلك رمزًا للصليب الذي حمل المسيح معلقًا لأجلنا، فحمل فيه الكنيسة التي هي جسده المقدس. كان لابد من هلاك العالم القديم (الإنسان العتيق) في مياه المعمودية ليقوم العالم الجديد أو الإنسان الجديد الذي علي صورة خالقه يحمل جدة الحياة أو الحياة المقامة في المسيح يسوع (رو 6: 3، 4). كأن الطوفان وهو رمز للمعمودية يضع حدًا فاصلاً بين الحياة القديمة المظلمة والحياة الجديدة المشرقة بنور قيامة الرب يسوع. وقد جاء هذا الفكر الكنسي الآبائي امتدادًا للفكر الرسولي، إذ يقول الرسول بطرس: "وكانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح إذ كان الفلك يُبني، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء، الذي مثاله يخلصنا نحن الآن في المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1 بط 3: 20، 21).
وإذ سبق لنا عرض الفكر الليتورجي والآبائي في هذا الشأن[168] اكتفي ببعض كلمات قليلة:
v خلق الله الإنسان من التراب، وجدده بالماء، ونماه بروحه، ودربه بكلمة للتبني والخلاص، موجهًا إياه بالوصايا المقدسة حتى يحول الإنسان مولود التراب إلي كائن مقدس سماوي عند مجيئه.
القديس أكليمنضس الإسكندري[169]
v في الطوفان - أيام نوح - مات كل جسد أما نوح البار فُحفظ مع عائلته... فالإنسان الخارجي يفني، لكن الداخلي يتجدد. هذا يحدث ليس فقط في المعمودية وإنما أيضًا بالتوبة حيث تفني (شهوات) الجسد فتنمو الروح، كما يعلمنا السلطان الرسولي بالقول: "قد حكمت كأني حاضر في الذي فعل هذا هكذا... أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع" (1 كو 5: 3، 5).
القديس أمبروسيوس[170]
ثانيًا- مادة الفلك: "اصنع لنفسك فلكًا من خشب جفرٍ" [١٤]، ربما يعني خشب السرو، وقد جاء في الترجمة السبعينية: "من عرائض مربعة"، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنه يشير إلي الكنيسة[171]، أو إلي حياة القديسين الثابتة والراسخة فإن العرائض المربعة أينما حركتها تبقي واقفة[172]].
يقول القديس أمبروسيوس: [إنكم ترون الماء والخشبة والحمامة، فهل تقفون أمام السر حيارى؟ فالماء هو الذي يُغمر فيه الجسد لكي تغسل فيه كل خطية جسدية، ويُدفن فيه كل شر، والخشبة هي التي عُلق عليها الرب عندما تألم لأجلنا، والحمامة هي التي نزل الروح القدس علي هيئتها كما قرأتم في العهد الجديد، ذاك الذي يهبكم سلام النفس وهدوء الفكر، والغراب هو رمز الخطيئة التي تذهب ولا ترجع، إذ حفظ فيكم البر في الداخل والخارج[173]].
ويري العلامة أوريجانوس[174] في العرائض الخشبية المربعة التي تحمل شكلاً منتظمًا بزوايا قائمة إشارة إلي الأنبياء والرسل، خلالها تُقام مكتبة العلم الإلهي في النفس، إذ يري في الفلك رمزًا للدخول إلي أسرار معرفة الله وعلمه خلال كلمته الإلهية.
ثالثًا- أبعاد الفلك: إن كان الفلك يشير إلي التمتع بخلاص السيد المسيح المجاني والدخول في معرفة أسرار الله الفائقة خلال الصليب حتى دعاه العلامة أوريجانوس "مكتبة الكلام الإلهي" أو "مكتبة العلم الإلهي"، لذا جاءت أبعاده من طول وعرض وارتفاع تشير إلي الإيمان والمحبة والرجاء، إذ يقول: [من كان قادرًا أن يسمع كلام الرب والأمور الإلهية بالرغم من ثقل الشر وكثرة الرذائل، تاركًا عنه الأمور الفانية السريعة الزوال، فمثل هذا يبني في قلبه فلك الخلاص ويكرس في نفسه مكتبة الكلام الإلهي، فيعطى له الإيمان والمحبة والرجاء كطول وعرض وارتفاع. فالإيمان بالثالوث القدوس هو الطول الممتد إلي الخلود، والعرض هو المحبة التي تبسطها العواطف اللطيفة الرقيقة، وأما الارتفاع فهو الرجاء الذي يحمله إلي حيث الحق السماوي، إذ ونحن علي الأرض تكون "سيرتنا في السموات" (في 3: 20)[175]]. في أكثر تفصيل يقول بأن الطول 300 ذراعًا، لأن رقم 100 يشير إلي قطيع المسيح العاقل (لو 15: 4، 5) والذي يحرص السيد المسيح ألا يضيع منه خروف واحد. فإن هذا القطيع يتقدس خلال معرفته بالثالوث القدوس (100 × 3)، أو الإيمان به. أما عرض الفلك فهو 50 ذراعًا، وقد رأينا في دراستنا لسفر الخروج والعدد أن رقم 50 يشير إلي التمتع بغفران الخطايا[176]، كما كان يحدث مع اليوبيل (السنة الخمسين) حيث يتم عفو عام وشامل وتحرير للعبيد والأرض، وأيضًا كما حدث في يوم الخمسين حين حلّ الروح القدس علي التلاميذ في العلية ليهب الكنيسة طبيعة سماوية متحررة من الخطية. فالعرض يشير إلي المحبة، محبة الله الغافرة وحبنا الساتر لضعفات الآخرين. أما العلو فثلاثون ذراعًا يشير إلي ارتفاع الإنسان إلي الله كما انطلق يوسف في سن الثلاثين من السجن إلي القصر ليمسك بتدبير شئون المملكة... إذن ليُبْنَ الفلك الروحي فينا لتكون لنا المعرفة الحقة الاختبارية، طوله الإيمان الحيّ بالثالوث القدوس، وعرضه الحب الحق لله والناس، وارتفاعه الرجاء في السمويات.
ويري القديس أغسطينوس[177] في أبعاد الفلك رمزًا لجسد السيد المسيح، فالفلك أبعاده هكذا 300 × 50 × 30، والإنسان الكامل في نظر هذا القديس طوله من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ستة أضعاف عرضه من جانبيه (300: 50)، وعشرة أضعاف ارتفاعه (سُمكه) من الظهر إلي الصدر (300: 30). وكأن الفلك يشير إلي كلمة الله الذي صار جسدًا، فحملنا فيه ليعبر بنا خلال الطوفان إلي الأرض الجديدة التي له.
رابعًا- طلاء الفلك بالقار من الداخل والخارج: فكما يقول العلامة أوريجانوس: [يريدنا أن نكون قديسين من الخارج وأنقياء في الداخل في القلب، محفوظين من كل جانب، محروسين بفضيلة الزهد (القار الخارجي) والطهارة (القار في الداخل)[178]].
خامسًا- الباب الجانبي: يقول القديس أغسطينوس: [بابه الجانبي يشير بالتأكيد إلي الجرح الذي في جنب المصلوب بواسطة الحربة، خلاله يدخل القادمون إليه، ومنه فاضت الأسرار التي بها ينضم المؤمنون به إلي عضويته[179]].
سادسًا- الطوابق الثلاثة: يري القديس أغسطينوس[180] في هذه الطوابق الثلاثة صورة حية للكنيسة التي اجتمعت من كل الشعوب والأمم، إذ استكملت من نسل أبناء نوح الثلاثة: سام وحام ويافث. وربما تشير هذه الطوابق إلي الفضائل الثلاث التي أمر بها الرسول: الإيمان والرجاء والمحبة. كما يري في هذه الطوابق الثلاثة المؤمنين الذين جاءوا وبثلاث كميات متباينة من المحاصيل مائة ضعف وستين وثلاثين (مت 13: 23، مر 4: ، أو يمثل المدينة السماوية أو الكنيسة الأبدية التي تضم في عضويتها متزوجين أطهارًا وأيضًا أرامل وبتوليين أنقياء.
ويري العلامة أوريجانوس[181] في الطوابق الثلاثة إشارة إلي طرق التفسير الثلاثة: التفسير الحرفي، التفسير السلوكي أو الأخلاقي، والتفسير الروحي. فمن يقف عند التفسير الحرفي يَكُنْ كمن استقر في الطابق الأسفل مع الحيوانات أما من يرتفع إلي السلوكي ثم ينعم بالروحي فيكون كنوح رجل الله وعائلته في لقاء مع الله.
سابعًا نوح وعائلته داخل الفلك: يقول العلامة أوريجانوس: [بصعودنا خلال أدوار الفلك المختلفة نصل إلي نوح نفسه الذي يعني (نياح) أو (بر)، فنوح هو يسوع المسيح، إذ لا ينطبق علي نوح القديم قول لامك أبيه: "هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب" (تك 5: 29)... انظروا إلي ربنا يسوع المسيح الذي قيل عنه: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29)، "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من علق علي خشبة" (غلا 3: 3)، وأيضًا قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). ها أنتم ترونه بالحقيقة يهب راحة للبشرية، ويخلص الأرض من اللعنة[182]].
هذا وقد لاحظ القديس بطرس الرسول أن عدد النفوس التي خلصت خلال الفلك ثمانية (1 بط 20، 21)، هذا الرقم يشير إلى الكنيسة المختفية في صليب ربنا يسوع المسيح، أو يشير إلي طبيعتها السماوية وسمتها الجديدة خلال تمتعها بالحياة المقامة في المسيح يسوع. نحن نعلم أن رقم 8 يشير إلي الحياة ما بعد الزمن، حيث يشير رقم 7 إلي أيام الأسبوع، فكأن رقم 8 يعني تعدى حدود الزمن.